إلى العلماء وإلى العامة (2)

 

أين العلماء ؟! .... مَن الذي يسأل ؟ :

 

مما يُعلم أن من الشعوب من يكون نسيج سكانه واحداً أو متقارباً كالشعب الليبي مثلاً، ولا أعني بذلك المكونات العرقية فليس لها في الإسلام اعتبار، وإنما المكونات العقدية والفكرية. ومن الشعوب ما تتعدد فيه تلك المكونات وتتعقد فيه الصورة التي يراها بعضهم (لوحة فسيفساء أو موزاييك) جميلة، وأراها ندوباً وجراحاً في جسد الأمة.

 

فالشعب السوري يضم مثلاً: غير المسلمين، ويضم عدة طوائف خارجة عن الإسلام، وسائره ممن ينتسب إلى الإسلام يوجد فيهم نسبة كبيرة متأثرة بالأفكار الوافدة شرقية أو غربية مما يكون مجموعه شطر المجتمع.

 

- غير المسلمين: لن يسأل واحد منهم أين العلماء.

- الخارجون عن الإسلام: هم يحاربون العلماء.

- المنتسبون إلى الإسلام ممن يخالف الإسلام: منهم من لا يعنيه أمر العلماء شأنَ من قبلَه، ومن يسأل منهم أين العلماء فإنما يسأل استهزاءًا أو تبكيتاً أو تشفياً....

أولئك جميعاً يمكن أن نقول إنهم يشكلون شطر المجتمع.

 

وأما الشطر الآخر من المجتمع، الذي ينظر إلى العلماء وينتظر منهم مسؤولياتهم، فهم على اتجاهات متعددة أفرزتها معاناة الأمة خلال ما يزيد على قرن.

هذا الشطر من المجتمع يمكن أن نقسمه إلى ثلاثة أقسام غير متساوية:

القسم الأول: 

يتألف من أفراد الاتجاهات الفكرية الدينية، والأحزاب السياسية الإسلامية التي ظهرت أو تنامت في العصر الأخير، وتلك الاتجاهات والأحزاب تعتقد أو ترى نتيجة ظروف وعوامل متعددة أن المناهج العقدية أو العلمية أو السلوكية التي عليها عامة العلماء في البلاد الإسلامية هي إما مناهج ضالة أو غير صحيحة أو فاسدة أو منحرفة أو متخلفة أو لا تنهض بالمسلمين في هذا العصر، لذلك كثر في أدبيات هذه الاتجاهات والأحزاب التعريض بالعلماء [الذين لا يوافقونهم على وجهاتهم] وإجمال القول في نقدهم وتحميلهم مسؤولية تخلف الأمة، وكثر في مجالسها الطعن بالأشخاص وتجريح الذوات والوقيعة في المدارس والجماعات العلمية بحق وبدون حق وبأدب وبقلة أدب ...

ولما قامت الثورات في العالم العربي واتخذ بعض العلماء مواقف محايدة منها، أو مواقف ضدها: وجدت تلك الاتجاهات والأحزاب ذلك فرصة ثمينة لتصفية الحسابات والتصريح بدل التلميح بما كانت تتداوله من التجريح، فاتخذت من مواقف بعض العلماء السلبية تجاه الثورات حجةً لتتناول المناهج العلمية التي ينتمي إليها أولئك العلماء بالطعن والتسفيه والتضليل، ومطيةً للهجوم على المناهج الفكرية والعلمية التي يناوؤنها، وسرى ذلك الأمر على ألسنتهم وفي أقلامهم، وكثر من هؤلاء كلام السوء في العلماء كافة ولو كانوا ممن يناصر الثورات أو يقود بعض فصائلها طالما كانوا على منهج يخالف منهجهم . ومثل هؤلاء لا يرضون من العلماء أي موقف أو تصرف أو تصريح لأن أساس نظرتهم إليهم ليس مستنداً إلى مجرد موقفهم من الثورات وإنما يرجع إلى التباين الفكري والسياسي بينهم وبين العلماء.

المثال الصريح في ذلك : موقف البوطي من انتقاد الثورة السورية أولاً، ومن تصريحاته الفجة في موالاة الظالمين ثانياً ... فرح بذلك كثيرون، ولم يحزنوا، بل كان ذلك عندهم فرصة ذهبية ثمينة لا تعوض للانقضاض على التصوف الذي يصفون البوطي به، وعلى الأشعرية التي يُعَدُّ من أعلامها المعاصرين، وعلى المذاهب الفقهية التي ينافح عنها ... فأتت كتاباتهم وتعبيراتهم على وجه يُفهم منه أن المذاهب والتصوف هي التي أنشأت هذه الأنظمة الظالمة و رعت وجودها ، وأن التسلف آت لمحوها هي والأنظمة الظالمة سواءً !! بأسلوب ينم تارة عن جهل مطبق بحركة التاريخ وأعلام الرجال وحقائق الوقائع أو عن كذب بواح تارة أخرى. 

هذا الزهو والتيه لم يطل كثيراً فقد كان الموقف المشين المخزي لحزب النور [السلفي] في مصر بزعامة ياسر برهامي مجهضاً لتلك النظرية التي يشيع أصحابها أنهم الممثلون الحصريون لأهل السنة والسلف الصالح، وجاءت خطبة أحدهم على منبر المسجد الحرام وهو يطعن بالمشروع الإسلامي في مصر بألفاظ مسفة لتدفن تحت التراب تلك النظرية الباطلة. 

 

القسم الثاني: 

وأفراده ممن كانوا يسيرون خلف علماء مخصوصين أو مدارس دينية معينة، وكل من أولئك الأفراد يرى في شيخه أو العالم الذي يستمع إليه العالم الذي لا يبارى والفقيه الذي لا يجارى والإمام الذي لا يمارى، ويضفي على شيخه من هالة القدسية ما يعده به الفرد الأوحد والعلامة الأمجد، ويرى في المدرسة الدينية التي يتبعها نموذج الإسلام كله ! لكنْ عندما قامت الثورات انتظر كثير من هؤلاء شيوخهم أن يكونوا قادة الثورات، وأن يكونوا في طليعة المظاهرات، وأن يؤسسوا المعسكرات، فلم يجدوا من ذلك شيئاً، فاهتزت في نفوسهم مكانة متبوعيهم والصورة المشرقة التي تحملها أذهانهم ... فمنهم من أدت به ردود الأفعال إلى النقيض، فأبدل ثناءه وانتماءه ذماً وطعناً وتبرؤاً من أولئك العلماء وتلك المدارس بألفاظ نابية وقحة لم يستعمل الصحابة رضي الله عنهم مثلها مع أئمة الكفر من قريش !

 ومنهم من بقي متفائلاً لا يقطع الأمل من أن يكون للعلماء المخصوصين يقظة أو وثبة تعوِّض ما فات من زمن الانتظار. 

هؤلاء لا يقتنعون بموقف أي عالم ما لم يكن الموقف من عالِمهم الخاص الذي يعتقدون رجحانه دون سائر العلماء، لذلك لا يملون من تكرار: أين العلماء .. ولو قام كثير من العلماء بما ينتظر منهم حتى يَروا عالمهم المخصوص قد اتخذ موقفاً يرضونه!

أعرف كثيراً من الشباب، العلماء عندهم: علماء جامع زيد لا يقنعون بموقف عالم غيرهم، ومنهم من لا يعرف غيرهم أصلاً لا باسمه ولا بمنظره ... وأعرف شباباً آخرين: لا يذكرون إلا حساماً وعبد الفتاح وكأن الحياة العلمية في دمشق لم تعش إلا في كنفهما !! 

 

وأما القسم الثالث: 

فهم سواد هذا الشطر من المجتمع، هؤلاء هم عامة الناس، وهم على الفطرة يحبون الحق وتنفر قلوبهم من الباطل إلا أن يُزيَّن لهم، لكنهم تبع لمن يؤثر فيهم إن كان محقاً كانوا مثله وإن كان مبطلاً كانوا كذلك، فمنهم من يعجبه ذكر الدليل والبرهان، ومنهم من يؤثر فيه ارتفاع الصوت والدعاية والإعلام .

 هؤلاء أيضاً ينتظرون العلماء ويطلبون نجدتهم ويأملون النصر على أيديهم. لكن هؤلاء ليس لهم رأي ولا قلم. يسهل العبث بعواطفهم واللعب بعقولهم مما يسهل انقيادهم ليكثروا سواد أحد القسمين قبلهم !!

 وقد يشذ عن هذه القاعدة أفراد ليست لهم منابر يصيحون عليها، وإنما يعانون بصمت ويتجرعون آلامهم دون ضجيج يجأرون إلى الله بالدعاء تطمئن نفوسهم إلى قوله تعالى (وما النصر إلا من عند الله). 

 

بهذه الإلمامة السريعة عرفنا أصناف من يسأل: أين هم العلماء ؟ فمن هم المسؤولون ؟

[ أرجو قراءة المنشور الذي قبله هنا وقراءة المنشور الذي يليه إن شاء الله ]

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين