من أدب القصة في القرآن الكريم [ 1 ]
 
 
 
(1)           
يهمنا بادئ ذي بدء أن نقرر أن ثمة فارقاً أساسياً يميز قصص القرآن الكريم من القصص المتداول بين الناس، ذلك أن هذا الأخير مخترع لا أصل له ـ إلا الذي يمتُّ بصلة إلى حادث تاريخي ـ مخترع الحوادث، مخترع الأشخاص، ولا أقول: مخترع الفكرة، فإن الفكرة دائماً من وحي الحياة ـ أما قصص القرآن فحق كله، واقعي كله، شهدت الأرض والسماء أحداثه، وعهدتا أفراده جميعاً ، رجالاً ونساءً، شيباً وشباناً، وولدانا ... [تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا] {هود:49} .
فمن زعم أنه مخترع لتقرير حكمة أو عرض عبرة، فقد افترى على الله الكذب، فإن منزل الكتاب، نفسه سبحانه يقول:[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى] {يوسف:111} . [إِنَّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {آل عمران:62}.
 
(2)
ومن المعروف أن القرآن كتاب رسالة لا كتاب قصص...كتاب رسالة جامعة تنتظم الحياة بأسرها، ظاهرها وباطنها، مادتها وروحها ...وقد خطَّ لنا الحق سبحانه فيه ما ينظم صلتنا بآفاق تلك الحياة، حقها وباطلها، دنياها وآخراها ... وذكر ما فيها من قيم وأرزاق حسيَّة ومعنويَّة، وما فيها من كائنات روحيَّة وغير روحيَّة... وشرع لنا  منهاج الاستقامة والسلامة بيَّن تلك المجاهيل الغيبية الخطيرة، وبيَّن لنا ما يعتور النفوس والأذهان خلال ذلك من جهل وغفلة وفتن وآفات صارفة عن النهج السوري، وبيَّن لنا غير ذلك مما لا نطيل بذكره.
 
تلك في إيجاز شديد جداً رسالة القرآن الكريم في أحكامها، ومبادئها، ومثلها، وعقائدها، وتوجيهاتها، وما تضمَّنت من نواميس المجتمعات وسنن الكون، وقد شاء الحق سبحانه إلى تقرير ذلك في كتابه الحكيم أن يكون للقصص شأن في إيضاحه بأسلوبه التصويري، فاختار من أنباء الأمم، والأفراد، والطوائف، والجماعات، مثلاً تطبيقية لما أوجز من أصول تلك المقاصد والمبادئ، والسنن، وساقها في صورها التي شهدها الواقع، ومثلتها تجارب الناس، فكانت هي قصص القرآن الذي نعرض اليوم لبيان بعض جوانبه...
 
ذلك مكان القصص من القرآن، وتلك مهمته، فهو ليس يسير المئونة كالذي يعهده الناس من قصصهم المألوف، فهو القرآن مصوراً في مُثل، فإذا قرأته، قرأت النواميس في قصص، والعبر في سير، والمبادئ في تاريخ، والعلم و الحكمة في أحداث، وكنت بإزاء ديوان من الأنباء، تتمحص به العزائم، وتتحرج به الضمائر والأفهام على أصدق حقائق الحياة، ولأمر ما يقول سبحانه:[وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ] {هود:120} . وحسبك من قصص كان من شأنه تثبيت أكمل الناس إيماناً وأرجحهم ميزاناً، محمد صلى الله عليه وسلم .
الحلقة الثانية هـــنا
 
 
*      *     *


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين