الخروجُ من التِّيه ( 1-6)

أَشْهرُ متلازمةٍ ثلاثيةٍ في جدليَّة القادةِ والقاعدةِ يومَ الفزع: تلاومٌ وتقاذفٌ للمسؤولية وتنصل من تحمل التكليف الناجم عن ذلك اليوم وأعبائه وتبعاته، وأمَّا يومَ الطمع فالمغانمُ فرصةٌ ينتهزها أقوى الطرفين ليستبدَّ بها وينسبها إلى نفسه، وقلَّ أن تجدَ قويًّا يومئذٍ يعدل أو ينصف أو يكف عن الإجحاف، أمَّا العدل المطلق {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] فكِفَّتاه توازن الحقوق والواجبات، أو المسؤوليات والمكاسب، أو التكلفة والعائد، وقلَّما تقعُ عينك يومَي الفزع والطمع على قادةٍ أو قاعدةٍ لهذا العدلِ مُذْعِنة، ولا على آذانٍ له صاغية، ولا على قلوبٍ لأحكامه وحِكَمه واعية؛ ذلكم أنَّ ثلاثية الغنم بالغرم، والخراج بالضمان، والرِّبح بالخسران، ليست بالحكَم الذي تُرضَى حكومته لدى جيلٍ دأبَ على الفرار من التبعات ورمي المسؤولية على طرف ضعيف أو مجهول، وهو جيلٌ ضيَّعَ حقوقه يوم أن أنكر أو تنكر لواجباته لا سيما الكفائيّة منها، والأدَهى الأمرُّ أن يعقبَ ذلك الجيلَ آخَرُ على شاكلته يدخل في أربعينيات من التِّيهِ والعَماء التكليفي، هذا ما لم يكن فيهم أهل بصر وبصيرةٍ يدركون أهمية فروض الكفاية وعلوَّ رتبتها على فروض العين من وجهٍ، فيعملون على نشرها في كل ساح بكل سلاح؛ لينهض بها من لهم بها قوَّة بغيةَ الخروج من غياهب ذلك التِّيهِ، وشرطُ الخروج أن لا يتجاهل أحد من المستطيعين مسؤولياتِه براءةً أو إبراءً أو تبرُّؤًا، فِعْلَ النّعامةِ تغوص في بحر الرمال برأسها تتقي صيَّادها.

أمَّا بوَّابة الخروج من دُوَّامة التِّيه هذه ومن نفقِ تلك المتلازمة، فمفتاحُها كلياتٌ مستلهمة من هدي الأنبياء وفقه سيرهم وتاريخ أممهم؛ فمن وعاها ورعاها حقَّ رعايتِها غدتْ له بصرًا وبصيرةً تنبثق عنهما رؤيتان:

_ الأولى: مستقبليةٌ ثاقبةٌ تُبقِي على هذا الراعي الواعي وإن كان في آخِر رمقٍ حتى يخرج من التيه سالمًا، هذا إن لم يغدُ فاتحًا غانِمًا وإن كان فردًا برأسِه قائمًا.

_ والأخرى: آنِيّةٌ تقوم على إجراءين:

الأوَّل: فقه الواقع وقراءة أحداثه؛ ليستلهم منها القائدُ الدروس والعبر قبل أن يسدِّد ويرمي آخر سهم في جعبة آخرِ مقاتليه.

والآخَر: العملُ بانتظامٍ وَفْقَ آلية حكيمة محكمة مرنة متجددة؛ ليقوم القادةُ بتقييم مرحلي وتقويم مستمر بغيةَ جبر خلل التخطيط والأداء، ولِسَدِّ الثغرات وتعزيز الإيجابيات في ضوءِ جملةِ بيِّناتٍ، كلُّها مستلهمةٌ مما يأتي في هدي الرسل عليهم أتم الصلوات والتسليمات.

وأما أصل الداء الذي جعل تلك المتلازمة ضربةَ لازبٍ لفريق منا اليوم، فهو تغييب المسؤوليات في الأداء والممارسةِ القائمةِ على التخطيط، ناهيك عن غياب رجالها؛ فلا أحد يجهل أن المسؤولياتِ التي يعود نفعها على الأمة كلها فروضُ كفاية إن كان تركها مفسدة، وإلا فسُنن كفاية، أما المكلَّف بها فهم جميع من كانت لهم بها قوةٌ وأهليةٌ للقيام بذلك الفعل المطلوب ابتداءً، وإن سقط الطلب وارتفع الإثم انتهاء بفعل من تحصل به الكفاية في تحقيق المصلحة؛ وعليه؛ فإنَّ تكليف القاعدة بأعمال القادةِ هدرٌ للطاقات، وتضييع للتكليف وضياع للجيل والأمَّة، وتكليفٌ بالمحالِ أداؤُه على الوجه المطلوب، ولا أدلَّ على هذا وأبينَ من الحجرِ على طبيبٍ جرَّاح وتكليفِ الجاهل بإجراء عملية جراحية دقيقة لمريضٍ مشرف على الهلاك، ومنه تكليف المرأة بما لا يقوم به إلا الرجل، والعكس صحيح، ومنه أيضًا إيهام العامَّة أو توهمهم أنهم مكلَّفون بتنفيذِ مهامِّ السلطات الثلاث التنفيذية أو القضائية أو التشريعية؛ (إذ لا يَصح أن يُطلب بها من لا يبدئ فيها ولا يعيد؛ فإنه من باب تكليف ما لا يطاق بالنسبة إلى المكلف، ومن باب العبث بالنسبة إلى المصلحة المجتلبة أو المفسدة المستدفعة، وكلاهما باطل شرعًا) (1).

وليكن على ذُكرٍ منك أنَّ من ليست له بفروضِ الكفايةِ قوةٌ وقدرةٌ على أدائها لا يصحُّ القول بأنه غير مكلَّف بها مطلقًا من كل وجه، بل يقع على عاتقه منها حِمْلُ الوزير، فهذا الفرض (واجب على الجميع على وجهٍ من التجوُّز؛ لأن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة، فهم مطلوبون بسدها على الجملة، فبعضهم هو قادر عليها مباشرةً، وذلك من كان أهلا لها، والباقون -وإن لم يقدروا عليها- قادرون على إقامة القادرين) (2) ، وهذا يسري على المسؤوليات الكفائية كلِّها، فالإعدادُ العلمي والصناعي والتقني لحماية الأرض والعرض والدين أو التهيُّؤُ لذلكَ فرضُ كفاية على الطلاب، وكفايتُهم من كلِّ وجه والإنفاق على مشروعاتهم فرض كفاية على التجار، زيادةً على ما وجب عليهم من زكاة؛ فإنَّ في المال حقًّا سوى الزكاة.

أسئلة البحث:

يُجمِعُ الناسُ أنَّ للنصرِ في كلِّ ساحٍ وكِفَاحٍ ركنًا ركينًا هو القوة، وأنَّ لهذا الركن جناحين: أحدهما مادي والآخر معنوي، وقوامُ الماديِّ تلاحم القادة والقاعدة، ناهيك عن أنَّ لكلٍّ منهما مسؤولياتٍ ينجم عن الوفاء بها أو التقصير آثار تنعكس على الفريقين.

وأمَّا الفصل والوصل بين مسؤوليات القادة والقاعدة، ثم القول الفصل في أحوال التأثر والتأثير بينهما، وكذا مراتبه وصوره ودرجاته، فتتبين خيوطه في الإجابة عن الأسئلة الآتية:

1- ما أثر امتثال القادة وقيامهم بمسؤولياتهم على أداء القاعدة لِما وجب عليها من مسؤولياتٍ كفائية أو عينية؟ ولك أن تعكس السؤال، فالعكس وجِيهٌ أيضًا.

2- ما علاقة النجاح أو الإخفاق، والتوفيق أو الخذلان، والربح أو الخسران، والنصر أو الهزيمة، بتكامل الأداء أو قصوره من أحد الطرفين أو من كليهما؟

3- ما الميزان العادل في قسمة الغُنم وتحمل الغُرم بين كلٍ من القادة والقاعدة؟

4- ما الطرق القويمة لتعزيز المصالح والمكاسب والإيجابيات في حالة المغنم، ودرء المفاسد والتبعات والسلبيات في حالة المغرم؟

إنَّ في هَدْيِ القرآن وحديثه عن وقائع في أُمم خالية ومواقع لأقوام بائدة لَعِبَرًا وعِظاتٍ، في خباياها إشاراتٌ هادية إلى إجابة كافية شافية عن هذه الأسئلة، وإليك هذه الأجوبة في مبحثين:

المبحث الأول: أثرُ المسؤوليات على القادة والقاعدة، وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: مسؤوليات القاعدة وأثرها على القادة.

المطلب الثاني: مسؤوليات القادة وأثرها على القاعدة.

المطلب الثالث: التأثر والتأثير في مسؤوليات القادة والقاعدة.

المبحث الثاني: التقييم والتقويم.

وأكثر المصادر غِنًى بالدروس والعبر في هذا السياق كتبُ التاريخ وأخبار الأمم والملوك والسير والتراجم، ففي طياتها عظاتٌ وبراهين على مضامين ما طرح من قضايا في هذا البحث، وأما الدراسات السابقة فلم أقف على دراسةٍ قرآنيةٍ تُعنَى بموضوع البحث رغم كثرة مَنْ طرَق قضية المسؤولية فكريًّا وفقهيا وقانونيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا وأخلاقيًّا (3).

=====-

( ) الشاطبي: الموافقات، (1/278- 280).

(2) المصدر السابق (1/ 283).

(3) المسؤولية الفردية في الإسلام: عدنان رضا النحوي، المسؤولية في الإسلام: عبد الله قادري الأهدل، المسؤولية الجماعية: النشمي.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين