من أدب القصة في القرآن الكريم 8


(8)


ورسول الله عليه الصلاة والسلام يقول : (إن الله يتقبل صدقة أحدكم بيمينه فيربّيها له وينميها حتى تكون التمرة مثل الجبل) .
فإذا أعرض المرء ـ كما أعرض أصحاب تلك الحديقة ـ انحسر سلطان مشيئة الله عن ضميره ،وخلفه فيه لفوره روح من الشر يزين الباطل ، ويمحق البركة ، ويرسل الأعمال شائهة خبيثة ، تجردت من روح الخير وحلل الزينة ، وهما حقيقة رزق الله في كل ما نكسب ونعمل ، فلو أن مطلعاً أراد تصويراً لحالها في سوق الله، لما وجد أصدق من حال تلك الجنة التي طاف عليها طائف من ربك ، فمحق فيها حقيقة الرزق ، وروح الرخاء ، فغدت لا يرى فيها الناس إلا أشجاراً مسفوعة ملفوحة عارية من نعمة الحياة والثمر ، وكم في الحادثات من عبر تشهد فيها البصائر تأويل ما عند الله من حقائق .
وتمضي القصة فتقص من نبأ أصحاب تلك الجنة أنهم غدوا مع الفجر على ما تواعدوا أو تقاسموا عليه بالأمس ، فمضوا إلى حديقتهم ليقطفوا ثمرها وهم لا يدرون ما صنع بها الله تعالى ، فهمس شيطان الشر في نفوسهم ـ والشيطان إنما يعد بالفقر ويغري بالشر والقطيعة ـ فقال بعضهم : حذار أن يدخل الفقراء علينا جنتنا اليوم أو ينال شيئاً من ثمرها ، وخافتوا من  أصواتهم حذر أن يسمعهم أحد أو يفطن إليهم مسكين ، ونص النظم الكريم هو : [فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا اليَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ{القلم:24} .
وإذا كان نص القرآن في مشيئة الله تعالى يحمل من دقائق المعنى أبعد مما يتبادر للذهن لأول مرة ، فكذلك النص هنا ، وكذلك النص في كل آية . ولن نبلغ بعض دقائق تلك الأسرار إلا إذا استظهرنا مراد الخالق جل شأنه ، بعيد المرامي، زاخر المعاني  وما يبدو  منه في ظاهر لفظه إنما هو مدخله الدال على ما وراءه من أسرارالحكمة والعلم .
 فقوله تعالى :[ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا اليَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ].ليس مجرد حكاية لما قالوا ، بل فيه إشارة إلى ضعف الإنسان وجهله حين تغدو مداركه محدودة بحدود الزمان والمكان ، وواضح أن النص الكريم يضرب ذلك مثلاً للإنسان حين يحيا في بعض وجوده ، أي يواجه الحياة ببعض مواهبه ، فلا يكون نصيبه من حقائقها إلا القدر الذي تسمح به السدود والقيود ، ويخفى عنه وراء ذلك بقدر ما عطَّل من مواهبه .
 وقد أسلفنا في هذا المقال ما قرر الحق سبحانه من أن العلم الذي يسمح لنا به عالم الحدود والأسباب المحسَّة وظاهر الحياة الدنيا ، هو علم كالجهل ، إذا جعله المرء أساس تقديره وتدبيره ، فقد أسس على غير شيء، وكان حاله كحال أصحاب الجنة في فساد التقدير لعاقبة موهومة .
وإذا فتلك دعوة للإنسان تدعوه أن يحقق وجوده كله، وأن يحيا في مواهبه جميعاً لتبدو له حقائق الحياة كلها فلا ينتكس له عمل ولا تتخلف عنه عاقبة .
ذلك وجه ، وثمة وجه آخر ، هو أن الإنسان ينطوي على عالم زاخر بالطاقات الفاعلة المباركة ، فإذا هو حقق وجوده كله ، فقد أتاح لتلك الطاقات ، أن تنطلق من تحت حجاب البشرية الضاغط لتؤدي إلى الحياة أمانتها التي أرادها الله سبحانه.
وقد ورد في وصف تلك الطاقات بأن الطاقات الجبارة، أو الصاعدة،أو البنَّاءة، ونحو ذلك ممَّا يتبادر منه إلى بعض الأذهان أنها طاقات لبناء المصانع ، وتشييد الصروح، وإقامة المؤسسات ونحوها وهذا وهم ... فإن تلك الطاقات قيم روحية محضة ، يبتدع منها المرء مُثل الحق والخير، وينسج منها على علائقه الاجتماعية الفاضلة .
فإذا كان تحقيق الوجود الكامن للمرء يكفل له كل إمكانات التقدير الصحيح لأعماله فهو أيضاً يمد وجدانه بطاقات من الخير والحق ليحققها مثلاً في الخير والفضيلة والحب والمواساة والبر و الإيثار وسائر ما تنتظم به العلاقات الاجتماعية الفاضلة .
 
وذلك يكشف لنا في الآية الكريمة عن آفة من صفات أصحاب الجنة إذ قالوا :[ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا اليَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ{القلم:24} . فإذا كان ذلك في ظاهره جحوداً  للحق المشروع في المال ، فهو في باطنه روح حاقد شرير لا يستقيم عليه نظام أي مجتمع .
الحلقة السابقة هــــنا
 
*     *     *


 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين