إلى العلماء وإلى العامة (6)

 

ما هو واجب العلماء تجاه الأمة في هذه الظروف ؟

 

( واجب العلماء ) ليست عبارة عاطفية يطلقها كل أحد بحسب ما يجول في نفسه، وفق مستوى علمه وثقافته واتجاهه وميله، ثمَّ يحمِّل تلك الواجبات من لا يَحْتملها أو لا يُحسن حملها !

إنما ( واجب العلماء ) تكليف شرعي نطقت به واضحات النصوص من الكتاب الكريم والسنة المطهرة على صاحبها الصلاة والسلام.

وفي ضوء ذلك نجد: 

 

واجبهم الأول : البيان الواضح وعدم كتمان الحق دون محاباة لأحد:

قال تعالى:{وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون} [سورة آل عمران: 187].

قال قتادة رحمه الله: « هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم، فمن علم علماً فليعلِّمه الناس، وإياكم وكتمان العلم، فإن كتمان العلم هَلَكة ولا يتكلفن رجل ما لا علم له به فيخرجَ من دين الله فيكون من المتكلفين ». (الدر المنثور للسيوطي 4/168).

وقال الحسن رحمه الله: « لولا الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه ». (الدر المنثور للسيوطي 4/170).

وقال الآلوسي في روح المعاني: « واستدل بالآية على وجوب إظهار العلم وحرمة كتمان شيء من أمور الدين لغرض فاسد من تسهيل على الظَّلمة وتطييب لنفوسهم واستجلاب لمسارِّهم واستجذاب لمبارِّهم ونحو ذلك وفي الخبر : « من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار » ..» (روح المعاني للآلوسي 5/188 والحديث أخرجه أحمد (7571) وأبو داود (3658) والترمذي (2649) ).

ثم قال الآلوسي: « ويؤيد الاستدلال بالآية على ما ذكر ما أخرجه ابن جرير عن أبي عبيدة قال: جاء رجل إلى قوم في المسجد وفيهم عبد الله بن مسعود فقال: إن كعباً يقرؤكم السلام ويبشركم أن هذه الآية:{وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب} ليست فيكم، فقال له عبد الله: وأنت فأقرئه السلام وأخبره أنها نزلت وهو يهودي ! وأراد ابن مسعود رضي الله عنه أن كعباً لم يعرف ما أشارت إليه وإن نزلت في أهل الكتاب » (روح المعاني للآلوسي 5/188).

وقال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في قوله تعالى {واشتروا به ثمناً قليلاً}: « والاشتراء هنا مجاز في المبادلة والثمن القليل، وهو ما يأخذونه من الرشى والجوائز من أهل الأهواء والظلم من الرؤساء والعامة على تأييد المظالم والمفاسد بالتأويلات الباطلة وتأويل كل حكم فيه ضرب على أيدي الجبابرة والظلمة بما يطلق أيديهم في ظلم الرعية من ضروب التأويلات الباطلة تحذيرات الذين يصدعون بتغيير المنكر، وهذه الآية وإن كانت في أهل الكتاب إلا أن حكمها يشمل من يرتكب مثل صنيعهم من المسلمين لاتحاد جنس الحكم والعلة فيه » ( التحرير والتنوير4/193).

والأمة الآن أحوج ما تكون إلى البيان الواضح الذي لا يتقيد بسياسات الدول، فمن العيب والنقص في العالم مثلاً أن يجهر بالحق عندما يوافق أهواء بعض الدول في وقت ما، وأن يكتم ذلك الحق نفسه إذا لم يوافق أهواءها في وقت آخر. وإذا كان البيان الواضح لعلماء الحق لا يتقيد بسياسة سلطة حاكمة فمن باب أولى أن لا يتقيد بسياسة الأحزاب أو التيارات أو الهيئات أو المنظمات أو التنظيمات أو الجماعات التي لا تملك تلك السلطة. وهذا الأمر أمسى من المسلَّمات الواضحة بل من المطالب الملحَّة لدى الجماهير والشعوب التي نهضت لتقويض أنظمة الظلم والجور والاستبداد.

لكن تلك الشعوب والجماهير يجب أن تعي وأن تُسَلِّم أيضاً أنها مطالبَة بالإذعان للحق والصواب، وأن الحق والصواب لا يذعن للجماهير الهادرة إذا خالفته !. 

البيان الواضح الذي تحتاجه الأمة من العلماء يجب أن يكون بياناً رشيداً لا يتقيد بأهواء الجماهير ورغباتهم الجامحة، يتقيد بالحق ولا يساير الأهواء، روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لا يمنعن أحدَكم مهابةُ الناس أن يتكلم بحق إذا علمه » (أخرجه أحمد وأبو يعلى وابن حبان وغيرهم). 

فواجب العلماء أن لا يحابوا الظالمين المستأثرين بالسلطة والحكم، وألا يحابوا الجماهير أيضاً بعيداً عن الحق الذي أقام الله عليه الدلائل من كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومايبنى عليهما، من الأدلة المعتبرة، وليس رأي الكثرة الجماهيرية دليل الحق والصواب فيما خالف أدلة الشرع.

قال تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} [ الأنعام :116]. 

وقال تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} [ يوسف : 103]

وقال تعالى حاكياً قول إبليس: {ولا تجد أكثرَهم شاكرين} [الأعراف :17] 

وقال تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} [ يوسف: 106].

هذا البيان من العلماء ينبغي أن يبنى على أصول واضحة صحيحة الثبوت صحيحة الدلالة ولا يبنى على المشارب الخاصة والتوجهات الضيقة. 

هذا البيان ينبغي أن يكون واضحاً بحيث لا يلتبس ولا تضطرب الأفهام فيه يخاطب الناس بأفهامهم بعيداً عن المصطلحات العلمية التي لا يفهمها إلا المختصون، والعبارات البلاغية التي تحمل عدة معان.

هذا الأمر ليس مذللاً سهلاً فكثير من الإشكالات والمعضلات التي تحتاج الأمة إلى بيانها إنما نشأت عن أسباب لا تقرها الشريعة فيعسر معرفة الحكم الشرعي فيها، ثم يعسر إيضاح مأخذه للناس، قال الإمام الحافظ ابن رجب رحمه الله : « واعلم أنَّ كثرةَ وقوع الحوادث التي لا أصل لها في الكتاب والسنة إنَّما هو مِنْ ترك الاشتغال بامتثالِ أوامر الله ورسوله، واجتنابِ نواهي الله ورسوله، فلو أنَّ من أرادَ أنْ يعمل عملاً سأل عمَّا شرع الله في ذلك العمل فامتثله، وعما نهى عنه فاجتنبه، وقعت الحوادثُ مقيدةً بالكتاب والسنة.

وإنَّما يعمل العاملُ بمقتضى رأيه وهواه ، فتقع الحوادثُ عامَّتُها مخالفةً لما شرعه الله وربما عسر ردُّها إلى الأحكام المذكورةِ في الكتاب والسنة ؛ لبعدها عنها ». (جامع العلوم والحكم لابن رجب)

وقد أوقعت محاباةُ العلماء للجماهير [في استعمالها ألفاظاً سياسية لها مدلولاتها المعينة دون إيضاح تأصيلها الشرعي] الأوساطَ الإسلامية في مشكلات ومتاهات فكرية وجدالات عقيمة لا تعرفها الثقافة الإسلامية الأصيلة.

من أمثلة ذلك: ما ظهر قبل قرن من استعمال كلمتي (العروبة) و(الإسلام) في ثنائية تاهت فيها الشعوب وانزلق إليها كلام العلماء، وذلك كله صدى لفكر قومي مخترع لم يكن له نسب في الأمة أبداً، ومازال بعض المسنين من العلماء الذين نشؤوا في تلك الأجواء الفكرية لا يستطيعون التخلص من ذكر تلك الثنائية التي لا تعرفها ثقافة المسلمين.

ومن الأمثلة الحاضرة: 

(الحرية) في الثقافة الإسلامية مصطلح فقهي يقابل (الرق) ..... وهو في الفلسفات الغربية الحديثة مصطلح في السياسة والاجتماع والأخلاق خرجت به (الماسونية) وتبنته (الثورة الفرنسية) ثم تاجرت بـ (الحرية) كل الاتجاهات السياسية المستبدة ومنها حزب البعث أيضاً ....

ثم خرجت الشعوب الهادرة والجماهير الثائرة تصرخ (حرية .. حرية) في وجه الجلادين الذين جعلوا أهل البلاد (عبيداً رقيقاً) تريد الحناجر بتلك الكلمة: (العدل) في مقابل (الظلم) ظلم الأنظمة الجائرة المستبدة، وتريد (الحق) في مقابل (الباطل) الذي انتشر في سياسات تلك الأنظمة وبرامجها الاجتماعية والثقافية والحكومية. فكان لابد لكل من يحارب الظلم والباطل من أن يُضمِّن كلامه كلمة (حرية) وإلا لم يكن كلامه ثورياً !!!!!

تدفقت عواطف كثير من (العلماء) فحجبت عقولهم عن كلماتهم، أشادوا بالحرية حتى جعلها بعضهم من (مقاصد الشريعة) !!!

فاغتنم من يرى أن (الحرية) تعني (الإباحية) فرصة يدين بها أهل الدِّين !! أليس علماء المسلمين يشيدون بالحرية ؟؟ فلماذا لا يلتزم المسلمون بتبعاتها من حرية التعري وشرب الخمور بل زواج المسلمة من الكافر وصولاً إلى حرية الجهر بالكفر أيضاً ؟! 

دخل المسلمون في جدل بيزنطي مع العَلمانيين والليبراليين واليساريين في مفهوم (الحرية) ! ومن أطرف ما قرأت من التعابير: (نريد حرية مقيدة بالكتاب والسنة) !

كان ذلك كله جرَّاء انقياد العلماء للعامة، ولقد كان أولى أن يبين علماء المسلمين لعامتهم أن كلمة (حرية) مصطلح وافد لا تنسجم تبعاته مع ديننا وعقائدنا، بل نحن طلاب (عدل) و(حق) والحق والعدل لا يدخل إلى مفهوميهما لغط أو اضطراب.

يئست الجماهير من صراخها بالحرية، فبدأ النداء للعلماء متى تعلنون (الجهاد) ؟! 

عقد بعض العلماء مؤتمراً في مصر واستجابوا للنداء، وجاءت فتوى الجهاد ولكن ........ 

أنقل هنا ما كتبه أحد الشباب في صفحته ناقلاً عن من وصفه بأنه ذو علم وإفتاء : « الجهاد فريضة لا يشك في ذلك مسلم، بل إن تعطيل الجهاد هو سبب ذلة الأمة ولا سبيل للأمة لاستعادة عزها إلا بالجهاد ولكن... عندما تقول لإنسان: الصلاة فرض فهذا يقتضي منك أن تعلمه شروطها وأركانها وكيفية القيام بها، أما أن تقول له :الصلاة فرض ثم تتركه حائراً فهذا ليس توجيهاً صحيحاً، كذلك عندما تقول: الجهاد اليوم فرض وتدعو الناس كل الناس دون تحديد للجهاد، ولا تبين لهم شروطه وأركانه، وعلى من يجب، وهل هو فرض عين أو كفاية، وتحت أية راية يكون.

كنت آمل أن يكون هناك جلسات مغلقة للنقاش والحوار بين علماء الأمة المجتمعين أمس للاتفاق على التأصيل الشرعي للمسألة، ثم تواصلاً فعّالاً مع المقاتلين على الأرض لتحديد الأولويات ومعرفة المطلوب ( المال ، الرجال، السلاح، الموقف ....( بعد ذلك كنت أرجو أن نسمع كلمات مؤصلة تأصيلاً شرعياً ملؤها النصوص التي تؤيد الأفكار بعيداً عن لغة العواطف، ثم ألم يكن حرياً باجتماع كهذا أن يحدد راية للجهاد ليجاهد الناس وراءها مع تحديد الأهداف بوضوح، ربما أكون أقل المجتمعين علماً وفضلاً ولكنني حتى الآن عاجز عن استقبال هواتف ورسائل الناس التي توالت تسألني :

هل أنزل الآن إلى سورية ؟ هل يشترط إذن الوالدين؟ تحت راية من أنضم للقتال؟ هل تعرف كتيبة تلتزم تعليمات الإسلام لتدلنا عليها ؟ أنا من البلد الفلاني هل آثم إن لم أنزل؟ هل أترك دراستي وأنا على أبواب التخرج وأنزل فوراً؟ أعيل أسرة لا معيل لها غيري فهل أنزل للجهاد؟ متى سيعقد مؤتمر يجيب عن تساؤلات الناس ويطرح القضية بشكل موضوعي؟!! ».

انتهى كلامه، وأنا أعلم بأن بعض الناس سيعتبر بعض تلك الأسئلة مما قد فرغ منه. لكني أرى أن ذلك المؤتمر لو عقد للفتوى بحرمة التنازع والتفرق، ووجوب الاجتماع، والبحث فيمن هو أهل للانضواء تحت إمرته، وحث الناس على الاجتماع عليه، وعدم الانصراف عنه إلى غيره: لكان أجدى ... 

والله تعالى أعلم.

 

فضلاً اقرأ المنشورات السابقة الأولى ، الثانية ، الثالثة ، الرابعة ، الخامسة .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين