الخروجُ من التِّيه (3-6)

 

مسؤوليات القادة وأثرها على القاعدة

 المطلب الثاني: مسؤوليات القادة وأثرها على القاعدة 

أما أثر التزام القائد بمسؤولياته على القاعدة، فلا أجلى منه ولا أدل عليه من ثبات الرسول صلى الله عليه وسلم يوم حنين أمام آلاف المشركين، ولم يكن معه سوى أبي بكر أو بضعة أنفار على رواية ترجحها صيغة الجمع للفظ "المؤمنين" في هذه الآية: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 25، 26].

لقد غفلت القاعدة يومئذٍ عن أن الناصر هو الله عز وجل لا كثرة العَدد والعُدد، وقد كانوا يومئذ اثني عشر ألفًا، وعدوهم أربعة آلاف، فقالوا: (لن نغلب اليوم من قلة)، ولما تسامت الخيلان كانت الجولة لهم، ثم ولوا مدبرين كما قال الله تعالى، اللهم إلا رسول الله وثلة معه نزلت عليهم السكينة، وملائكة على خيل بُلْق يقاتلون في صفهم في حرب بقاء أو فناء؛ فثاب الناس إلى رسول الله لمَّا رأوا منه رسوخ الجبال، وسمعوا منه هديرَ النِّداء وَ وَجِيْبَ الدُّعاء، وألفَوْا داعي النجدة والغوث والاستغاثة لا يستثني أحدًا، عن أبي قتادة قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، ثم انهزم المسلمون فانهزمت معهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى من الناس ما رأى: ((يا عباس، ناد: يا معشر الأنصار، يا أصحاب الشجرة)) فأجابوه: لبيك لبيك، وأقبل أصحابه إليه سراعا يبتدرون، فجعل الرجل يذهب ليعطف بعيره، فلا يقدر على ذلك، فيقذف درعه عن عنقه، ويأخذ سيفه وترسه ثم يؤم الصوت، حتى اجتمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائة، فرفع يديه إلى الله يدعوه ويقول: ((اللهم إني أَنشُدك ما وعدتني، اللهم لا ينبغي لهم أن يظهروا علينا))، فاستعرض الناس فاقتتلوا، وقبض قبضة من الحصباء، فحصب بها وجوه المشركين ونواصيهم كلها، وقال: ((شاهت الوجوه، انهزَموا وربِّ محمد))، فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى حدَّهم كليلا وأمرهم مدبرا (1)، ووالله ما راجعه الناس إلا والأسارى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتفون) (2).

وروى البخاري عن البراء أن رجلًا من قيس سأله: ((أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، كانت هوازن رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا، فأكببنا على الغنائم، فاستُقبِلنا بالسهام...)) (3) قال البراء: ((ثم نزل فاستنصر وهو يقول: اللهم نزِّلْ نصرك)) ولقد كنا إذا حمي البأس نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الشجاع الذي يحاذي به (3).

فأنت ترى أن النصر كان من عند الله بثبات القائد الرسول المقدام صلى الله عليه وسلم وبدعائه وتضرعه وابتهاله، وأنَّ الذين انهزموا وهم ألوفٌ مَا ردَّهم ولا ثبَّتهم إلا ثبات القائد صلى الله عليه وسلم وحماسه، وتذكيره لهم بفضائلهم بصيغة النداء مستثيرًا ما فيهم من المشاعر والضمائر والشهامة والإيمان وفضيلة بيعة الرضوان، يناديهم بتلك الصفات وهو يدعوهم للثبات كما ثبت في روايات أخرى مفصَّلات، فظهر عِيانًا ما للقائد من أثرٍ على القاعدة.

المصدر : العدد الرابع من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

تنظر الحلقة الثانية هنا 

=====

(1) صحيح مسلم (1775)، (3/ 1398).

(2) ابن كثير: السيرة النبوية (3/ 621-629)، والخبر عند الشيخين وأحمد والبيهقي وأبي داود بألفاظ وزيادات من طرق مختلفة.

(3) صحيح البخاري، (4317) (5/ 153).

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين