قبول الآخر

من المصطلحات التي اتخذها العلمانيون والليبراليون شعاراً لهم ما سمّوه (قبول الآخر) وهم يعنون به نظرياً تقبّل كلّ البشر بعقائدهم وأفكارهم وأعراقهم بحيث يستوون جميعاً فلا يتميز أحد عن أحد إلا بمقدار ما يقدّم من خير للبشرية أو ما يدرأ عنها من شر..

وهذا المصطلح بهذا المعنَى بَرّاقٌ جميلٌ يزدان بمعاني التسامح والمحبّة والإنسانية فيأخذ بألباب الذين لا يعرفون ما وراء الأكمة ولا يدرون إلى أين يُسارُ بهم..

فهل يا ترى هذه الأفكار الطوباوية تحققت في مجتمع من المجتمعات أو رأينا مصداقها في شعب من الشعوب؟.. أم هي خيالات وأوهام لا تتجاوز أذهان القائلين بها أو عقول المغترّين ببهرجها؟.

المروجون لها يجيبون عن هذا السؤال بنعم.. لقد تحققت في هذا الغرب المتقدم الذي لم يحرز قصب السبق إلا بهذه الأفكار..

أما من يؤمن بأنه على الحق وسواه على الباطل (كالمسلمين مثلاً) فهذا متخلف رجعيّ قد تجاوزه عصر العلم والنور.. وهو ما زال يخبط في دياجير الظلام وأودية الجهل.

ونحن نقول إن هذه الأفكار ما هي إلا مغالطات أنشأها دهاقنة الإعلام الغربي فتلقفها من بني جلدتنا من تلقفها عن غفلة وحسن نية أو عن معرفة وسوء طوية.. وعند التحقيق يتبين لكلّ من أوتي نعمة الفهم، واستنار بنبراس العلم، أنها أقوال ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب..

ذلك أن منشئيها ومروجيها على الصعيد النظري هم من أشد مخالفيها في الواقع العملي..

ولا حاجة بنا إلى بسط القول فيما يفعله ذلكم الغرب (المتحضر) في شعوب الأرض الأخرى وما يفرضه عليها من ظلم وجور.. فبينما يتشدق بقيم الحضارة واحترام حقوق الإنسان إذا بنا نراه لا يعطي الشعوب المقهورة بعض حقوق الحيوان وكأنه لا يعتبرهم من جنس البشر.. فالأقوال تكذبها الأفعال والأفكار الحالمة، تنقضها الشواهد القائمة , والأوهام التي يبيعونها لنا تجعلها الحقائق اثراً بعد عين..

وما موقف هذا الغرب (المتحضر) ممّا يجري في غزة من أنهار دماء المسلمين اليوم.. وما جرى من دمائهم في السودان أمس.. وفي سورية قبل أمس.. إلا دليلاً على ما نقول.. فهم يغضون الطرف عن الجريمة ما دام المقتول مسلماً.. ويناولون القاتل السلاح ثم يتباكون على وسائل الإعلام مظهرين تعاطفهم البارد مع الضحية ذراً للرماد في العيون..

والحقيقة التي لا مراء فيها أن الإسلام وحده هو الذي أعطى الإنسان حقوقه الواقعية التي ترسي قواعد العدل والسلام بين البشر.. فقد قال عمر رضي الله عنه قبل ميثاق حقوق الإنسان بأربعة عشر قرناً ("أبو بكرٍ سيِّدُنا، وأعتَق سيِّدَنا"، يعني بلالًا الحبشي الأسود) ولم يعرف التاريخ تطبيقاً عملياً لقيم العدل والمساواة كما عرفها في ظل الإسلام.. وما عرف ظلماً وجوراً وهدراً لقيمة الإنسان كما عرفها في ظلّ هذه الحضارة المزعومة التي امتصت دماء الشعوب المقهورة وامتهنت كرامتها وسلبتها كل معاني الإنسانية..

ولأنهم يعرفون هذه الحقائق فهم يشنون حربهم التي لا هوادة فيها على الإسلام.. وإذا كانت هذه الحرب سابقاً تحاك في الخفاء فقد أصبحت الآن تُدار في العلن فقد انكشفت الأقنعة واستبان خبيؤها..

فلم يعد قَبول الآخر يشمل المسلمين.. فكلّ آخر مقبول إلا المسلم وكلّ حزبٍ يحقّ له المشاركة في السياسة إلا حزباً ينادي بالإسلام ومن حق المرأة أن تلبس ما شاءت ما عدا الحجاب..( وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ۖ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)..

ورغم كل هذا ما زال بيننا ممن يدعي الثقافة والتنوّر مستمسكاً بمثل هذه الأصنام الفكرية لأنها صادفت هوىً في نفسه للتفلت من الدين.. فلم يعد قبول الآخر عند هؤلاء يعني إلا أن يتخلى المسلم عن دينه والمسلمة عن حجابها فهم يدافعون عن هذه الأفكار دفاع المستميت ليكونوا جنوداً متطوعين في جيش الغزو الفكري الذي يخطط لابتلاع الأمة كلها مؤمنها وكافرها ومسلمها وعلمانيها وجنرالات تلكم الحرب وقادة جيوشها ينظرون إليهم ساخرين ليأكلوهم مع من يأكلون عندما يحين دورهم..

* * *

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين