من أدب القصة في القرآن الكريم (6)
 
 
(2)
دعانا إليه القرآن الكريم بمثل قوله  تعالى :[وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ] {الرُّوم:7} .
فالحق سبحانه ينعي على أكثر الناس أنهم لا يعلمون؛ لأنهم يحيون في ظاهر من الحياة الدنيا، فلا يهتمون إلا به، ولا يعلمون إلا علمه ،ولا يتفاعلون إلا مع كائناته ونواميسه... ولا يحفلون بما استكنَّ وراء ذلك من حقائق  الزينة والخير والمعرفة ، وذلك هو الجهل والشقوة .
ولا يفوتنا أن نلاحظ ما يقرره النظم الكريم من أن علم الناس بظاهر الحياة الدنيا إذا قيس إلى علم حقائق الباطن صار لا شيء ، أو صار كلا علم ، أو صار هو والجهل سيان ، وذلك هو الواضح في قوله تعالى : [وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ] {الرُّوم:7}.
 بقي الشطر الأول من سياق القول لهذا الجهل إذ ينفي عنهم العلم بقوله :[لا يعلمون] .وفي خاتمة السياق يثبت لهم العلم بظاهر من الدنيا، ويسوي بين هذا العلم والجهل؛ إذ جعل الجملة الثانية بدلاً من الأولى، وتقريراً  لمدلولها كما يقول المفسرون، أي أنهما متساويتان في المفهوم أو متساويتان في إثبات الجهل لأكثر الناس على ما قد يكون لهم من علم حسي.
قال الإمام الزمخشري :" وقوله : [وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ] {الرُّوم:7}. بدل من قوله :[لا يعلمون]. وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه، وجعله بحيث يقوم مقامه، ويسد مسده، ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل ، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز ظاهر الحياة الدنيا".
 وإذا كان ذلك من بصائر القرآن النفيسة التي يشيد بها فلاسفة الغرب اليوم ، وكبار كتابه حين يصورون أسباب شقوة الإنسانية وضلالها على ما عليه من علم، فإن من أجمل تلك البصائر أن القرآن بعد أن قرر الداء وأصَّل العلة في تلك الآية، دعانا في الآية التالية مباشرة إلى رحيق الدواء ، ورحمة الشفاء ، دعانا أن نهاجر إلى أعماق نفوسنا هجرة فكر ومعرفة ، نستجلي بها ما في ملكوت الكائنات من آيات الحق ، و ذلك قوله تعالى :[أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى]{الرُّوم:8} . وبذلك تتم لنا نعمة الحياة المثلى فنجد روح السَّعة وقرار الطمأنينة .
ذلك بعض الإيضاح لما قلنا من أنه " لا سعادة للإنسان ما لم يكتشف آفاق نفسه الباطنة، فيهاجر إليها حيث خصائص الفضل ومواهب المعرفة، وطاقات القوة والخير، وما لم يكتشف تبعاً لذلك أو مع ذلك ما في آيات الله في الكون من حقائق العلم القدسي ، ومعالم الجمال والزينة ".
وإن كل بصائر الحق في سرائرنا لتفيض نوراً ومسرّة، إذ تتلو في الدعوة إلى زينة الوجود وجماله قوله جلَّ شأنه : [إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا] {الكهف:7} . فإن من غمط الحقائق أن نختزل مدلول الآية عن عموم امتداده إلى كل (ما على الأرض) ، ونقصر الزينة على ما تواضع عليه الناس من زينة اللباس والقصور ، والملابس ومظاهر الجاه والنعمة ، ونحوها من متاع الحياة الدنيا .
 إن القول الكريم واضح في غير لبس ، في عموم الزينة لكل ما جعل الله في هذه الأرض، بل إنه واضح في أن كل ما عليها إنما هو زينة لها ، وحسب أي شيء زينة وحسناً أنه من صنع الله جل جلاله و جماله ، وهو الذي أقام كل شيء على حقيقة الجمال والحسن، وأفاض عليه أردية الزينة ، وأعلن ذلك بقوله سبحانه :[الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ]{السجدة:7} . ولن نحتاج إلا إلى بصائر الحق ليبدو لنا الكون في تمام حليته القدسية ، روضاً ناضراً، ومعرضاً جامعاً لأقدس آيات الزينة والحسن ، وذلك أعلى ما قرر العارفون بفلسفة الجمال ، وما أحسن ما قال القرطبي ـ رضي الله عنه ـ في تفسيره الجامع : (الزينة كل ما على وجه الأرض ، فهو عموم لأنه دال على بارئه)، ثم قال فأجاد بعد أن استعرض أقوال غيره من المفسرين : (والقول بالعموم أولى ، وأن ما على الأرض فيه زينة من جهة خلقه وصنعه وإحكامه) . فانظر ماذا تكون فيه ضمائرنا من معالم الحسن والجمال إذا نحن استجبنا إلى ما يدعونا إليه القرآن الكريم من الحياة في ظاهر الكون وحقيقته الباطنة؟! .
ذلك بعض ما يدعونا به القرآن إلى نمط الحياة الأمثل، ولكي نرفع كل لبس، ونقضي على كل تردد ،ونمد محجة الطريق جلية بيضاء أمام عيني كل ناظر، وتحت قدمي كل سائر، نذكر أن مفتاح هذه الحياة المثلى هو معرفة الله سبحانه.. ولا شيء غير ذلك من علم العلماء أو فلسفة الفلاسفة ... فإذا عرفناه ـ سبحانه ـ امتد لنا في ضمائرنا وآفاق الكون ملكوت من المعرفة والخير والحق .
الحلقة السابقة هـــنا
 
*    *    *


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين