الحجاب.. هل هو واجب؟

صدَمَتْني صورتان تداولَتْهما وسائل التواصل الاجتماعيّ مؤخّراً تحت عنوان: "سفور الأمس، وحجاب اليوم".

الصورة الأولى تعود إلى الخمسينيّات من القرن الماضي، وهي لامرأتين مُسفرتين، لكن بثوبين طويلين فضفاضين محتشِمين. وإلى جانبها صورةٌ حديثةٌ لشابّتين بحجابٍ لا يُظهر شعرةً واحدةً من رأسيهما، لكن بقميصٍ وبنطالٍ ضيّقين، لا يخفيان أُنمُلَةً من تفاصيل الصدر وزوايا الساقين.

تمشي في الطريق اليوم، وترى حولك الكثير من النساء المحجّبات، ولكنّك تشعر وأنت تنظر إلى شريحةٍ منهنّ، وكأنّ مفهوم الحجاب، السماويّ والعلميّ والعقلانيّ والمنطقيّ، ينزلق من بين أصابعك، ويتوه في تلافيف دماغك، فلا تستطيع الإمساك بتعريفٍ حقيقيٍّ له بحيث تستطيع أن تقول باطمئنان: هذا حجاب.

هل الحجاب مجرّد غطاءٍ للشعر؟ وهل كلّ محجّبةٍ جديرةٌ بالحجاب الذي يغطّي رأسها؟

تنظر إلى الحجاب على رأس إحداهنّ؛ فتشعر وكأنّها تصرخ: لا أريده.. انزعوه عن رأسي.. كيف السبيل للخلاص من هذا القيد الذي أرسُف به؟

وتنظر إلى حجابِ أخرى؛ فتشعر وكأنّها تقول مسبّحةً لله: أيّ نعمةٍ أنعمها ربّي عليّ بهذا الحجاب؟ وأيّة راحةٍ نفسيّةٍ وأمانٍ وقربٍ من الله أشعر بها وأنا ألبَسه، فيعطيني الثقة بنفسي، ويمنحني السعادة والفرح بما كتبه الله لي من رضاً، وأسبغ عليّ من استقرارٍ يطمئنني ويُشعرني بمحبّته لي، وبمحبّة الناس واحترامهم من حولي؟

من الواضح أنّ الحجاب على رأس الأُولى لا يتعدّى أن يكون عندها واجباً كريهاً، وعبئاً ثقيلاً فُرض عليها، وقيداً مرهِقاً يكبّل روحها وحياتها، ولكنّها مضطرّةٌ إلى أن تتحمّله، شاءت أم أبَت، إرضاءً للجهة التي فرضته عليها، أيّاً كانت هذه الجهة، الزوج، أو الأهل، أو المجتمع.

ومن الواضح أنّ الحجاب للثانية حقٌّ مقدّس، وهبةٌ من الله، وكنزٌ ثمينٌ لا تَسمح صاحبتُه لأحدٍ بأن ينتزعه منها، ومساعدٌ حكيمٌ لا تستغني عنه، وخريطة طريقٍ أمينةٌ ترشدها كيف تتحرّك على طريق الحياة: كيف تمشي، كيف تجلس، كيف تتكلّم، كيف تتعامل، كيف تنظر، كيف تقوم، كيف تقعد، أين تذهب، أين لا تذهب، ماذا عليها أن تفعل، وماذا عليها ألّا تفعل..

لقد اختار تعالى، حين أراد أن يصف لنا جمال الحور العين في الجنة، وتَفوُّقَهنّ على نساء الدنيا، أن يجعلهنّ محجّبات، حجاباً هو لهنّ، ولأزواجهنّ معهنّ أيضاً، "خيرٌ من الدنيا وما فيها"، لما يضفيه عليهنّ من جاذبيّةٍ وروعةٍ وجمال:

- عن أنسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قال: "لَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ لأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا أي أضاءتِ المسافةَ بينها وبين الأرض وَلَمَلأَتْهُ رِيحاً أي عِطراً ، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا أي خِمارُها خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا". [رواه البخاري]

الحجاب شأنه شأن الصلاة. منّا من يؤدّيها على أنّها مجرّد واجبٍ لا بدّ من أدائه، وعبءٍ يحمله على كتفيه؛ لا بدّ من إنجازه والتخلّص منه بأسرع وقت والعودة بعده إلى أوحال الحياة.

إنّه يبدأ الصلاة وعقلُه يَعُدّ الدقائق والثواني: متى سأنتهي منها؟ وهو يقرأ فيها ما يجب أن يَقرأ؛ من غير أن يعي ما يردّد، أو يستوعب ما يقول، وما يلبث أن "يخطفها" في دقيقتين أو ثلاثٍ ولسانُ حاله يقول: هه.. الحمد لله، لقد انتهيت منها وأزحتُها عن كاهلي!

ما الذي يمكن أن تتركه صلاته هذه من أثرٍ في نفسه، أو تغيّر من معالم أخلاقه وتعاملاته، أو تضيفه إلى صحائف حسابه أو موازينه عند الله؟

- عن أبي هريرةَ قال: قالَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): "إنّ الرجلَ لَيُصَلّي سِتّين سنةً وما تُقبل له صلاةٌ، لعلّه يُتِمُّ الرُّكوعَ ولا يُتِمُّ السُّجودَ، ويُتِمُّ السُّجودَ ولا يُتِمُّ الرُّكوع". [رواه المنذري في الترغيب]

ومِنّا من يُقبِل على صلاته إقبالَه على لقاء حبيبٍ، وأيّ حبيبٍ، وأيّة جلسةٍ تنتظره الآن؛ وهو يوشك أن يلقي بهمومه وأحزانه مِن على كتفيه المتعَبين بين يدَي خالق الخَلق وأرحم الراحمين، فيطلب منه المساعدة، ويسأله العون في رحلة حياته اليوميّة: (وإيّاك نستعين)، ثمّ يشعر وكأنّه يرتفع عن هذه الأرض وهو يُلقي عليه تحيّته الخاصّة جدّاً: (التحيّاتُ لله والصلواتُ والطيّبات)، تتلوها تحيّةٌ أخرى خاصّةٌ على رسوله الأمين: (السلامُ عليك أيّها النبيُّ ورحمةُ اللهِ وبركاتُه)، ثمّ يستنزل الطمأنينة والسلام على نفسه وعلى كلّ عباد الله الصالحين في الأرض والسماء، وما أكثرهم وما أعظمهم، وهو يردّد: (السلامُ علينا وعلى عبادِ الله الصالحين)، ثمّ يرتجف قلبُه وهو يضع يده بيد الله، فيستشعر أمانها ودفأها وروعتها حين يسلّمه رسالةً خاصّةً إلى نبيّه (ص) يطلب منه تعالى بخشوعٍ أن يصلّي عليه: (اللهمّ صلّ على محمّد)، تتلوها رسائل مشابهةٌ إلى آل بيته الكرام: (وعلى آل محمّد)، ثمّ تتلوها رسالةٌ أخرى شبيهةٌ إلى أبي الأنبياء إبراهيم: (كما صلّيتَ على إبراهيم)، تتلوها رسائل مشابهةٌ إلى آل إبراهيم: (وعلى آل إبراهيم).. هكذا رسائل متلاحقةٌ متتابعةٌ في كلماتٍ قليلة، ما يلبث أن يتسلّم عقبها مباشرة، وقبل أن يستردّ يده من يد الله، إجاباتٍ كريمةً متتابعةً من كلّ هؤلاء، من شأنها أن تسبغ عليه الطمأنينة والأمان، وتغسل جسده وروحه بالرضا والعافية والسلام.. وأخيراً؛ يختتم صلاته ولسانُ حاله يقول: الحمد لله، أشعر الآن وكأنّني ولدتُ من جديد!

إنّ حجاباً على رأس امرأةٍ هو رمزٌ لشخصيّتها. ومن السهل عليك أن تميّز حقيقة هذه المرأة من نوع الحجاب على رأسها، ومن خلال المعادلة التي أقامتها بينها وبينه: هل أرادته لنفسها شرفاً وحقّاً عزيزاً لا تفرّط به، أم أريدَ لها واجباً ثقيلاً لا تعرف كيف تتخلّص منه؟

إن رأيت حجابها يتقلّص لينكشف عن بعض شعرها؛ فلك أن تقرأ ذلك على أنّه تقلّصٌ لقيمة الحجاب ومكانته في نفسها، وانكماشٌ لتأثيره، كما ينبغي أن يكون، في شخصيّتها، وتفكيرها، وسلوكها، وإيمانها. إنّه ليس أكثر من "واجب".

ولو رأيته يتناقض تناقضاً صارخاً مع ما تحته، من تبرّجٍ، وتزيّنٍ، وتعطّرٍ، وضيق ثيابٍ، وحركاتٍ، ونظراتٍ.. فلك أن تقرأ أنّ هذا الحجاب ليس لهذه الرأس. إنّه ليس أكثر من "واجب".

ولو رأيته يغطّي كلّ شعرها، أو ربّما أجزاءً منه لا أكثر، ولكنّه يكشف عن عنقها، وربّما عن أعلى صدرها (جيبها)، فلك أن تقرأ ذلك على أنّ صاحبته شجرةٌ متعثّرةٌ تحمل على رأسها ثمرةً غير ناضجة، وأنّ جذع هذه الشجرة لم يبلغ أشُدّه بعد.

أقول دائماً لمن تسألني عن الحجاب: أنت شجرة، وإذا أردتِ ألّا تشوّهي صورة الحجاب في أعين الناس؛ فابدئي أوّلاً بالعناية بالجذع والأغصان: الخُلق، والتعامل، وفهم معاني العبادات ومراميها الحقيقيّة، وعلاقتك بالله، وعلاقتك بالناس، وستَنبُت على هذه الشجرة بعد ذلك، تلقائيّاً، ومن غير أن يرغمك أحد، الزهرةُ والثمرة المرجوّة الناضجة: الحجاب. إنّه هو الذي سيذكّركِ بعدها بما يليق بالمحجّبة وبما لا يليق: افعلي هذا فأنت محجّبة، لا تفعلي هذا فإنّه لا يليق بمحجّبة، البسي هذا فأنت محجّبة، لا تلبسي هذا فإنّه ليس لمحجّبة، لا تضعي هذه الأصبغة فإنّها لا تليق بمحجّبة، لا تدخلي هذا المكان فإنّه لا يَصلُح لمحجّبة..

هناك معادلةٌ إلهيّةٌ عجيبةٌ بين العبادات والأخلاق لا بدّ أن نقيمها في نفوسنا ونستوعبها بوضوح. لو سألتني ماذا أعلّم ولدي أوّلاً: هل أعلّمه كيف يكون صادقاً؟ أم أعلّمه كيف يصلّي؟ لأجبتك من غير تردّد: بل علّمه كيف يصلّي أوّلاً..

عندما تصلّي، فتردّد كلماتك ببّغائيّاً وأنت لا تعي، أو لا تعني، أو لا تستوعب ما تقول، فلا تقيم المعادلة في حياتك بين ما تقوله وما تفعله، فأنت تدرّب نفسك على الرياء، وعلى الكذب، وعلى الممالأة والتناقض والنفاق.

وعندما تصلّي وأنت تعي وتعني ما تقول، فتقيم المعادلة بين قولِك وبين فعلِك، فأنت تدرّب نفسك على الاستقامة، وعلى الأمانة، وعلى المثابرة، وعلى المنطق، وعلى الصدق، مع نفسك ومع الآخرين ومع الله.

وأنتِ عندما تضعين الحجاب على رأسك، كما يجب أن يكون الحجاب، لتقيمي المعادلة بينه وبين لباسك، كما يجب أن يكون اللباس، فإنّك تدرّبين نفسك على إقامة المعادلة بينه وبين خريطة حياتك: الاستقامة، الأمانة، المثابرة، المنطق، الاحترام، الصدق، الصدق مع نفسك ومع الآخرين ومع الله.

وعندما تخفقين في إقامة هذه المعادلة بين حجابك وبين لباسك، وتصرّفاتك، وتعاملاتك، وتحرّكاتك، ومشيتك، وكلامك، ونظراتك.. فأنت تدرّبين نفسك على الرياء، وعلى الكذب، وعلى الوقاحة، وعلى التناقض والممالأة والنفاق.

إنّ بإمكانك أن تكوني عضواً كاملاً وفاعلاً في المجتمع من غير الإخلال بشروط الحجاب، ومن غير الإساءة إلى سمعة الحجاب والمحجّبات، فلا يقال إذا رأوك: انظروا إلى ما تقوله، أو تفعله، أو تَلبَسه، أو تدخل إليه تلك المحجّبة، أو.. أو..

الحجاب عنوان صاحبته، فإذا تناقض عنوانك مع ما تحته كنت متناقضةً مع نفسك، تُظهرين عكس ما تُبطنين، فيَرى فيك الرجلُ الباحث عن زوجةٍ؛ امرأةً ذات وجهين، فينفر منك إلى غيرك. وإذا انسجم العنوان مع ما تحته؛ فسيجد أنّه يقف أمام امرأةٍ صادقةٍ، واضحةٍ، سليمة التفكير، وجديرةٍ بالثقة، والشراكة، والمحبّة، والاستئمان.

هذا الانسجام مع النفس، ومع الحجاب، هو الذي يقرّبك من الرجل، ومن الناس، ومن الله، وإلّا فأنت تَنْحرين نفسك، وتَنحرين مستقبلك، وتنحرين معك الحجاب، اجتماعيّاً، وأخلاقيّاً، ودينيّاً.

حتّى "القواعد من النساء"، كما سمّاهن القرآن الكريم، وقد بلغن سنّ انقطاع الحيض، وتجاوزن مرحلة الحمل والولادة، وسمح الله لهنّ بالتخفّف من بعض شروط الحجاب، لأنّهنّ لم يَعُدنَ موضع إثارةٍ أو فتنةٍ للرجال، فإنّ الله يفضّل لهنّ، مع ذلك، أن "يَستَعفِفنَ" بالحفاظ على حجابهنّ، مثلهنّ كمثل بقيّة النساء:

{ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [النور: 60]

 إنّ من شأن الحجاب أن يُسبغ على المرأة الكبيرة ثوباً من العفّة والحياء والالتزام. إنّه، وهي في هذه السنّ المتقدّمة، سيمنحها في عيون أهلها وأبنائها وأحفادها، وفي عينَي نفسها، وفي عيون الناس، المزيد من الهيبة، والوقار، والحكمة، والاحترام، ممّا يليق بها وبسنّها، ويحافظ على موقعها الجليل والهامّ من الأسرة والمجتمع.

إذا كان لا مفرّ للمرأة من التقدّم في العمر، ومن تجاعيد السنين من أن تكسو وجهها، ومن فقدانها المحتوم لمعالم جاذبيّتها للرجال، فلتحافظ بحجابها على جاذبيّتها الجديدة التي لا يهبها الله إلّا لمن هي في هذه المرحلة المميّزة من العمر، كامرأةٍ محترمةٍ وقورٍ، أو كأمٍّ ناصحةٍ حكيمة، أو كجدّةٍ بهيّة الطلعة، تذكّرنا رؤيتها واحتشامها وحجابها وهيبتها بالله وبالجنّة.

الحجاب يعني الأنوثة، وإذا كان لا بدّ للعمر من أن يستلب من أنوثتك سحرَ شبابها، فلا تستلبي أنتِ منها سحرَ حجابها.

تأكّدي دائماً أنّ حجابك "حقٌّ" لا يمكن أن تسمحي بالتفريط به وبشروطه، أيّاً كانت الضغوط أو المغريات من حولك، وأنّه ليس مجرّد "واجبٍ" ممقوتٍ لا تعرفين كيف تتخلّصين من قيوده ومواصفاته وأحكامه.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين