من أدب القصة في القرآن الكريم (7)
 
 
 
(3)
وإذا كان قصص القرآن هو المثال التطبيقي لمبادئه وتقريراته ، لا جرم كان دعوة وتوجيهاً للإنسان أن يحيا في حقيقة نفسه على ما يدعوه إليه القرآن ... وإنا لنرى في قصة أصحاب الجنة في سورة القلم مثلاً نموذجاً تطبيقياً لذلك، فهم فتية ورثوا حديقة ذات غلة وافرة ، وفاكهة كثيرة ، ففرحوا بها ، دون أن يشهدوا فضل الله أي حيوابعقولهم  ومشاعرهم في ظاهرها ولم يحيوا في حقيقتها التي هي محض رحمة الله وفضله ، فدخلهم بذلك من الآفات ما قصه الله تعالى، وكانوا به مثلاً في الحرمان وانتكاس الحال، ذلك أنهم قرروا أن يجنوا ثمرها مع الفجر [إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ] {القلم:18} . والاستثناء هنا أن يعقب المرء على قراره فيرده إلى مشيئة الله التي  تهب لكل عمل بركته، وتبث فيه سر المضاعفة والنمو، ولكنهم لم يفعلوا.[فَطَافَ عَلَيْهَا ـ أي الحديقة ـ طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ] {القلم:20} .
ومن سذاجة الفهم أن لانشهد في عبره ذلك الحادث إلا أنه تدبير انتقم به الله من أصحاب تلك الحديقة لأنهم لم يقولوا: إن شاء الله . فإن تلك العقوبة ليست نتيجة محتومة في كل أمر لا يشهد فيه صاحبه مشيئة الله . نعم قد يريد الله بمثل ذلك أن يكون تذكرة ترد للمرء إيمانه به جل شأنه، لكنه ليس هو السنة المقدورة التي تتكرر. ولابد مع كل فرد من أفراد الناس في كل عمل لا يشهد فيه مشيئته سبحانه...
إنما لباب  العبرة أن مشيئة الله هي مشيئة الخير والحق ، فإذا شهدها المرء في ضميره قام لها سلطان غالب على وعيه و إرادته ، وسائر وجدانه ونيته ، فلا يخطر بذلك الضمير إلا ما هو خير وحق ... ويكون لذلك من الآثار أنه يهب لعمل المرء روحاً يتضمن خصائص الحياة وسر البركة والنمو...
وحقيقة أي عمل ليست هي صورته التي تؤدى على أعين الناس في عالم الحس إنما حقيقته هي روحه التي تسكنه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إنما الأعمال بالنيات) ، ولا شك أن مشيئة الله تعالى لا تبعث في ضمير المؤمن سوى نيات الخير وعزائم الحق والرشد ، فأيما عمل بعثته تلك المشيئة فهو في الحق كائن حي مبارك يحيا من حيث لا نشعر في نمو وبركة وتكاثر على حال لا يعلم كنهها إلا الله [إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ] {فاطر:10} .
الحلقة السابقة هـــنا
 
*   *    *


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين