من أدب القصة في القرآن الكريم [2]
 
 
 
(3)
 
ومن  أجل هذا التزم القرآن الكريم الإيجاز الدقيق، وترك الاطالة في تفصيل الحوادث وذكر الجزئيَّات ونحوها  مما لا يتعلق بجوهر العظة، فقد قلنا أن القرآن الكريم ليس كتاب قصص، وتلك الاطالات إنما يعمد إليها أهل الفن لتصوير البيئة المكانية، أو تهيئة الذهن بذكر الملابسات، أو ادماج القارئ في تجربة من التجارب، إلى غير ذك مما تقرره لهم أصولهم الفنية، دون أن يترتب على حذفه نقص شيء من موضوع القصة...
 
إن المقصود هو سياق عبر القرآن الكريم في صورة واقعية، فالاكتفاء منه بالقدر الذي يحقق الهدف هو الحكمة التي يقتضيها المقام، أما الإطالة بغير ذلك فخروج بالقرآن إلى طبيعة كتاب آخر، وهيهات، يتسع كتاب في مثل صفحات القرآن لقصة واحدة من قصصه الخطير إذا أرسلت على نسقها الفني المعروف...
وإذ وكل إلى الإيجاز الدقيق أن يعرض أجلَّ المعاني وأخطر الحقائق، كان حقاً على مرتاد قصص القرآن أن يحشد له كل ما لديه من طاقات التدبر والتنبه، وإلا مضى وليس له من التلاوة سوى حظ الغفلة عمَّا ذخر له من نفائس الخير والحكمة...
وكم قرأ القراء قصة فرعون ـ مثلاً ـ فلم يجدوا في قطاعاتها المختلفة سوى لذة التفكه بسرد أنباء الغيب، وحوادث التاريخ في قصة طويلة تنتهي بغرق الطاغية، ولكنك بنفوذ بصيرتك جدير أن ترى في قطاع واحد منها ما يملأ المجلدات شرحه وتفصيله ... إنك جدير أن تتبيَّن في موقف فرعون من الرجل المؤمن بسورة غافر طبيعة الحكم المطلق وأثره في إهدار مصالح الأمة، وتبديد طاقات الشعب، فإن النَّظْم الكريم يكشف لنا في ذلك عن حقيقتين متميزتين:
 
يكشف لنا في أمر فرعون عن لبِّ طباع كل طاغية دكتاتور، فهو عدو حرية الرأي، إذ يعلن ذلك لقومه بقوله: [مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ] {غافر:29} . فهو لا يذهب في عداء حرية الرأي إلى كمِّ الأفواه واعتقال الألسنة فحسب، بل يذهب إلى الحجر على العقول نفسها أن تفكر إلا بعقله هو، ولا يسمح لها أن ترى في أمر من الأمور إلا ما يرى هو، على حدِّ ما قال: [مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ] {غافر:29}.
ويكشف النظم الكريم عن الحقيقة الأخرى إذ يكشف عن طبيعة الحكم الفاسد، ببيان الأهداف التي تدار عليها أجهزة الدولة حين يتولاها مثل ذلك الفارغ، فيختار القرآن مثلاً عجيباً نرى به المدى الذي تهدر فيه مصالح الأمة فيما لا طائل وراءه إلا مرضاة غرور الطاغية، وذلك إذ يقول فرعون لرئيس دولته: [فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى] {القصص:38} .
فهو لا يذهب في فساد الحكم إلى إهدار مصالح الأمة فحسب، ولا يقف عند تحقيق رغباته ورغبات شيعته في جمع المال وحيازة الثروات فقط، بل يذهب في جنون سيطرته وتفاهة كبريائه مبدِّداً طاقات الأمة الفكرية، والعلمية، والفنية، وإمكاناتها المادية حتى يبلغ مدى لا شأو بعده لتفاهة أو جنون... وليست إقامة بناء شاهق يذهب به إلى أسباب السماء ليبحث هنالك عمَّن عساه ينازعه عبادة الخلق إلا صورة التفكير الذي أفلت من زمام الحق، والأهداف السلبية التي تدمر بها معنويات الشعوب...
ولا شك أن الشعب يفقد بذلك القدوة الصالحة ومناهج التوجيه السليم، فلا يكون له من أثر في تربيته إلا تفريغه من كل مزيَّة، فيصير في خفة غثاء السيل، يتوجَّه، ولا يوجِّه، ويحمله التيار إلى حيث يريد، والتيار هنا هو إرادة الطاغية، والله سبحانه يصور ذلك بقوله:[فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ] {الزُّخرف:54}.
ونرى خفة وزن الشعب في خفة أهدافه وتفاهة غاياته، إذ انحصرت قيم الحياة في تفكيرهم وأحلامهم في أعراض المال، وجاه القرب من السلطان، وذلك ما نلمحه في محاورة تبدو كأنها عابرة لملء فراغ في جو القصة، و لكن حاشا لله أن يكون في كلامه الذي فصَّله على علم مكان لمثل ذلك، فإنه العرض الدقيق للأهداف التي ربى عليها الشعب، وذلك إذ يقول السحرة لفرعون: [أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الغَالِبِينَ]{الشعراء:41} . قال [نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ المُقَرَّبِينَ] {الشعراء:42} . 
 فالأمر دائر بينهم وبينه على ما ربُّوا عليه، وألفته البيئة من هوان الأهداف ورخص الغاية، وذلك بعينه هو أعراض ما تصاب به الشعوب والحضارات من انحلال وتحطم ... وهو الذي عناه الحق سبحانه بقوله: [وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ] {الأعراف:137} . فإن حجراً واحداً في مصر لم يلحقه دمارٌ ما ممَّا ألحقه سبحانه بصنيع فرعون، إنما هو الدمار المعنوي الذي يلحق الشعوب حين تبتلى بقيادة خاطئة تفرغها من طاقاتها المبدعة، وتدعها قشوراً تافهة لا روح فيها...
ذلك قطاع من القصة نتبين به أصولاً في فلسفة الحضارات وبناء الشعوب تكفلت بها موسوعات علم الاجتماع، ولعلنا عرضنا به مكان قصص القرآن من القرآن، وعرضنا مهمته، ونهجه في السياق والإيجاز، وتبين أنه ليس ضحضاحاً يسير المئونة كالذي نعهد في القصص العادي:[وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا العَالِمُونَ]{العنكبوت:43} .
الحلقة السابقة هـــنا
 
 
*     *     *


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين