الفراغُ العلميُّ في زَمَنِ الثَّوْرَاتِ العربيَّة (2)

الواقع المنظور والمتوقَّع المأمول للتعليم في الثورة

 

المبحث الثاني: الواقع المنظور والمتوقَّع المأمول للتعليم في الثورة

كان التعليم قبل الثورات وما يزال، لكنه تعليم يغذِّيه المستبد بعقيدته السَّرطانية وبفلسفة القائد الأوحد، ويَمْسَخُ جوهرَهُ أحيانًا من خلال العبَثِ بمناهجِهِ وبُنْيَتِه وفُرصِهِ وميزانيته وبالقائمين عليه على نحوٍ مَقيتٍ لا تحكمه ضوابط تربوية صِرْفة، ولا يختلف مِن هذه الزَّاويةِ تعليمُ دولةِ الإرهاب عن تعليم تنظيم الدولة والعِرْقِيِّين والجماعاتِ المؤطَّرةِ برؤى منغلقة أو المسيَّرةِ عن بعد أو التي ترى نفسَها هي الأمةَ والدولةَ والمدنيَّةَ ومن سواها رعاعًا، وإذا ما مُست مصالحها بسوء لم تبالِ بالعلم وأدبيَّاته ودأبتْ تسومُ الوطنَ والأمةَ سوء المؤامرة والخراب باستغلالها التعليمَ وجيشَه المبرمج.

المطلب الأول: الواقع المنظور للتعليم في الثورة

هُلمَّ نقلِّب الأوراق ونستنطق التربويين ونستذكر التاريخ منذ عام 2011م:

لقد كان من الملاحظ يوم أن قامَت الثورات أنَّ خريطة المظاهرات ضد الاستبداد رسمها المثقفون لا الأميون، فمِنْ أكثر مَنْ دعا وشاركَ واستبسل هم طلاب الجامعات أو الخرِّيجون، لكن هل يمكن القول بأن هذه الصفوة أخطأت القياس والتقدير وحدَسَتْ أنها ليست سوى بضعة أيامٍ أو أسابيع وتسقط الأنظمة وأقنعتها للأبدِ بلا عودةٍ ويعودون إلى مقاعد الدراسة أو التدريس؟ وإذا فرضنا أنهم خمَّنوا فوهِموا في التقييم فهل أخطؤوا التقويم أيضًا؟ وماذا دهاهم عندما رأوا أنه قياس مع الفارق وأن أيام المستبد تطول وتستطيل؟! لِمَ لَمْ يجعلوها ثورة على الجهل ومصالح الجهلة الجاهليين المؤيدين للاستبداد؟ أعني كيف غفل كثيرون منهم عن هذا وما عادوا للتعليم ولا قدروا تعليمَ الناشئةِ قدْرَهُ وهم أعرف الناس بأن الجهل هو دِمْنَةُ الاستبداد وسُفْعَتُه، فمنذ أن قامت الثورة المصرية كتب توماس فريدمان (الخطوة الثانية التي قد تعزز قوة الشباب العربي بعد الثورات قد تكون الثورةَ التعليميةَ التي قد تهيئ لهم فرص العمل)، وتحدث عن مبادرة تدريب معلمي المدارس على تعليم التفكير الخلاق وحل المشكلات في الفصول الدراسية بالأردن فقال: (إن ذلك سيكون ربيعًا عربيًّا حقيقيًّا، وإن الثورات العربية ربما لا تنجح في خلع الحكام المستبدين بدون تمكين الجيل الجديد من الشباب العرب بهذا النوع من الثورة في التعليم، فالثورات لن تعزِّز بأي حال من الأحوال قوةَ الجيل الجديد في ظل غياب الثورة في التعليم)(1) ومَنْ للثَّوَارِ أَنَّه إن انقشعت ظلمات هذا المستبد ألّا يأتي جيل الجهل بمستبد أدهى وأعتى وإنْ بالطرق الديمقراطية؛ فإنّ من عيوبها مساواةَ صوتٍ ثمنُه رغيف خبز أو صوتِ جاهل خانع قابع بل قانع بسطوة المستبد عابدٍ له بصوتِ أعلى الناس علمًا ونزاهةً وحريَّةً في الفكر والرأي؟! ومن أدرَى هؤلاء الصفوة الجامعيين أنه - في غفلةٍ منهم وليس ببعيد عن ضروب هذا الجاهل - تَكَاثَرَ أناسٌ على ضِفاف الثورة مسخوا التعليم وناصبوا العربيةَ العداء وحالفوا الأعداءَ، وآخَرون ابتُسِروا في كهوفِ غَلَسٍ لا يرون فيها العلمَ إلا ورقةً تسردُ نواقضَ إيمانِهم ورسالةً في عقيدة مذهبية، وبهما يغدو تحرير الشام واليمن والقدس وأراكان كلمح البصر أو هو أقرب، بل بهما سيفتحون العالَم بغزوات مباركة، فهما أمضى سلاحٍ... وأمَّا {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: آية 60] فلا تحفزهم لتعلُّمٍ أو إبداعٍ في صناعة سلاح أو اختراع في تقنيات حربية مُعِيْنة مثلًا بل إنهم بعلمِ العدو وصناعتِه وسلاحه سيقاتلون وينتصرون، ومن لكَ برجلٍ يقتل عدوَّه بسلاحه فهل ثمة أشجع منه! وكأنَّ عين الشاعر الهراوي لم تقع على من هو جدير بالمديح سواه، فأشبعه إطراءً حتى جعل منه هُزْأَة:

وأخو الجهالة في الحياة كأنَّه ساعٍ إلى حربٍ بغير حسام

المطلب الثاني: المستقبل التعليمي من زاوية الواقع في هذه الفترة

في ضوء محدِّدَات مشكلة البحث المطروحةِ يتبيَّن أنَّ المعضلةَ موضوعَ البحثِ تربويةٌ لا تعليمية فحسب، فلهيبُ أُوارها يسفعُ كل تخصصٍ وميدانٍ وصفٍّ وقاعةٍ دَرْسِيَّة، ولا يَهِمَنَّ واهمٌ أنَّ البيت وحدَه _رغم أهميَّته_ يصوِّب ما تُلقِّنه المدرسة للطفل؛ فإنَّ أحدًا لا يجهل أنَّ الطفل يكاد لا يرى صوابًا وحقًّا في شيء يقال له ما لم يطابقْ ما قيل له في المدرسة، وعليه؛ فَهَاؤُمُ اُنْظُرْ بعينِ حصيفٍ ثم أجبْ إن وجدت للكلام منزعًا:

هل تخيّلتَ يومًا عصاباتٍ كدَّستهم أنظمةُ الاستبداد أو الاحتلال على أنَّهُمْ معلِّمُون بعدما مُنحوا بين غسق الليل وسُدْفتِهِ بطرقٍ شتَّى شهادات لا تبلغ قيمة المداد الذي خُطَّت به، فإذا بأروقة الجامعات والمدارس في وطنك الأمِّ تغصّ بهؤلاء الْمُرْجِفِيْنَ الصادِّين عن سبيل العلم، وتستغيث بالعلم وأربابه، ومن سَموم أولئك المعوِّقين المُثبِّطين تستعيذ وتستجير؟

أَتَصَوَّرت هؤلاء العبيدَ القَتَلة على منصَّات التعليم يربُّون أبناءَك بعدما عادوا إلى مدارسهم أو جامعاتهم في وطنهم الأُمِّ؟

ماذا عسى أن يعلِّمَ أولئك أحفادَكَ، وعلام تظنُّ أن يربوهم وينشئوهم؟ لا أحسبك نسيت أن المثل الأعلى بل الرب الأعلى لقوم فرعون هو هو معبود هؤلاء! أتراك نسيت مقالته {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} [غافر: آية 29] فلئن غرِق فرعون وسقط حكمه فإن من ورائه فراعنة لا يرون إلا ما يَرى هذا المستبد، وهم إن لم يحكموا الرقاب والأشباح فإنهم يحكمون العقول، ويفسِدون الأرواح باعتلائهم منصات التعليم ليستأنف حَفَدَتُك مسيرة الخنوعِ والعبودية لِمستبدٍّ آخر يصنعه هذا الفراغ، فبعدَ قمع الثورات المناهضة للفرنسيين في الريف المغربي استدعَى قائد الحملة المسؤول عن التعليم وقال له: لقد أخضعنا لكم الأبدان، وقضينا على مقاومة الشعب، فعليكم إخضاع العقول عن طريق التعليم(2).

أتَرَى هذا الوطن قدَّمَ كل ما ترى من شهداء وتضحيات ليعتليَ عبيدُ الاستبدادِ منابر العلم والتربية ويحتكروا تربيةَ أبنائك وتعليمهم وها أنتَ ما زلت تُقسم أن تَبقَى أنت وأولادك اليومَ أُمِّيين لتنفقوا العمر في كسب ليرةٍ من هنا أو قروشٍ من هناك، وتعودوا غدًا بعقلٍ خاوٍ وجيبٍ ملآن، بينما قد سطَا أولئك على عروش العلم ومراكز بحوثه ومختبراته؟؟!

تلك إذًا كَّرَّةٌ خاسرةٌ وسوق بائرة لا رواج لها ولا نَفاق! فما ربحتْ تجارة قومٍ اشتروا الجهالةَ بالعلم والتعليم.

وبينما يستحسنُ هؤلاء الآباء في أبنائهم أن يروا فيهم عمّالًا مجهودِين جُباةً للمال وإن عاشوا وماتوا أميِّينَ، ويرى الذين عسكروا الثورات أسيرَ الحرب مَغْنمًا وكنزًا ثمينًا، وجدنا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى في أسرى بدرٍ ما هو أثمن من الفداء بالمال، ولو شاء لأخذَ من كل قبيلة على فداءِ أسيرها مالا جمًّا، لكنه اكتفى بأن يعلِّم الأسرى القرءاةَ والكتابةَ لأطفالِ الصحابة ثمنًا للحريَّة، ولو شاء لقال: إن دولتنا وليدة ناشئة وأموال مواطنيها مصادرة فالمال أهمُّ من محو الأمية لمجموعة من الأطفال لا سيما أننا على أبواب تأسيس دولةٍ قوية، لكنه التَّعليم الذي به تقوم الدولة وعليه ترتفع راية الأمة... وفي اليابان خاصَّة وماليزية وتركية تجاربُ مشهودة، فهي ما قامت ولا نهضت ولا تحرَّرَتْ ولا أسَّسَتْ دولةً مهيبةً محترمةً ولا ازدهر اقتصادها إلا بالعلم وجودة التعليم والإبداع، وهذه النَّهضة آتت أُكُلَها حتى جنَى من جِنانها كل مواطنيها لا سيما المتعلمين والمبدعِين والمخترعين؛ لقدْ قدرت دراسةٌ لمؤسسة أنقذوا الأطفال عامَ 2015 أنَّ السوريين الذين لم يُكْمِلُوا تعليمَ المرحلة الأساسية من المرجَّحِ أن يحصلوا على أجور أقل بنسبة 32% من أجور نظرائهم ممن أنهوا دراستهم الثانوية، وأقل بنسبة 56% مقارنة بمن تخرَّجوا في الجامعة(3).

واليوم ها قد انصرمت سبع عجافٌ ناصَر العالم المتحضر فيها المستبدِّين السفَّاحين قتلَةَ المدنيِّين المسالِمين والأطفال النِّيَام بالكيماويِّ والمحارِق الجماعية، وعاد السؤال يطرح نفسَه كرة أخرى: أيهما سقط الاستبداد أم التعليم؟ وهل فات ثوارنا في البلاد العربية كلِّها يومئذٍ أن يضعوا خطة بديلة لإسقاط الاستبداد، وقوامها التعليم والتربية والاختراق؟ لا سيما أن التهجير والاغتراب أتاح لكثيرين فرصًا تعليميّة نادرة رغم أنه كان سببًا للحرمان من التعليم في حالات ليست قليلة لعوامل أهمها اللغة وظروف أخرى.

وإذ إن الثورة والتعليم متلازمان فلنؤكِّد صوابَ القول بأنَّ الاحتفاظَ بجوهر يستعصي على التغيير في عالم كثيرِ التحول شيءٌ يعادل بقاءَ كوكبٍ في مدارِه أو قلبٍ على نظام حركته(4)، وأنَّ صِمامَ أمان هذا الجوهر هو بناء الشخصية الريادية التي من أهمِّ أركانها العلمُ وملكة الفهم والشعور بالمسؤولية، وكلُّها منوطةٌ بالتعليم والتربية معًا؛ وبناءً على هذا كلِّه نؤكِّدُ أنَّ الثائر الجاهل المستهتر لا يعدو أن يكون ريشةً في مهبِّ ريح، لون الحرباء صِبغتُه والتغيُّرُ طبعُهُ وثباتُهُ مستغرَب؛ وإنِّي لَأَذكُر أنه بينما كان ثوّرانا الجامعيّون يقضون العجب - وهم يرون رفاق دربِ الثورة صالَحوا دولة الإرهاب والاستبداد واصطفوا في خندق مليشياتها أو لحقوا بتنظيم الدولة لقتال إخوةِ الأمس الأحرار - كنتُ أكرِّر: الشيء من معدنه لا يُستغرَب، تتَّبعوا ماضي وحاضر هؤلاء القتلَى الهلْكَى المصالحين المصطفّين في ركاب إرهاب الدولة وتنظيم الدولة على جبهات القتال، فلن تجدوا فيهم عالِمًا أو متعلِّمًا أو مستمعًا، وهذا سرُّ هلاكهم، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: ((اغْدُ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا أَوْ مُسْتَمِعًا أَوْ مُحِبًّا، وَلَا تَكُنِ الْخَامِسَةَ فَتَهْلِكَ)) قَالَ عَطَاءٌ: (قَالَ لِي مِسْعَرٌ: زِدْتَنَا خَامِسَةً لَمْ تَكُنْ عِنْدَنَا، قَالَ: "وَالْخَامِسَةُ أَنْ تُبْغِضَ الْعِلْمَ وَأَهْلَهُ)(5)، ولا أدلَّ على الهلاك الناجم عن الجهل من هذا التقلب العُجَاب وذاك الأداء الإداري الضعيف في بلادٍ حكمَها ثوارٌ قادتُهُم إمَّا حِرْفِيُّون لم تخطَّ أيديهم كلمةً تُدار بها غرفةٌ يقطنها بضعة أنفار وإمَّا ظلاميُّون لا يرون العلم سوى جهالاتٍ مطبقةً يكفِّرون بها من شاء ليستبيحوا دمه وماله وعرضَه.

واليوم وقد كان ما كان وفشَتِ الأمية وأعرضَ القوم عن المدرسة وشغلتهم دنيا الوهم في جمع قروش أو إسقاط عروش سرعان ما تعود لِتُشيَّد على جماجم جهلٍ صنعَتْه هتافات مخلصة هدَّارة؛ لكنها خطَّت بمعاول تجهيلٍ هدَّامة (لا دراسة ولا تدريس حتى يسقط الرَّئيس)، فهل من مغيث اليوم تحمله حميّة الغيرة على عقول تستغيث لدفع الصائلين عليها؟! لقد عزَّزتْ هذه الشعاراتُ وخشيةُ الاعتقالِ والقصفِ التسرُّبَ من التعليم حتى وصلت نسبة الأطفال المحرومين من الدراسة بسبب الصراعات في هذه الدول 40% وفقًا لتقرير منظمة الأمم المتحدة للأمومة والطفولة في 3 أيلول 2015 بعنوان (التعليم تحت النار)(6)، ومردُّ هذه المعضلةِ إلى موانع وعقبات بعضها لا مفرَّ منها كما في الرعب المتولِّد من قصف الطائرات عشرات المرات للمدارس أثناء الدوام، ولبعضها مخارج محدودة الأثر عمل الثوار ومؤسسات المجتمع المدني على تجاوزها ما أمكن كما في تدمير المنشآت التعليمية واستهداف المعلمين واستنزاف الموارد، ولتذليل هذه العقبات انبعثت مدارس المخيمات ومبادرة جيل غير ضائع وحملات العودة للتعليم وعمليات إعادة إعمار بعض المدارس، لكنَّ من لم تحصِّنهم هذه المؤسسات تلقفتهم التنظيمات الإرهابية في صفوفها كما في اليمن والعراق وسورية، ويجري توظيف هؤلاء الأطفال لتكريس سموم التطرف والتكفير والصراع والانفصال والانتماءات والولاءات الطائفية والعرقية ورفض الآخر لدى الأجيال الناشئة.

المطلب الثالث: المتوقَّع المأمول لمستقبل التعليم في الثورة

تعليمُ دولة الثورة المنشودُ تعليمٌ صِرْفٌ قِيْمِيُّ محايد محاطٌ بقيمٍ تربويةٍ لا يختلف عليها اثنان، هدفُهُ تكوينُ العقلية الموضوعية العلمية المؤسسة على النظر والاستنباط والبرهنة والاستدلال، وبناءُ الإنسان الذي به تُبْنَى الحضارة والدولة وقاعدتُها وقيادتها أيًّا كان عِرْقُ هذا الإنسان المستهدَف بالتعليم أو دينُه؛ فالعلوم الحياتية ميراث إنساني ليس حَكْرًا على مِلَّةٍ أو دين، يقول أبو بكر الرازي في كتابه الموسوعي الحاوي في تاريخ الطب: (لقد جمعت في كتابي هذا جملًا وعيونًا من صناعة الطب مما استخرجته من كتب أبقراط وجالينوس وأرماسوس ومن دونهم من قدماء فلاسفة الأطباء، ومن بعدهم من المحدثين في أحكام الطب مثل بولس وآهرون وحنين بن إسحاق ويحيى بن ماسويه وغيرهم)(7) ولما دخل الناصر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى مصر كان بصحبته ثمانية عشر عالمًا في الطب، منهم ثمانية مسلمون وخمسة يهود وأربعة من النصارى وسامريٌّ واحد(8).

وما إنْ أنْ أَنهكتِ الثورةَ السنون وكادت تتآكل بأنياب المتآمرين بقصدٍ أو عن جهالةٍ حتى عادَ الثوار ليستيقنوا ما برهنت عليه سنن التاريخ مرارًا مِنْ أنَّ التعليم سلاح التغيير، وأنه كان لِزَامًا على الثوْرَات لتحقق انتصارًا لا هزيمةَ بعدهُ أن تتخذ من العلم منارة لها حتى يبلغَ العلمُ بها مبلغًا، ويكونَ للتعليم ومؤسساته المستقلّة لا غير القولُ الفصل في التغيير من الجذور لكلٍّ من المفاهيم والسلوك، وليغدوَ البحث العلمي بقوَّته التي يذعن لها العامة والخاصة موئلًا للساسة ورجال الأعمال معًا، ويمكن تصوُّر مرجعيةِ العلم ومؤسساته على النحو الآتي:

1 _ تصبحُ لمؤسسة البحوثِ العلمية وخصوصًا التجريبية هيئةٌ قانونيةٌ لتقييم الأداء الحكوميِّ في مجال التعليم والبحث العلمي بحيثُ تُلْجِئ السياسيِّين مثلًا إلى أن يجعلوا رضا المؤسسات العلمية جُلَّ همِّهِم في دعاياتِهِم الانتخابيةِ وإدارتِهِم للدولة لاحقًا.

2 _ تَحْمِلُ منزلةُ مراكزِ البحوث ومؤسسة براءاتِ الاختراع الشركاتِ والمصانعَ العملاقةَ على أَنْ تلتمس من المؤسسات العلمية المختصة إشراكَها في الإبداع ونفقاتِه لتحصل منها على تزكيةٍ في مجالها تسوِّق بها لنفسها.

3 _ تبعثُ منزلة العلوم السامقة الوعيَ في المتديِّنِيْنَ الأغنياءِ والمنظماتِ الداعمة للثورة ليستيقنوا أنَّ الإنفاق على البحوثِ والمخَتبرات وعلى الباحثين المغتربين هُوَ أفضلُ بألفِ مرة من نفلِ ألفِ حج وعمرة وأعدلُ من إنفاقِ التبرعات كلِّها على القوةِ لمقاومة العدو المستبد وأعوانه المحتلين ((إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُدْخِلُ الثَّلَاثَةَ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ الْجَنَّةَ: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، وَالْمُمِدَّ بِهِ، وَالرَّامِيَ بِهِ))(9).

4 _ يبرهنُ العلمُ بأثره في الدين والدنيا لِمَن كان في مَيْسَرةٍ من المتقين على وجهةِ نظرِ فريقٍ من فقهاء المفسِّرين القائلين: إنَّ للعلم وأهله ومؤسساته بأنواعها كلِّها الشرعية والحياتيّة من الزكوات المفروضةِ نصيبًا مِنْ سهمَيْ {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] لا سهمًا واحدًا فحسب كالفقراء ناهيك عن الأوقاف والتبرعات، (حدَّث ابن جبير في رحلته التي قام بها سنة 580 ه تقريبًا أنه رأى في بغداد عاصمة الخلافة العباسية حيًّا كاملاً من أحيائها يشبه المدينة الصغيرة، يتوسطه قصر فخم جميل، تحيط به الحدائق والبيوت المتعددة، وكان ذلك وَقفًا على المرضى، وكان يؤمه الأطباء من مختلف التخصصات فضلا عن الصيادلة وطلبة الطب وكانت النفقة جاريةً عليهم من الدولة ومن الأوقاف التي يجعلها الأغنياء من الأمة لعلاج الفقراء وغيرهم)(10).

هذا والحكم العام في المطلب السابق على الثوار الجامعيين بأنهم أخطؤوا التقويمَ وترتيبَ الأولويات إبَّانَ الثورةِ إنما هو مقصورٌ على مدى اهتمامهم بتعليم الجِيْل، أما إطلاق هذا الحكم على دراستهم الشخصية فليس صحيحًا، فقد كان فيهم من يغامر بل يقامر بحياته وهو يتصدَّر مظاهرة، فإذا انفضَّت أكمل طريقه إلى المحاضرات في جامعة الثورة ماضيًا قُدُمًا إلى كلية الهندسة المعمارية التي مُنِيَت بحصة الأسد من قصف الطيران مطلع عام 2013م مردِّدًا العلم طريق الخلاص، ومثل هذه القناعة هي التي حملت السوريين على خوض غمار هذه المجازفةِ التظاهرِ والدراسةِ معًا، فهم يتظاهرون ثم يهرولون إلى القاعات الدَّرْسية وهم موقنون أن الاعتقال ليس عنهم ببعيد.

وثَمَّةَ آخرون تركوا كليات الطب ونشطوا في الإغاثة لكن لما حانت فرصة المنح لمتابعة التعليم الجامعي أو الحصول على الدكتوراه في المهجر هُرعوا إليها كما فعل كثيرون في سورية وفلسطين المحتلة لا سيما أهل غزة المحاصرة؛ لأن العلم طريق الخلاص فبه سيخدمون وطنهم من طريق أقوى وأقوم، لا سيما أنهم أتقنوا لغات شتَّى، فترجمة العلوم أول خطوة للبدء من حيث انتهى الآخرون، وما قولك في أنَّ الخليفة المأمون كان يوفِد بَعثات علمية(11) ويَهَبُ من يترجم كتابًا إلى العربيةِ وزنَه ذهبًا وما أدراك بوزن ورَقِ ذلك العصر!(12) وفي عهده صارت بغداد العاصمة العلمية العظمى في الأرض فجمع إليها كتبا لا تحصَى وقرَّب إليه العلماء وبالغ في الحفاوة بهم(13) بل ما قولك في أنّ من الخلفاء العباسيين من كان يأخذ من العدوِّ المخطوطات والكتب العلمية بدل الجزية!(14)... إذًا أليس الأجدَى من التباكي على التعليم في هذه الحِقبةِ هو حثّ منظمات الثورة والمجتمع المدني للعمل على إعدادِ برنامج اتصالٍ وجداول عملٍ ودعمٍ إعلاميٍّ ومادِّيٍّ ومعنويٍّ تَسْتَهدِفُ الاتصال بالمغتربين الدارسين في المهجر والعنايةَ الفائقةَ بهم لضمان عودة جلِّهم أو فريق منهم لوطنه بعد تخرُّجه وإلا عدنا بخفَّي حنين.

هذا ولئن كانت العناية بالتعليم والمِنح تُعدُّ فرارًا من الزَّحف الثَّوريِّ في رأي فئةٍ يومئذٍ؛ فإنَّ كثيرًا من المهاجرين يرون في التعليم سلاحًا نوعيًّا وخطة بديلة للتغيير في المستقبل، ولو أن الفئة الأولى حكَّمت العاطفة والحماس والعقل والتخطيط المستقبلي معًا لعلمت أن كل المسارات ضرورات لا خيارات يجوز إغفالها؛ فما خرج النبي صلى الله عليه وسلم للقاء عدو في معركة يومًا إلا وخلَّف في المدينة من يعلِّم الناس والوفود {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [التوبة: 122]، وتلك هي وظيفة الرِّدء التي كان يقوم بها هارون الْمُبيِنُ المعلِّم مع موسى عليهما السلام، فمن ألزم الناس جميعًا يومئذٍ بمسار واحد رُئيَ يتباكى على جرحَى يلفظون أنفاسهم عندما لم يجد أطباء من حوله، ومن أين له الأطباء إن لم يدرس أحدٌ الطب على مذهبِه الملزم للجميع بالسير في مسار واحد؟ إنَّ أعظمَ ثائرٍ على الباطنيين الذي أصاب بنظرته الثاقبة بأن طريق تحرير القدس يبدأ بالخلاص من كيد الباطنيين هو الإمام العادل الشهيد نور الدين محمود الزِّنكي رحمه الله تعالى، وبينما كان يمضى قُدُمًا في جهاده ضد الباطنيين ومِن ورائهم الصليبين واليهود كانت عنايته بالتعليم فائقة، ففي ذلك الوقت عام 549 ه أسَّسَ كلية الطب العريقة (المستشفى النوري الكبير) وهو من أجل المؤسسات الطبية وأعظمها في التاريخ، وما زال يخرِّج الأطباء في قاعاته العلمية ويعالج المرضى حتى عام 1317 ه/1899م أي نحو ثماني مئة سنة(15).

فأين ثوارنا أصحاب الاتجاه والمسار الواحد من هذا الوعي الرشيد؟ ثم إنك سوف ترى فيهم من يتباكى وهو يعاينُ الشركات الأجنبية تأتي بمهندسيها وخبرائها لإعادة الأعمار، وليس لأبناء الوطن يومئذٍ سوى التحسُّر على ما فات:

والجهل يخفض أمةً ويذلُّها والعلم يرفعها أجلَّ مقامِ

انظر إلى الأقوام كيف سمَتْ بهم تلك العلومُ إلى المحلِّ السامي

الحلقة الأولى هـــنا 

المصدر: مجلة مقاربات ، العدد الثاني 

المجلس الإسلامي السوري 

------------

(1) http://www.aljazeera.net

(2) حسن إبراهيم أحمد: استمرارية التاريخ ما بين صدام المصالح وحوار الحضارات، دار رسلان، 2016م، ص 183.

(3) http://midan.aljazeera.net/reality/community/2017/1/28/

(4) د. عبد الكريم بكار: منشورات صفحته على الفيس بوك.

(5) أبو الحسن نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، تح: حسام الدين القدسي، الناشر: مكتبة القدسي، القاهرة، 1414هـ 1994م (1/ 122)، وقال الهيثمي: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الثَّلَاثَةِ وَالْبَزَّارُ، وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ.

(6) https://aawsat.com/home/article/988056/ رياح الحروب تقفل أبواب المدارس.

(7) أحمد بن القاسم أبو العباس ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تح: الدكتور نزار رضا، دار مكتبة الحياة، بيروت 1/70.

(8) راغب السرجاني: العلم وبناء الأمم، مرجع سابق، ص112.

(9) أحمد بن حنبل: المسند، مرجع سابق، (28/ 532) رقم الحديث (17300) قال محققه: حسن بشواهده ومتابعاته.

(10) مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا، دار الوراق للنشر والتوزيع-المكتب الإسلامي، 1420-1999، ط1، ص118.

(11) أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن القِنَّوجي: أبجد العلوم، دار ابن حزم، ط1، 1423 هـ- 2002 م، ص: 146. وفيه قال: (أوفد المأمون الرسل على ملوك الروم في استخراج علوم اليونانيين وانتساخها بالخط العربي، وبعث المترجمين لذلك، فأوعى منه واستوعب).

(12) شوقي أبو خليل: الحضارة العربية الإسلامية، دار الفكر المعاصر ودار الفكر، 2002م، ص 442.

(13) راغب السرجاني: العلم وبناء الأمم، مرجع سابق، ص185. نقلا عن دوبير في كتابه: المنازعة بين العلم.

(14) علي عبد الله الدفاع: روائع الحضارة العربية الإسلامية في العلوم، مؤسسة الرسالة القاهرة ط2، 1999، ص25.

(15) مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا، مرجع سابق، ص 116.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين