الفراغُ العلميُّ في زَمَنِ الثَّوْرَاتِ العربيَّة (1)

 

تمهيد

هبْ جَدَلًا أنَّ ظلام الاستبداد أَلَمَّ ببريقِ الأملِ في التغيير أو كاد يَحِيق به: أَوَليسَ في الصَّحوة الفكرية التي أثمرتها ثوراتنا بوارقُ تبشِّر بميلاد نجمٍ ساطع يتسلل من بين السُّدُفِ والحُجُب؟ ووَفْقًا لرؤية توماس كون في كتابه (بُنْيَة الثورة العلمية) فإنَّ التفسيرَ العلميَّ لإمكانيةِ ولادةِ نهضةٍ بعد الكَبْوة أو للإقلاع بعد الهبوط: أنَّ الأنموذجَ (الثورةَ البارادايمَ) كشفت بمرور الزمن أحوالًا وأنماطًا شاذَّةً عن النَّسق الثوريِّ وأهدافِهِ السامية، وما زالت هذه الصُّور تتراكم حتى غدتْ ظاهرة يتوقَّع أن تتوَّلد عنها أزمة تبشِّرُ بثورةٍ من نمطٍ آخَر لا يقوَى الاستبدادُ وقوى الشرِّ مجتمعةً على قمعها، ولهذا الادِّعاء شواهده في الثورة الفرنسية؛ فإنَّ أقرب ما قيل في تفسيرها أنها ثورة عقليَّةٌ تنويرية على عصور ظلامهم.

ولعلَّ أهمَّ ما كُتِب في لُبَابِ قضية البحثِ هو كتاب (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) للعلامة محمود شاكر رحمه الله تعالى، فلا أنفع ولا أجْدَى للأمَّة في ليالي الدَّواهي هذه من أن يتدارسَه روَّاد نهضتها ليستلهموا منه العِبر ويرسموا بفرجاره دوائر انبعاثهم المتداخلة ويقفوا من خلالها على مركز نهضتهم ومحورها وأقطارِها، ثم يعيدوا قراءتَه مرات وكرَّات بتدبُّرٍ واستنطاق، ويترجموه إلى أنشطة وفعَّاليات بحثيَّة وفكريَّة ثريَّة تتولَّدُ منها رؤى عميقة تحملهم على التخطيط لبرامج عملية واستراتيجيات قابلة للتطبيق على المدى القريب والبعيد، فإنْ كُنَّا كما قالت أَمَل: (ربما نُنفق كلَّ العمر كي نثقبَ ثغرةً ليمُرَّ النور للأجيال مرَّةً) فلنجعلْ من هذه الرسالة مَسْرًى لجيلٍ راشدٍ إلى مستقبل واعدٍ.

ومن الدراسات المهمة أيضًا كتاب "العلم وبناء الأمم" للدكتور راغب السرجاني، ولا بدَّ من القول بأن كتاب توماس كون "بنية الثورة العلمية" ذو قدرٍ في هذا الباب وإنْ لم يكن في صلب الموضوع؛ ففيه إيحاءات تنير زوايا مظلمة في الفكر العلمي لثورات التغيير الفعَّال.

الكم والكيف مُحدِّدان رئيسان ومعياران مقبولان للحكم الصحيح على واقعيةِ العلم والتعليم في زَمَنِ الثَّوْرَاتِ العربيَّة، فلا بديل عن الاستبانات الحاصرة لمتغيِّراتهما ودراستها إحصائيًّا، ولا معنَى للاشتغالِ بتخمين عددِ العلماء والأساتذة المخلصين المرابطين الجاثمين على صدور المستبدين في خَفَاءٍ، ولا لحدْسِ ما يمكن وما لا يمكن أدلجته من مناهج التعليم ومؤسساته؛ فمنعًا للاعتراض على بعض أحكام البحث بتخمينٍ كهذا وجب النَّصُ عليه، فهو احتراس أو احترازٌ وليس من المصادرة على المطلوب في شيء، والآن إليك مشكلةَ البحث في الأسئلة الآتية:

_ ما مدى الفراغِ العلميِّ والشَّاغِر التربويّ التعليميّ الواقع والمتوقَّع في الأزمنة الثلاثة بدءًا من عام 2011م حتى اليوم؟

_ وما التصورات المقترحة لسدِّ هذا الفراغ في ضوء اختلاف المتغيِّرات من بلدٍ إلى آخر ومن ظروفٍ وأحوالٍ إلى أخرى؟

_ وما الوسائل المتاحة لإسقاط هذه التصورات على الواقع؟

_ ومن المسؤول عن ترجمة هذه التصورات إلى واقع في نَيْرِ حالةِ الشَّتَاتِ والهجرةِ وقهرِ الاستبداد؟

ولتيسير الاستدلال على صِدْق التفسير العلميِّ المذكورِ صدْرَ المقدِّمةِ عُنِيَ هذا البحث برصدِ أهمِّ الأنماط (الفراغِ العلميِّ في هذه الفترة)، فتضمَّن تمهيدًا شمِل أهمَّ الدراسات السابقة وأسئلةَ الدراسة، ومباحث:

المبحثُ الأول: العلمُ والتعليمُ وبناءُ الأمَّةِ والدولةِ (الاستخلافُ في الأرض).

المبحث الثاني: الواقعُ المنظور والمتوقَّعُ المأمول للتعليم في الثورة، وفيه مطالب:

المطلب الأول: الواقع المنظور للتعليم في الثورة.

المطلب الثاني: المستقبل التعليمي من زاوية الواقع في هذه الفترة.

المطلب الثالث: المتوقَّع المأمول لمستقبل التعليم في الثورة.

المبحث الثالث: ظواهرُ التعليم السبعُ في السنواتِ السَّبْع.

خاتمة البحث ونتائجه وتوصياته.

المبحثُ الأول: موقع التعليم من بناء الأمة والدولة

تأتي أهمية هذه الدراسةِ من كونها منوطةً بالتعليم والتربية في زمن ثوراتٍ إقليميةٍ تهدف إلى تغيير إيجابي يَبْنِي دولًا قويَّةً يُحْتَذَى بها، والجديرُ بالذِّكر أنَّ الحديثَ عن هذا الضربِ من التغيير عندما ينبني على أسس العلمِ الْمَشْيدِ والتعليمِ الجيِّدِ الرَّشيد يغدو من المسلَّماتِ وثوابتِ النَّمطِ الحضاريِّ للثورات، وهذا ما ذهب إليه كوكبةٌ من دُعَاةِ السِّلْمِ وحمَلة راية الإصلاح والسلام في العالم أمثال نيلسون مانديلا القائل: (التعليم هو أقوى سلاح يمكن أن تستخدمه لتغيير العالم)... وبات من المسلَّمَات أيضًا أنَّ الغرضَ من العلمِ والتعلُّم هو التحكُّم بالطَّبيعة وعناصرها واستغلالها وتسخيرها لصالح الإنسان؛ ليسخِّرَ الإنسان نفسَه لمعرفة ذاتِهِ وخالقه من خلال عمارته للكون عن علمٍ وخبرةٍ ودرايةٍ {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان: الآية 20] وتلك هي أولى خطوات بناء الإنسانِ (الدولةِ) الذي بسواعده وقوَّتِه ووعيه وعقله تؤسَّسُ الدولةُ وقاعدتُها وقيادتُها {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} فكان الجواب: إنَّه اصطفاء خُصَّ فيه ذاكَ المصطفَى بعلمٍ وقوةٍ {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247] ومن علمِ طالوت الذي خُصَّ به التخطيطُ العسكري وفنُّ القيادة والإدارة( )، فأين تخصصات التعليم كلها من إعداد خِطَّةٍ شاملةٍ لكل مجالٍ واختصاصٍ لدعم الثَّورات علميًّا وتربويًّا؟ وهل كان لهذه العلوم وأساتذتها دورٌ فعَّال في دحرِ الاستبدادِ وتأسيسِ الدولة؟ بل أيُّ معنًى للاستخلاف في الأرض الذي به يحلم أقوامٌ منَّا إذا اتَّكأَ الخليفةُ (الإنسان) على صناعةِ واختراعِ عدوٍّ ينازعه خِلَافةَ الأرضِ اتكاءً يُعَدُّ به متخلِّفًا لا مُستخلَفًا أو إذا لم يكن هذا المستخلَف على علمٍ ودرايةٍ بمستوَى {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: آية 31] ليَعْرِفَ بهما كيف يعمر الأرض {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: آية 61] وليُدرِك بهما ماهيةَ وأنواعَ وأشكالَ وضروبَ ودرجاتِ الصالحاتِ التي تؤهله للاستخلاف الموعود {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور: 55].

وإذا كان مقتضَى الاستخلاف أن يكون المستخلَفُ على علمٍ بما تقوم به الأرض وجبَ البحثُ في أمرينِ ربَّما لا يكون أحدٌ حقيقًا بالخلافة بدونهما:

الأول: على المتطلِّعين للاستخلافِ من أهل الإيمانِ الوعيُ بمدلولِ الأرض التي استُخلِفوا فيها وبحدودِها وطبيعتِها وكنوزِها ومفاتيحها وعناصرِها ونشأتها وكلِّ ما عليها، {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت: 20] وَتِلْكُمْ فريضةٌ تقتضي علمًا وبحثًا وإحاطةً بقارات الأرض المكتشفة كما تفرض على المستخلَفِ إعدادَ علماء باحثين كشَّافة رحَّالة من أجل البحث عن مناطق يحتمل أنها لم تكتشف بعدُ؛ ليبلِّغَها الرسالةَ التي صار بها مستخلَفًا في الأرض ولِيُقدِّمَ لها ما تحتَ يدِه مِن خِدْماتٍ يعمرها بها كي يصدق عليه أنَّه خليفة الله في الأرض، وإلا فبأيِّ معنًى يُسَمِّي نفسَهُ خليفةً؟

وهذه الوظيفة المنوطة بالاستخلاف هي عينها التي حمَلت علماء المسلمين الأمويين الأندلسيين ثم العثمانيين على الضَّرْب في مشارق الأرض ومغاربها سعيًا منهم إلى امتثال أمرٍ ورد بأسلوب الخبر والبشارة: ((لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ))( ) فرأى أولو الأمر من السَّلف أمراءً وعلماء في مثل هذه الأحاديث تكليفًا يفرض عليهم البحث والتنقيب عن المعلوم والمجهول من الأرض، فهذا طارق بن زياد يناجي ربَّه مِن سواحل البحار (اللهم إنك تعلم أني قد بلغت المجهود، ولو أني أعلم أن خلف هذا البحر بلادًا لخضتها، أقاتل في سبيلك، حتى لا يبقى على وجه الأرض من يكفر بك) وأمَّا مِن بعد طارق فما حالت البحار دون محاولتهم اكتشاف أمريكة والقارة القطبية الجنوبية، وأشهرهم: العلامة البيرونيّ( )، ومن قبلِهِ خشخاشٌ البحريّ يوم أن أبحر بسفيتنه من لشبونة إلى بحر الظلمات (المحيط الأطلنطي) سنة (235ه 850م)، فاكتشف هناك جزيرة عامرةً بالسكان، ثم عاد منها بهدايا قدَّمها لحاكم الأندلس عبد الرحمن الثاني، فكافأه الأمير بتعيينه أميرًا للبحرية الإسلامية، ثم تتابع الكشف على يد عُصبة من عربِ المغرب ثم فريق من الفتية المغرَّرين الذين تقدَّموا على غيرهم كالغُرَّةِ وعادوا إلى لشبونة، فاحتفى بهم أهل الأندلس أواخر القرن العاشر الميلادي( )، وعندما تحدَّث كريستوفر كولومبوس عن الهنود الحمر في أمريكا قال: إنَّه كان يعتقد أنهم من سلالة العرب الذين سبقوه( )، ومما يبرهن على ذلك خرائط البحارة العثمانيّ بيري ريس في القرن الخامس عشر الميلادي، وتاريخُ رسمِها المدوَّن فيها يُثبت أنه أَتَمَّ رسمَها قبل كولومبوس بثلاثةِ عقود، بل إنَّ في خرائطه خريطة تفصيلية للقارة القطبية الجنوبية التي تعرف بقارة أنتركتيكا وتضاريسها، وأثبتتْ صور الأقمار الصناعية حديثًا دقة هذه الخرائط( )، أليس هذا الذي سعى إليه سلفُ الأمَّة أمراءً وعلماءَ هو الامتثالَ العلميَّ العمليَّ لتحقيق بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمثيلِهِ في مقام الخلافة، والاتِّباعَ الأقْوَمَ لقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: آية 19] وهي تحتمل العطف على المنذِر أو المنذَر، ففي هذه الآية قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: (حَقٌّ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ كَالَّذِي دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ يُنْذِرَ كَالَّذِي أَنْذَرَ)، وعَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}: (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((بَلِّغُوا عَنِ اللَّهِ)) فَمَنْ بَلَغَتْهُ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ بَلَغه أَمْرُ اللَّهِ)( ).

الثاني: أن يكون للمؤمنِ الذي يؤمِّلُ الاستخلافَ في الأرض ما يؤهله لعمارة الأرض بالصالحاتِ بجلبِ المصالحِ لأهلِها ودرءِ المفاسدِ عنهم {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} والذي يؤهله لعمارتها أمران، أولهما أصل وثانيهما بدل:

أولهما: العلمُ والتعليمُ والقوةُ {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: آية 247] {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: آية 78، 79] {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} [النمل: آية 15] { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: آية 16].

ثانيهما: أن يستعين بأهل العلم والقوَّةِ المختصين في كل فنٍّ ويهيِّئَ لرعيَّته أن تتعلَّم من ذلك ما تعمر به الأرض وما يجعله جديرًا بالاستخلاف بمعناه الأتمِّ الأكمل، قال ابن القيم: (ذَكَرَ مالك فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: ((أَنَّ رَجُلًا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابَهُ جُرْحٌ، فَاحْتَقَنَ الْجُرْحُ الدَّمَ، وَأَنَّ الرَّجُلَ دَعَا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي أَنْمَارَ، فَنَظَرَا إِلَيْهِ، فَزَعَمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمَا: أَيُّكُمَا أَطَبُّ؟ فَقَالَ: أَوَ فِي الطِّبِّ خَيْرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَنْزَلَ الدَّوَاءَ الَّذِي أَنْزَلَ الدَّاءَ)) ففي هذا الحديث أنه ينبغي الاستعانة في كل علم وصناعة بأحذق من فيها فالأحذق؛ فإنَّه إلى الإصابة أقرب)( ) ورى الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للشفاء بنت عبد الله وهي عالمة طبيبة يومئذٍ: (علِّميْها حفصةَ كَمَا عَلَّمْتِيهَا الْكِتَابَةَ)( )، فأيُّ مؤمن يحلم بوعدِ الله بالاستخلاف وببناء أمَّةٍ أو نهضةٍ أو دولةٍ ولم يستكمِلْ هذه الصالحاتِ فقد أبعدَ النُّجْعَةَ.

إذًا لا مِرَاءَ أنَّ أساس الدولة وأُسَّها العلمُ والبحث والتعليمُ والتربيةُ والقوَّة بمعناها الشامل للقضايا المادية والمعنوية والاقتصادية وغيرها، وهذا هو جوهر التغيير الثَّوريّ المأمول والخيار البديل لإسقاط الاستبداد والعصبية والعصابات وتحرير البشرية من استعباد الفرس والرُّوم الجُدُد معًا.

لقد سبق السفراءُ تشريفَ الرسول صلى الله عليه وسلم للمدينة وتأسيسَه قاعدةَ الأمةِ بسنين ليكونوا معلِّمين مربِّين، تقدَّمَهُ هؤلاء المعلمون مصعبٌ وصحبُه لبناء إنسانٍ يحكمه الوعي لا العصبية ولتأسيس بنيةٍ متينةٍ وقاعدةٍ لأمَّةٍ ودولةٍ تنتصب على قوائمِ مجتمعٍ مسلَّحٍ بالعلم، يُؤَهَّل لأن يقود الأمم ولا يقاد كالغنم لعصابات الجاهليين وعصبيتهم الجاهلية، ثم إنه ما إنْ شرَّف النبي صلى الله عليه وسلَّم المدينة حتى شرع في بناء المسجد وغدا المؤسسة التعليمية الأولى يومئذٍ، فكان أهمُّ ما امتاز به الدين الجديد في بناءِ أمةٍ ناشئةٍ ودولةٍ مدنيَّةٍ لم ولن تُدنَّس بهرطقات الكهنوتية الكنسيَّة أو الفارسيَّة؛ أنَّه قام على العلم والتعليم وصناعة الوعي والانسلاخ من ظلمات الوهم إلى أنوار الحقيقة والعقل والعلم، يقول المؤرِّخ الإنجليزي ويلز: (الإسلام هو المدَنيَّة، ومن أراد الدليل فليقرأ القرآن وما فيه من نظرات ومناهج علمية وقوانين اجتماعية)( ).

يتبع 

المصدر: مجلة مقاربات ، العدد الثاني 

المجلس الإسلامي السوري 

-----------

(1) راغب السرجاني: العلم وبناء الأمم، دراسة تأصيلية لدور العلم في بناء الدولة، مؤسسة اقرأ، القاهرة 2007م ط1، ص76.

(2) أحمد بن حنبل: المسند، تح: شعيب الأرنؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة، ط1، 1421 هـ - 2001 م، (28/ 154) رقم 16957، إسناده صحيح على شرط مسلم.

(3) راغب السرجاني: العلم وبناء الأمم، مرجع سابق، ص155، ينظر: الأب أنستاس الكرملي البغدادي: عرف العرب أمريكا قبل أن يعرفها أبناء الغرب، مجلة المقتطف، العدد الثاني، المجلد 106، دولت حسن الصغير: اقتحم العرب المحيط قبل أن يقتحمه كولمبس، مجلة الرسالة، مصر، العدد(612) .

(4) علي بن الحسين المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجواهر، تح: يوسف أسعد داغر، دار النشر: مؤسسة دار الهجرة، قُمْ، 1409هـ 1/135.

(5) راغب السرجاني: العلم وبناء الأمم، مرجع سابق، ص157.

(6) https://www.turkpress.co/node/14112 (المستكشف التركي بيري ريس عالم البحر والحرب) 

(7) أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير: تفسير القرآن العظيم، تح: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1 1419ه (3/ 245).

(8) زاد المعاد في هدي خير العباد: محمد بن أبي بكر شمس الدين ابن قيم الجوزية، مؤسسة الرسالة_ بيروت، مكتبة المنار الإسلامية_الكويت،

ط27، 1415هـ /1994م، 4/121.

(9) أحمد بن حنبل: المسند، مرجع سابق، (45/ 46) رقم الحديث (27095، 26450).

(10) عبد المنعم النمر: الإسلام والمبادئ المستوردة، القاهرة، دار الشروق 1981، ص84.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين