الخروجُ من التِّيه (2-6)

 

أثرُ المسؤوليات على القادة والقاعدة

المبحث الأول: أثرُ المسؤوليات على القادة والقاعدة

من أصول الآخرة شخصنةُ الثواب والعقاب، أو الجزاءِ والعطاء، المترتبَيْنِ على أداء الفرد لمسؤوليات عينية لا يحملها أحد عن أحد، ولا تأتَّى فيها الشفاعة ولا الكفَّارة، وعدالة هذا الأصل الأخرويّ توحِي بأنَّه أصل شرعيٌّ دنيوي أيضًا، وهو كذلك فيما هو من فروض العين ابتداءً {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [سورة البقرة: آية 48]، وأمَّا ما هو من باب الفرض الكفائيّ فآثاره الدنيوية لا تقتصر على فرد بعينه؛ لأنَّ منافعَ أدائه قرينةُ مفاسد تركِه، وكلاهما عامٌّ، وكذلك ما يترتب على هذا الضرب من المسؤوليات من جزاء أو عطاء لا تقتصر آثاره على فاعله، وهذا هو الوجه الذي به ترجح كِفَّة مسؤوليات فروض الكفاية على فروض العين {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [آل عمران: 104].

وأول عقوبات التخلي عن هذه المسؤوليات الكفائيّة: الاستبدالُ بينما القوم يطمحون للتمكين والاستخلاف، ورفعُ فاعلية الأسباب عن قاعدة الوهْنِ والخذلان بتجلي الله الجليل بعزَّته وجبروته وعدله، فإذا بالكثرة قلة كما في يوم حنين؛ هذا مع مضاعفة فاعلية هذه الأسباب لقادتهم بالثبات والإقدام، فإذا بالقلة كثرة، وإذا بعبد الله القائد المنكسر ينتصر، ويغدو جنده المخذولون أعزَّةً مؤيَّدِين بألوفٍ من الملائكة مرُدِفين كما وقع يوم بدرٍ وفي الهجرة وتبوك وحنين؛ إيذانًا بأنَّ تخاذل القاعدة حجبَ عنها شرف التكليف الذي نيط بالقوم وقد أعجبتهم كثرتهم، وإعلامًا بأنَّ بذل الصاحبَينِ لأرواحهما في سبيل الله خرَقَ الحُجُب والعوائد ولا ثالث لهما يوم حنين، ولا يومَ الغار وقد كانا فردَين أعزلين، فذكَّر الله المنهزمين يوم تبوك وحنين بنصره لرسوله وصاحبه يومَي الهجرة وحُنينٍ وهما وحدَهما في أشد حال عند لقاء العدوّ {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ...} [التوبة: 39، 40] ويومَ حُنَينٍ {أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا...} [التوبة: 25، 26].

المطلب الأول: مسؤوليات القاعدة وأثرها على القادة

لكل من التثاقل أو الامتثال والتكامل في باب المسؤولياتِ آثارٌ تنعكس على القادة والقاعدة أيًّا كان ذاك الذي نيطت به تلك التكاليف، فالفصل بينهما في باب التأثر والتأثير متعذِّر في الفروض الكفائية، ولهذه الدعوى شواهدها، ولا أجدى وأصدق من شاهدٍ في مشهدٍ القائدُ فيه أحدُ أولي العزم من الرسل، ورِدؤه أو نائبه من رسل الله أيضًا، والقاعدةُ أتباعٌ له وأصحابٌ، كانوا عبيدًا للاستبداد الفرعوني، فجعلتهم الحريَّةُ ملوكًا (1)، وبالمُلك والنبوة فُضِّلوا على العالمين يومئذٍ (2):

كانت أحداث ذاك المشهد مأساةً، لا تحيط بها وصفًا حبكةُ التراجيديا العصريَّة وسيلُ مآقيها المتدفق بدموع بواكيها؛ فمِن رحيل وتَرْحال إلى هجرةٍ دامت خمسة قرون ما بين فلسطين ومصر، لحِقَ فيها بنو إسرائيل عليه الصلاة والسلام أخاهم يوسف وزير تموين مصر يومئذ، وما زال فرعون وجنوده من القِبط يسومون بني إسرائيل سوء العذاب، يُقَتِّلون أبناءهم، ويستخدمون نساءهم في المهن الشاقة، حتى منَّ الله عليهم ببَعثة موسى عليه السلام، وبعد حينٍ وأمدٍ مكر بنو إسرائيل بفرعون، استأذنوه للخروج إلى عيدٍ لهم لينجُوا منه، ولما وصلوا البحر بلغ فرعونَ الأمرُ فكاد يُدركهم، وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء: 63] فكان ما كان يوم عاشوراء، وبنو إسرائيل ينظرون إلى عاقبة فرعون وجنوده، لقد رأَوا من آيات ربهم ما رأوا، وها هم يرون ماذا أحل الله بأولئك بينما هم ينعمون ويرفلون بما منَّ عليهم به مكافأةً على صبرهم وثباتهم مع قائدهم {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا...} [الأعراف: 137]، لكنهم ما إن جاوزوا البحر حتى هموا بعبادة الأصنام وكأنْ لم يمر بهم حدثٌ واعظ، لهم فيه غنى عن كل المواعظ، ثم توجَّهوا تلقاء بيت المقدس فإذا فيه قوم من الجبارين الحيثانيين والفزاريين والكنعانيين وغيرهم، فأمرهم موسى عليه السلام بالدخول عليهم لمقاتلتهم وإجلائهم عن بيت المقدس، لا سيما أنَّ لديهم مِنَ المقوِّمات والدلائلِ: النبوةَ، والملكَ أي الحريَّةَ من استعباد الفراعنة، والمِنَنَ الإلهية مِنْ مَنٍّ وسلوى وظلال، وأفضليةً على أهل ذاك الزمان، فأبوا ونكلوا عن الجهاد؛ فألقاهم الله في تيهِ الأربعين، يسيرون ويحلون ويرتحلون ويذهبون ويجيئون (3): {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ... } {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا...} [المائدة: 20 - 22].

في هذه الموقعة كان القائدُ الآمرُ بالجهاد وقتال الجبابرة لتحرير بيت المقدس رسولًا من أولي العزم، وخليفته أخوه هارون رسول أيضًا، فلا شبهة ولا مظنة، أمَّا القاعدة فهم قوم رأوا من معجزات هذا الرسول وقوته ما ينتزع من قلوبهم الرهبةَ إلا من القويِّ المتين سبحانه، لا سيما أنَّ الله نجَّاهم من طاغية العصر، بل أغرقه وهم ينظرون، وقد كانَ أشدَّ بأسًا وأكثر جمعًا وأعظمَ جندًا من أولئك الجبابرة، ناهيك عن أنهم رأوا آيات موسى التسع بأمِّ أعينهم، ورأوا هناك من قدرة الله الذي لا يعجزه الجبابرة، وكان الغمام يظللهم، والمنُّ والسلوى طعام لذيذ لهم بلا كدٍّ ولا تعب، فماذا دهاهم ليجبنوا وموسى نبي الله قائدهم؟! وما زالوا ناكلين حتى وافت المنيةُ نبيَّ الله موسى في التيه، فسأل اللهَ أن يُدنيه من بيت المقدس رمية بحجر، وكأنَّه كان يأمل أن يخرجوا من التيه المعنويِّ بعد مضيِّ الأربعين، أو أنْ يهلكوا ويُخرج الله من أصلابهم جيلًا على هدي النبوة؛ لذا ردَّ ملَكَ الموت إذ جاءه قابضًا، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((أُرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فلما جاءه صكَّه، فرجع إلى ربه، فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت...)) (4) ، ولما رأى موسى عليه السلام أنَّ القيادة في أعلى رتبها وأكملها لم تكن لتنفعَ والقاعدةُ في الحضيض رغمَ كثرتِها، عندئذٍ أجابَ عليه السلام ربًّا دعاه، وفارق قاعدةً رضيت بالقعود، وكان من أسوأ أوصافها النكران والتنكُّر والجحود: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24].

وكان الملأ منهم من جملة الخوالف كما الرعاع، ولم يَرْفع نعتَ القواعد والخوالف عن هذه القاعدةِ أنْ كان فيها رجلان صالحان من النقباء الاثني عشر -يقال إنهما يوشع بن نون وكالب بن يوفنا-، أرشداهم إلى بابٍ ينهزم منه الجبابرة، وأشارا عليهم بالإقدامِ وتوكُّلِ المؤمنين، ونهياهم عن الإحجام وهلَع الكافرين: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] أي إذا لجأتم إليه أيَّدكم عليهم وأظفركم بهم، لكنهم نكلوا وأعرضوا عن نصحهما، وخذلوا نبيهم، وقد قصَّ الطبريّ من أخبار خذلانهم قَصصًا عُجابًا (5)، وما أغنى النَّقيبانِ عنهم من الله شيئًا؛ فوقع أمر عظيم ووهنٌ كبير في القاعدة، وما كان أمام القائد إلا أن يُعلِنَ إقدامه وإن خذلَتْه القاعدة؛ وفاءً منه لمقتضَى مسؤوليته، وبراءةً مما لا طاقة له به من أمر القوم: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:25].

وما قيل من أنه لم يخرج أحد من التيه ممن دخله، وأنهم ماتوا كلهم في مدة أربعين سنة، ولم يبق إلا ذراريهم ويوشع وكالب: يعضدُ القول بأنَّ القاعدة إنْ لم تتغير سِماتها تُغيَّرْ هي ذاتها، وإنْ لم تُبَدِّلْ أوصافَها تُستبدَلْ ذواتُها {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} [التوبة: 39]، وفي سورة القتال ما يوثِّق هذا القولَ ويؤكِّد هذا الوعيد، ففي سياق تكليف الموسرين بالإنفاق على المجاهدين خاصَّةً ماديًّا أو معنويًّا ترى الذين غُلَّت أيديهم قد طالَهم هذا الوعيد: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [محمد:38].

صحيحٌ أنَّ موقفَ الرجلين الصالحين لم يكن ليأتي بالفتح، ولا ليرفع المسؤولية وتبعاتها عن القاعدة؛ لأنَّ كُلًّا من الملأِ والرّعاع ماضون في النكول عن الجهاد، إلا أنَّ جاهزية رجلَيْنِ اثنين من القوم كان لها ما لها في تربية الخلف والاعتبار بالسلف بعد رحيل رسل قادةٍ، لم تبرح أعينُهم النظرَ إلى الجيل الجديد أملًا في بلوغ رسالاتهم إلى غاياتها، بل قيل: إنَّ الله منَّ على أحد الرجلين -وهو يوشع-، فاتخذه نبيًّا خلفًا لموسى وهارون في حمل رسالتهما؛ فالنبوة وإن لم تكن مكتسبة إلا أنَّ أفرادًا صالحين من بني إسرائيل قد أدركتهم رحمة الله؛ مكافأةً لهم ولسلفهم من الرسل القادة، ورحمةً بجيلٍ واعٍ يخلف القاعدة التائهة، فمنَّ الله عليهم بمحض فضله، وجعلهم قادةً أنبياء، يحملون رسالة من سبقهم من رسل الله إليهم ليبلغوا بها الهدف المنشود، أَمَا وقد انقطعت النبوة في أمة أحمد صلى الله عليه وسلم فإن علماءها المجددين الربانيين يقومون بما كان يقوم به أنبياء بني إسرائيل في قيادة القاعدة.

إنَّ في هذا لبرهانًا على أهمية ثنائية الإعداد للخروج من التيه: صلاح الفرد من حيث كونه ركنًا في القاعدة، وتجهيزه أو جاهزيته للإصلاح من حيث إنَّه قد يؤهَّل ليُكلَّف بأعمال القادة، والمراد جاهزيةُ بضعةِ أنفارٍ أو رهطٍ أو فردٍ أو اثنين للنهوض بالمسؤوليات التي فرَّطت فيها القاعدة، فقوة الصلاح والإصلاح الفردية هذه وإن كانت لا تكفي ولا تغني عن القاعدة الضالَّةِ إلا أنَّ لوجودها أهميَّةً بالغةً؛ من أجل تربية قاعدةٍ تاليةٍ وإصلاحها وصلاحها وتأهيلها وجاهزيتها لما يُناط بها من مسؤوليات، فهذا الفردُ وإن لم يغنِ عن الأسلاف الهالكين شيئًا لكنه ركنٌ متين وأصلٌ مَكين لإعدادِ جيلٍ جديد يخلف أولئك؛ فبه تتأسس قاعدةٌ تَعتبر بأسلافها، وتمضي على هدي القلَّةِ الشاكرةِ أمثالِ يوشع بن نون وكالب بن يوفنا اللذين رفعا بنيانَ قاعدةٍ خلفَتْ جيل التيه الهالك، وحررَّتْ بيت المقدس، والفضلُ للفرد القائد الذي حرَّر جيل التحرير هذا، فنجوا به من التيه في حين أن قوم لوط عليه السلام هلكوا عن بَكْرةِ أبيهم بما قدمت أيديهم، واندثروا كأمس الدابرِ؛ لأنَّهُ لم يكن فيهم فردٌ رشيدٌ قائد على هَديِ نبيهم يهدي ذراريهم إلى رأي سديد وصراط قويم: {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78] أي شديد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر (6)، فما نجا منهم أحد سوى نبي الله وأهله، فأنت ترى أنَّه لما لم يكن فيهم فردٌ رشيد يخلفهم لهداية الجيل الجديد، غرِقت القاعدة التائهة وذراريها.

هذا وكان من الممكن نصر جيل التيه على الجبابرة، وتحرير بيت المقدس على أيديهم بمعجزة إلهية لموسى عليه السلام، كما وقع عندما نجاهم وأغرقَ عدوَّهم فرعونَ وجنوده، لكنَّ الأصلَ أن تمضي سنن الله في التمحيص والمَحْق وصراع الباطل والحق، ما لم تدعُ الضروراتُ في حالات الصراع على البقاء والفناء كما كان الأمر قبل الغرق؛ ذلكم أن نصرًا باردًا كهذا فيه تعطيل لتلك السنن القائمة على التكاليف والتبعات وتحمل المسؤوليات مِن كل الجهات ومن القادة والقاعدةِ معًا، وإذا شئت أن تتبين قيمة هذا النصر البارد من وجهٍ أعمق فهبْ أنَّ وزيرًا أو رئيسًا اعتاد أن يختلس أسئلة الامتحانات وسُلَّم التصحيح في مراحل الدراسة كلها ويسرِّبها لولده، فهل ترى لنجاح ذلك الولد أو تفوقه الموهوم من معنًى؟ وماذا يتوقَّع أن يؤمِّلَ كلٌّ من الوالد والولد لمستقبل الطالب وأمَّتِه؟ وهل لتلكم الشهادات الخاوية من عائدٍ وما كان لها من تكلفةٍ؟!

لقد ظهر في هذا المشهد تأثير القاعدة السلبية رغم التسليم بكمال القيادة الموسوية، ويكأنَّ القاعدةَ تسعى لتُحرِج القيادةَ بالعجز أو التعجيز! جهلًا أو تجاهلًا من هذه القاعدة لمعجزات موسى عليه السلام التي شهدها القومُ بأمِّ أعينهم يوم نجاتهم من فرعون وجنوده {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} [الشعراء: 66] فكان ما كان، ومضت عشرات السنين، والقاعدة أتباعًا ومتبوعين في طغيانهم يعمهون، وكُبَراؤهم في غَيِّهم يَمُدُّون، فأضلوهم السبيل حتى مات أكثرهم في سنوات التيه ضالِّين أو مُضلِّين، بل لقد لحق بربِّه كلٌّ من نبي الله موسى وأخيه هارونَ؛ وسائرُ القوم في غياهب التيه سادرون، ولا يزالون!

إنَّ نهاية التراجيديا هذه لن تُخطئها عيناك وأنت تقرأ قصة نوح وسفينته، وما آل إليه أمر قومه وأقاربه، وليس عنها ببعيد قصة إبراهيم وشعيب وهود وصالح عليهم السلام.

ولا يخفى أنَّ لخذلانِ القاعدة للقادة آثارًا لازمةً قاصرةً وأخرى متعدية شاملة، وهذا شأن آثار فروض الكفاية كلها، ولا أعدل لأفراد القاعدة من أن يَزِنوا مصالحهم ومفاسدهم الخاصة بميزان القائد ذاته، فإذا كان القائد في الصدارة يفدي قاعدته بأغلى ما يملك فما بالك بها عندئذٍ؟ لكنَّ الذي لا يغيب عن خَلَد متأمِّلٍ لهذا السياق أنَّ لأهواء النفس نزعةً تميل بالقاعدة إلى القعود والتخلفِ، وإيثارِ سلامة أفرادٍ منها على سلامة القائد وإن كانت حياتُه حياةً للأمة، وتتغذَّى بأهواء المرجفين ممن مردوا على النفاق، ويشتدُّ عَصْفُ هاتيكَ الأهواء إذا كان إيمان فريق من القاعدة ضعيفًا تزلزله الرغبات، فتخور القلوب في ساعة العسرة أو تهوي أمام هوى النفوس، بل ربما تكادُ تَضِلُّ وتزيغ، وفي غزوة تبوك مشاهد فيها شواهد يُحتَجُّ بها لهذه الدعوى.

وما من شيءٍ أنجع لفئة كهذه من إيقاد جذوة إيمانها؛ لمناشدة تقواها، ودعوتها لملازمة الصادقين، بعيدًا عن المرجفين {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: 168] فذانِكَ الرِّدْءانِ لدى أهل الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] درعانِ واقيان من القعود في مواطن البأس؛ ولهذا خُتمت بهما جملةٌ من المواعظ التي سيقت في حديث الثلاثة الذين خلِّفوا، وحرِيٌّ بالذِّكر أنه إنْ خوطِبَ بهذا العامَّةُ من القاعدة؛ فصَفْوتُها وعقلاؤها أعنَى وأخصُّ، وهذا سرُّ تقديم القرآن للمتخلفين من أهل المدينة على الأعراب وهو يعرِّضُ بهم، ويُثني على من حضر تبوك منهم قادةً وقاعدة، أغنياء وفقهاء: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة:120 - 122] ولعلك لحظْتَ أنَّ صدر الآية لم يُقدَّم فيه أولئك الأعراب الذين لم يبلغوا مبلغ سراة أهل المدينة في الرَّشَد، بل عُطفوا عليهم تَبَعًا، فالقاعدة نفسها درجات في سُلَّم التكليف والتَّبِعات وَفْقًا لطاقات أفرادها وإن استووا في أصل التكليف.

وأمَّا التأثير الإيجابيُّ لتحمل القاعدة لمسؤولياتها على أداء القيادة ولو صوريًّا، فليس رصده عليك بعسير، وهو في صدر الإسلام كثير، وإنك لتراه بجلاء في مشهدٍ مماثلٍ مقابلٍ للمشهد التراجيدي الذي آل إليه أمرُ بني إسرائيل من قوم موسى عليه السلام، فهو أبينُ من أن يبيَّنَ لجلائه وصَراحته، روى الشيخان وأحمد والحاكم مختصرًا، وابن هشام مطوَّلًا عند ذكره لليوم الذي خرج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعترض عيرًا لقريش، ولم يكن قد خرج للقتال، قال: (أتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس، فقام أبو بكر الصديق، فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب، فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا ودعا له به، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس - وإنما يريد الأنصار - فقال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال أجل، قال: امض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته، لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فَسِرْ بنا على بركة الله؛ فَسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشَّطه ذلك، ثم قال: سيروا وأبشروا)(7) ولفظ مسلم أبلغ: (والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا، قال: فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فانطلقوا حتى نزلوا بدرًا) (8).

كانت أحداث هذا المشهد كلّها قُبَيل قرار النفير للجهاد كما ترى، وأبلغ ما في هذا المشهد أن امتثال أمر القيادة كان ميدان سباق وغبطةٍ واقتراع بين القاعدة، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال عن الموقف المقدامِ للمقداد: ((شهدت منه مشهدًا، لأن أكون صاحبه أحبَّ إلي مما عدل به...؛ «فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه، وسرَّه» يعني قولَه)) (9) فأنت ترى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ما أقدم ولا سار بجيشه إلا بعد أن رأى منهم صدقًا وعزيمةً ووفاءً وثباتًا، بعَثَ لديه الطمأنينة بأنَّ القاعدة صلبة راسخة صالحة للإطلاق والانطلاق؛ فانطلق.

وهذا الذي رأيتَ كان إيذانًا بأن هذه القاعدة لا تعرف معنى القعود، وأنَّ أبناءَها باذلون من أنفسهم وأموالهم أكثر مما قطعوه على أنفسهم يوم بيعة العقبة من وعود وعهود.

المصدر : العدد الرابع من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

تنظر الحلقة الأولى هنا 

=====-

(1) تفسير الطبري: رقم (11636)، (10/ 163).

(2) تفسير ابن كثير (1/ 255).

(3) ابن كثير: قصص الأنبياء، (2/ 96-102).

(4) صحيح البخاري (1339) (2/ 90)، صحيح مسلم (2372)، (4/ 1842).

(5) تفسير الطبري (10/ 175).

(6) تفسير القرطبي (9/ 77).

(7) ابن هشام: السيرة النبوية (1/ 614)، مسند أحمد (3698)، (6/ 227)، قال المحقق: إسناده صحيح على شرط البخاري.

(8) صحيح مسلم: (1779)، (3/ 1404).

(9) صحيح البخاري (3952)، (5/ 73).

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين