إلى العلماء ...... وإلى العامة (1)

إن للعلماء مكانة رفيعة أنزلهم الله عزَّ وجلَّ إياها بقوله {يرفعِ اللهُ الذينَ آمنوا منكم والذينَ أوتوا العلمَ درجات} [ سورة المجادلة 11].

وقد ظهرت هذه المكانة ظهوراً واضحاً جليّاً في تاريخ الإسلام، وحياة المسلمين منذ الجيل الأول للأمة وإلى يوم الناس هذا، ولذلك آلاف من الأمثلة لا نطيل بسردها. 

إلا أن المتمعن في مسيرة التاريخ والناظر في أحوال المجتمعات يدرك ببساطة أن القرن الأخير كان حافلاً بمتغيرات عظيمة كانت لها على البشرية عامة آثار واضحة، وكانت لها آثار سلبية على المجتمعات الإسلامية خاصة، فيمكن بسهولة أن نقول: إن الفرق بين سنة 1300 والسنة الأولى للهجرة أقل من الفرق بين سنة 1434 وسنة 1300 في جوانب كثيرة دينية واجتماعية وعلمية وثقافية وسياسية واقتصادية !.

لم تصل هزائم المسلمين خلال تاريخهم الطويل إلى حدِّ تغيير البِنْيَة الثقافية للمجتمع المسلم، لكن الهزيمة الأخيرة في القرن المنصرم أجبرت المسلمين على التعامل مع بيئة ثقافية قد فُرضت عليهم فرضاً، ثم ما لبثت أن تشربتها مجتمعاتهم حتى تقبلتها أجيالهم.

لقد كانت البيئة الثقافية والفكرية التي نشأت على أنقاض البناء الإسلامي المتمثل بالكيان السياسي الأخير للمسلمين وهو الدولة العثمانية كانت بيـــئة موبوءة جداً فيها من كل أنواع الطفيلــــيات و (الميكروبات) و (الفيروسات) إضافة إلى ضعف التدابير الوقائية التي أهملت العناية بها قبل ذلك، مما مكن المرض من الفتك بجسد الأمة. وكان لظروف تلك البيئة آثار مسيئة في كل النواحي ومنها: علاقة العلماء علماء الدين بالشعوب أو (العامة).

نعم كانت للعلماء مكانة عظيمة في المجتمع الإسلامي رسمياً وشعبياً؛ لكن التغيرات السياسية القاسية وما كان يرافقها من تطورات ثقافية وفكرية كانت عوامل مهمة في إضعاف مكانة العلماء التي لم تهتز قروناً طوالاً، ولا يمكن الحديث عن إضعاف تلك المكانة للعلماء دون الحديث عن إزالة الدين وإبعاده من قوانين الدول وأنظمة الحكم فيها.

فلا يخفى على أحد ما حصل في تركية الحديثة على يد مصطفى كمال (إيتاتورك) من تنكر للدين وإقصاء أهله وقتل العلماء ومنع التعليم الديني وإلزام بترك الزي الإسلامي وصولاً إلى منع الأذان بالعربية وتحريف معانيه بالتركية، إضافة إلى فرض ثقافة غريبة عن المجتمع تجعل من علماء الدين رموز تخلف ورجعية، وتتيح للصحفيين والكتاب وأساتذة المدارس والجامعات التندر والاستهزاء والسخرية بالعلماء وكل ما يمت إليهم بصلة.

وأما في مصر بلد الجامع الأزهر فقد ألحق به جمال عبد الناصر تاء التأنيث فأخضع حلقات العلم في الجامع العريق لنظم الجامعات الحديثة، وخطا خطوات واسعة لإبعاد المجتمع عن تأثير العلماء والحركات الدينية، واشتهر عنه قوله: (( أنا أشتري أكبر عِمة بفرخة )) ! وتنامت في المجتمع المصري موجات البعد عن الدين نحو الشرق تارة ونحو الغرب تارة أخرى إلا أنها متساوية في البعد عن الدين وأهله.

وقل مثل ذلك في تونس التي كانت بلد جامع الزيتونة وعلمائه، فأمست تونس بورقيبة التي استحكم فيها العداء للدين والعلم الديني وأهله.

وأما في بلاد الشام الأرض المقدسة التي تضم بيت المقدس أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين، وإلى جواره دمشق الشام عاصمة الإسلام فقد كان نصيبها من حقد أعداء المسلمين عظيماً. 

فقدِّمت فلسطين بمقدساتها الإسلامية هدية لليهود، وهُجِّر أهلها وسكانها، وفرض على الباقين منهم جو الاحتلال وقهره وظلمه، وسرقت قضية فلسطين من أيدي المسلمين ليعبث بها اليساريون ردحاً من الزمن إلى أن خرجت الأجيال المؤمنة التي تربت في المساجد بعد النكسة، فقلبت موازين القوى وأعادت بعض الأمر إلى نصابه.

وأما لبنان فقد أرادوا لها أن تكون بؤرة التغريب والإفساد، ورمز التبعية للغرب في الشرق.

فأما سورية، فهي بلد كان علماؤه وجوه الناس ورجال المجتمع خلال تاريخه العريق، لكن النخب الناشئة المتأثرة بالفكر القومي الوافد والمعجبة في الوقت نفسه بثقافة الغرب المتقدم إضافة إلى الشخصيات المعادية للإسلام من أبناء الأقليات والطوائف المنتشرة في بلاد الشام بذرت في مجتمع بلاد الشام أواخر القرن التاسع عشر بذور الانشقاق والانفصام سقاها الاستعمار الفرنسي والبريطاني حتى أنبت ذلك أحزاباً واتجاهات لا ترى للدين شأناً ولا لأهله قيمة، بل أنشئت لمحاربته. 

فاستولى حزب البعث سنة 1963 على البلاد وبدأت سلطته بالبطش تحارب الدين وتُضيِّق على أهله وتحول دون أن يكون للعلماء أو الحركات الإسلامية أي نشاط في المجتمع, وعلى ضعف في الأمة جاء حافظ الأسد إلى رأس السلطة 1970 ثم ما لبث أن أحكم الخناق على العلماء والحركات الإسلامية وزجَّ بأهلها في السجون بعد أن قتل من قتل وشرد من شرد في أحداث الثمانينيات, فكانت أواسط الثمانينيات وأواخرها في سورية سنوات عجافاً تسلَّط حافظ الأسد فيها على المؤسسات الدينية والمدارس العلمية والجمعيات الإسلامية الخيرية بشوكة الأجهزة المخابراتية القمعية وواجهة وزارة الأوقاف الرسمية, جاء بشار الأسد بعد أبيه والجهاز الديني الرسمي يسبح بحمدهما ويتفانى أفراده في إظهار الولاء والطاعة للطاغوت وأبيه, ويتسابقون إلى تقديم القرابين بالوشاية بكل من لا يسير في تلك الوجهة بتهم شتى كلها تؤدي الى نتائج سيئة أخفها العزل من الوظيفة الدينية وليس السجن والتعذيب أشدها. 

واضح من خلال هذا السرد التاريخي السريع أن مكانة العلماء في المجتمع وعلاقتهم مع الشعوب في ظل تلك الأنظمة القمعية لكن تكون على الحالة التي عهدها الناس خلال القرون الطويلة السابقة، لقد عُزل العلماء عن كثير من مواطن التأثير في الشعوب, وحُظِر على الشعوب أن تتأثر بعلمائها وخرجت من تلك المحنة نماذج من حملة العلم وأدعيائه لم تكن في الحقيقة إلا أدوات بأيدي الطغاة تساهم في تمكنهم من رقاب الشعوب. 

رغم هذا كله كان للعلماء بقية رصيد في ذاكرة الشعوب على امتداد الأرض الإسلامية الواسعة, وكانت تلك المكانة للعلماء من القوة والرسوخ بحيث لم تستطع الأنظمة القمعية اجتثاثها بالكلية، فكان لتلك المكانة نصيب من قوله تعالى: {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون . ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار . يثبِّت الله الذين آمـــــنوا بالقول الثابت في الحياة الدنــــــــــيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشــــاء } [ إبراهيم 24 -27]. 

وعلى قدر التشريف يكون التكليف فكان على العلماء مسؤوليات تجاه الأمة يتحملونها شرعاً وتسألهم عنها الأمة طبعاً. 

وكان سؤال الأمة يتكرر عند كل محنة: أين هم العلماء ؟ أين هم العلماء ؟ وخاصة في هذه المحنة الأخيرة في بلاد الشام. 

هذا السؤال الـمُلِحّ يحتاج إلى الجواب الشافي ...

لكن لا بد أن نعرف أولاً: من الذي يَسأل ؟ ومن هم المسؤولون ؟

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين