تقويم أخطاء الفتوى والاجتهاد المعاصر (2-5) في ضوء علم أصول الفقه

(ب)

جَلْبُ المصالحِ ودَرْءُ المفاسدِ

(1)

حيثما وُجِدَت المصلحة فثَمَّ شرع الله

"الشريعة كلها مصالح إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح، فإذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا} [البقرة: 104] ؛ فتأمَّل وصيته بعد ندائه، فلا تجد إلا خيرا يحثك عليه أو شرا يزجرك عنه، أو جمعا بين الحث والزجر" (1). وفي الشرائع كلّها ما يدلَّ على حفظ الكليَّات الخمس بمراتبها الضرورية والحاجية والتحسينية من جهتي الوجود والعدم أي من جهة جلب مصالحها ودرء مفاسدها، وهذا محلّ اتفاق، وهو ركن أصيل في الاجتهاد والإفتاء، فإذا وصل الأمر إلى تقدير المصالح والمفاسد وقع الخلاف، فما هي طرقُ تحديد المصلحة وعدُّ هذا الشيء منفعةً وذاك مفسدةً: العقلُ أم النقلُ أم الطباعُ والغرائزُ أم العرفُ والعادةُ؟

من هنا يظهر الفرق بين التشريع السماويّ والوضعيّ، ومذهب المنفعة الفلسفي والمصلحة المقاصديّ، فكلما مال الفيلسوف أو المجتهد في تقديره للمنفعة أو المصلحة إلى مقتضى الطباع والغرائز والأهواء لا سيما الفردية منها، وعدَّها مصالح شرعيةً تُبنَى عليها الأحكام، وقدَّمَ الخاصَّةَ منها على العامّة والدنيوية على الأخروية، كان أقربَ إلى التشريع الوضعي منه إلى السماوي؛ وكلما قدَّرَ المصالح والمفاسد الدنيوية في ضوء العقل والأخروية منها في ضوء النقل، وقدَّمَ الثانية على الأُوْلى كان أقرب إلى تحقيق مقاصد الشرع والمحافظة على كلياتها الخمس بمراتبها الثلاث؛ إذْ إنَّ "معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل، وذلك معظم الشرائع، وأما مصالح الآخرة ومفاسدها فلا تعرف إلا بالنقل، ومن أراد أن يعرف المتناسبات والمصالح والمفاسد راجحهما ومرجوحهما فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به، ثم يبني عليه الأحكام، فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبد الله به عباده، ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته" (2).

وعندما تلتبس المصلحة بالمفسدة ويتنازعُ الواقعةَ طرفان نقيضان؛ يردّ المجتهد تقديرها إلى الشرع والعقل، وهذا أصل في تقدير المصلحة والمفسدة عند تعارضهما، ذلك أن "مصالح الدارين ومفاسدهما في رتب متفاوتة، فإن خفي منها شيء طلب من أدلة الشرع وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح، وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته" (3).

وإذا تعارضت المصالح والمفاسد كان درء المفاسد مُقدَّمًا على جلب المصالح، وإذا تعارضت درجات كل رتبة في نفسها كان الترجيح لِزَامًا؛ "فإن الطبّ كالشرع، وضع لجلب مصالح السلامة والعافية، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام، ولدرء ما أمكن درؤه من ذلك، ولجلب ما أمكن جلبه من ذلك؛ فإن تعذر درء الجميع أو جلب الجميع فإن تساوت الرتب تخير، وإن تفاوتت استعمل الترجيح عند عرفانه والتوقف عند الجهل به، والذي وضع الشرع هو الذي وضع الطب، فإن كل واحد منهما موضوع لجلب مصالح العباد ودرء مفاسدهم، وكما لا يحل الإقدام للمتوقف في الرجحان في المصالح الدينية حتى يظهر له الراجح، فكذلك لا يحل للطبيب الإقدام مع التوقف في الرجحان إلى أن يظهر له الراجح، وما يحيد عن ذلك في الغالب إلا جاهل بالصالح والأصلح، والفاسد والأفسد، فإن الطباع مجبولة على ذلك بحيث لا يخرج عنه إلا جاهل غلبت عليه الشقاوة أو أحمق زادت عليه الغباوة" (4).

هذه أصول عامَّة في تقدير المصالح والمفاسد والموازنة بينها، والخروج عنها قد يكون مؤشر غباءٍ، وأغلب الظنِّ أنه علامة شقاءِ التَّجاهل والتَّعامي لا الجهل والعمَى فحسب، فقد كان وما يزال الزَّيْغ عن هذه الأصول والفهمُ المحرِّف أو المنحرِفُ لعموماتِ رعاية الشريعة للمصلحة ودرئها للمفسدة هما الحاملَ على إلباس بعض الفتاوى المعاصرة الأهواءَ والشهواتِ والعصبياتِ لباسَ المصالح، وهذا ضربٌ من المسخِ أو التشويهِ للنصّ وحُكْمِه وحِكَمِهِ، ومآل هذا العَمَاء أن يُقيم المجتهدُ الاستثناءَ مُقام القاعدةِ والأصلِ فيُضل بفتواه مِن العامة مَنْ لا يدرك الفرق بين الأصل والفرع أو بين القاعدة والاستثناء، وتفسير موقف هؤلاء أنهم يلبِّسون؛ فتستوي عندهم المصالح المعتبرة شرعًا أو المرسلة بالملغاة - والاعتبار يكون بنصٍّ أو إجماع أو بمسالك العلة الأخرى المعتبرة -، وهذا الضرب من المفتين لا إلى الاعتبار أو الإرسال بشروطه (أن تكون المصلحة فيه عامَّةً، حقيقيةً، لا تخالف نصًّا ولا أصلًا شرعيًّا) يعتمدون، ولا إلى حدود النصوص ينتهون، فالنّص قيمتُهُ عندهم في تحقيق المنافع التي يرونها مصالح لا في ذاته إن كانت المسألة المطروحة تعبديّة ولا في مآلاته إن كانت إحدى قضايا المعاملات، فهولاء المقاصديون لا على النص وسبب ورودِه أبقَوا ولا بمآلاته استمسكوا، فأبطلوا حُكْمَه وحِكَمَهُ وأهدروا عمومه وخصوصَ ورودِهِ معًا، ولم يُعْنَوا بالنظر إلى ماهية الوقائع وما فيها من مصالح معتبرة في الشرع بل قصروا نظرهم إلى ما فيها من منفعةٍ تُرضِي هوى المستفتي، فكان إفتاؤهم أقرب إلى التشريع الوضعي باسم الشعب لا إلى التوقيع عن ربّ العالمين، ولا أدل على فساد مثل هذا النظر من تعارض مصالح الناس وتزاحمها، فالشيء الواحد مكانًا كان أو مكانةً أو مستهلَكًا أو منتفعًا به تتزاحم عليه الأيدي ولا يفي بحاجات طالبيه جميعهم، فلا مناص عندئذٍ من التنازع تارةً وإعدام القِيَم تارةً أخرى بإباحة ما لا تستسيغه فطرة سليمة ولا عقل طليقٌ مِن إسار النزوات الجسدية.

وليس لهؤلاء المقاصديَّة أن يزعموا أنهم إنما يجتهدون في ظروفٍ وأحوالٍ جديدة لابست وقائع منصوصًا عليها، فالاجتهادُ في النص لتنزيله على الواقعة في ضوء الظروف الجارية والمآلات أو لتلمس مقصد الشارع من تشريعه للحكمِ، وكذا الاجتهادُ فيما لا نصّ فيه أصلًا: مواضعُ اجتهاديةٌ مسلَّمة؛ ذلك أنَّا "نعلم قطعًا ويقينًا أن الحوادث والوقائع في المعاملات والتصرفات: مما لا يقبل الحصر والعد؛ ونعلم قطعًا أيضًا أنه لم يرد في كل حادثة نص، ولا يتصور ذلك أيضًا؛ والنصوص إذا كانت متناهية، والوقائع غير متناهية؛ وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، علم قطعًا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار؛ حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد"، لكن ليعلمِ المقاصديةُ أنه "لا يجوز أن يكون الاجتهاد مرسلًا: خارجًا عن ضبط الشرع؛ فإن القياس المرسل شرع آخر، وإثبات حكم من غير مستندٍ وضع آخر، والشارع هو الواضع للأحكام؛ فيجب على المجتهد أن لا يعدل في اجتهاده عن هذه الأركان" (5).

هذا ومن المتصدرين للفتاوى السوداء أو الدموية من ينكر المصالح جملةً ويستمسك بفهمٍ عقيم لِلَّفْظِ لا يستند إلى مقاصد النصوص ومآلاتها، ولا يقوم على مراتب دلالاتها قوةً وضعفًا وظهورًا وخفاءً وسياقًا وسباقًا، ويمثل جحده لأصول هذه المصالح وجهًا آخر من المسخ أو التشويه للنصوص الشرعيَّة، وخيرُ مثال على ذلك عَدُّهم القتلَ العشوائيَّ لِجَمْعٍ لا يُعَدُّون مسلمين عندهم جهادًا بإطلاق وإن كان بينهم أطفال رُضَّع، وكذا تعنتهم في العدول عن التقنين الفقهيّ للتحكيم بينهم وبين طوائف المسلمين إلى لغةِ سيفٍ مُشْهَرٍ على لواءٍ مِنْ هوًى يرون فيه شرعًا ويتوجونه تاج الحاكمية تحت ذرائع ومسوغات يهدرون بها المصالح الكلية لمقاصد الشريعة الخمس بضرورياتها وحاجياتها وتحسينياتها.

والفريقان المذكوران قديمان متجددان، ففي عهود سلفت "فرَّط طائفة، فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرؤوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوها، مع علمهم وعلم غيرهم قطعا أنها حق مطابق للواقع، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع...، وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله" (6).

مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري

الحلقة الأولى هنا

(1) عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، تح: طه عبد الرؤوف سعد، الناشر: مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، (1/ 11).

( 2 المصدر السابق (1/11).

(3) المصدر السابق (1/ 8_10).

(4) المصدر السابق (1/ 6).

(5) أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني: الملل والنحل، مؤسسة الحلبي، (2/ 4).

(6) ابن قيم الجوزية شمس الدين محمد بن أبي بكر: الطرق الحكمية، مكتبة دار البيان، (ص: 13).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين