تقويم أخطاء الفتوى والاجتهاد المعاصر (1-5) في ضوء علم أصول الفقه

تمتاز عهود الازدهار الفقهي والاجتهاد المنضبط بشروطه، بردِّ المتشابِه إلى المحكم، والظنِّيات إلى القطعيّات، والجزئيَّات إلى الكليَّات، والفروع إلى الأصول، وبالفصل بين أعمال القلوب وأفعال الجوارح في الحكم قضاءً وديانةً، وبالتمييز بين ما هو عملي من أفعال المكلفين يَتعلَّقُ به الحكم الشرعيُّ التكليفيُّ وتَثبت أحكامه بالشهود والأدلة والقرائن وما هو علمي عقائديّ لا يحيط به علمًا إلا الظاهرُ الباطنُ.

ولما غلبتْ على الإفتاء والاجتهادِ الجماعيّ- إن وُجِد- المأسسةُ الرَّسميةُ، وصار أكثره محكومًا بسطوة الإعلام والرأي العامّ وسلاحِ أصحابِ الرأي الواحد، ظهرت فتاوى شاذَّةٌ وأُخْرَى باطلةٌ تركت آثارًا لا يكاد يجهلها أحد، منها ما أضرَّ بالفرد والأسرة، ومنها ما هو أَعَمُّ لُوحِظَ أثرُهُ فِي الأمَّةِ الإسلامية بل فِي العالِمِ أجمع؛ وهذا نتاج متوقَّع لانقلاب موازين الاجتهاد عما كانت عليه في عصر ازدهاره؛ فالملاحَظُ في الفتاوى الرسميةِ والإعلاميةِ والسَّوْداوية: استبدالُ الجزئيَّاتِ بالكليّاتِ والفروعِ بالأصولِ وشواذّ الآراء بما نُقل فيه إجماع، وإحلالُ الظَّنِّي محلَّ القطعيّ والمتشابِهِ محلَّ المحكم؛ وما أزاغَ قلوبَهُم إِلَّا "الجهلُ بمقاصد الشريعة، وتوهُّم بلوغِ درجة الاجتهاد" باستعجال نتيجة الطلب، وأصل هذا القسم مذكور في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]، وفي الصحيح :"إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ» (1)، والتشابه في القرآن لا يختص بما نصَّ عليه العلماء من الأمور الإلهية الموهمة للتشبيه.. بل هو من جملة ما يدخل تحت مقتضى الآية؛ إذ لا دليل على الحصر، فإن الشريعة إذا كان فيها أصل مطَّرد في أكثرها مقرر واضح في معظمها، ثم جاء - بعض المواضع فيها - مما يقتضي ظاهره مخالفة ما اطَّرد، فذلك من المعدود في المتشابهات التي يُتَّقى اتباعها؛ لأن اتِّباعها مفض إلى ظهور معارضة بينها وبين الأصول المقررة والقواعد المطَّردة، وأم الكتاب يعم ما هو من الأصول الاعتقادية أو العملية؛ إذ لم يخص الكتاب ذلك ولا السنة، فإن المخالف في أصل من أصول الشريعة العملية لا يَقْصُرُ عن المخالف في أصل من الأصول الاعتقادية في هدم القواعد الشرعية" (2). هذا، ولدى تقويم وتقييم الفتاوى المعاصرة ودعاوى الاجتهاد في ضوء علم الأصول ينبغي الوقوف على أمرين:

أ _ شروط الاجتهاد ومدَى تَحَلِّي المفتي أو المجتهد المعاصر بها.

ب _ تحديد "كليات الاجتهاد" في علم الأصول والحكم على الفتوى وقياسها ثم تقييمها وتقويمها في ضوء هذه الكليات.

(أ)

إنَّ من فضول النَّظر البحثَ في مدى أهلية المجتهد الرسميّ أو الإعلاميّ للاجتهادِ وَفْقًا لشروطه التي ضبطها علم أصول الفقه ضبطًا بالِغًا بالغَ فيه بعضهم يومًا، فسدَّ باب الاجتهاد من حيث الواقع لا من حيث إمكان الوقوع لاعتقاده أن لا طاقةَ لأحدٍ ممن جاؤوا بعدُ بشروطه الشاملة للعدالة والإحاطة بمدارك الشرعِ إحاطةَ تمكُّنٍ (3) إثباتًا واستنباطًا وموازنةً وبالواقعةِ فِقْهًا وتَنْزِيْلًا، ولهذا السدِّ دعائمُهُ وإن فنَّده السيوطيّ وآخرون وهم على حقٍّ.

نَعَمْ إن مقتضى حفظ الشريعة وديمومتها إلى يوم الدين أن يكون الاجتهاد في كل عصر فرض كفاية، وليس وراء سدِّ باب الاجتهاد سوى الدَّعَة والتَّواكل وتعطيل الشريعة؛ فلن تخلو الأرض من قائم لله بالحُجَّة في كل وقت وعهد، وإنه لَيلزم عن خلوها من مجتهد اجتماع الأمة على الخطأ (4)، والإجماع قائم على أن ذلك ممتنع، وعلى ذلك تظاهرت النصوص، فليس لأحدٍ أن يُغلِق بابًا فتحُه فرضٌ لكنْ لكل بابٍ مفتاح، ولكل مفتاحٍ أسنانٌ أبرزها وأهمها في الاجتهادِ وشروطِهِ: علمُ الأصول وتنزيلُ النصوص على الوقائع أو فقه النص وفقه الواقع أو تخريج المناط وتنقيحه فتحقيقه؛ ومن أمعن وجد أن ضياع المفتاح أو إخفاءَه أو ثَلْمَه هي الأَثَافِي الثلاث التي قام عليها الاجتهاد الفردي المزيَّف، أو الاجتهاد الجَماعي المسيَّس، الْمُختزَل في عِماية أدْعِياءِ الفقهِ والملكِ، المغتصبين لمقام أولي الأمر...

ولدى نصب ميزان الاجتهاد بضوابطه ووضع أدعيائه اليوم في إحدى كِفَّتيه تطيش كِفَّة جُلّهم، ويبقى جليلهم متورِّعًا عن التفرُّد به بل يسعى هو وأهل النَّصفة من أمثاله نحو اجتهاد جَمَاعِيٍّ مجزَّأٍ تخصُّصِيٍّ، لا تُصيبه لوثة الْمَجْمَع الاجتهاديّ المسيَّس، الذي يعمل لرضا الملوك، أو الرسميّ أو المدجَّن العاجز عن تقديم البديل، والذي يستهدفُ تشريعَ كلِّ دخيلٍ ومسايرةَ أهواء المجتمع كلّه أو جُلّه.

ومن خلال أبعاد هذه الصورة الواقعية للفتوى والاجتهاد المعاصر يمكن للناظر في أصول الفقه كشفُ أهم الضوابط الناقدة لأبرز أشكال هذا الواقع وآثاره، واقتراحُ الحلول الممكنة في ضوء المستقبل المأمول للاجتهاد والفتوى وحيثياتهما المنظورة والمتوقعة، وتحديد كليات الاجتهاد في علمَي الأصول والقواعد الفقهية، والحكم على الفتوى في ضوء نماذج من تلك الكليات كالآتي:

(ب)

جَلْبُ المصالحِ ودَرْءُ المفاسدِ

(1)

حيثما وُجِدَت المصلحة فثَمَّ شرع الله

(2)

القطعيات من الثوابت والظنيات من المتغيرات

(3)

مِنْ فِقْهِ النَّص إِلَى فِقْهِ الواقعةِ والواقِع

(4)

النصوص والوقائع أيهما يَتْبَع الآخر ويُنزَّل عليه؟

مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري

تتبع 

===-

( ) مسلم بن الحجاج: صحيح مسلم، تح: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 47_ كتاب العلم، 1- بَابُ النَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعِ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ...، (4/ 2053).

(2) الشاطبي إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي: الموافقات، تح: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، الناشر: دار ابن عفان، ط1 1417هـ/ 1997م، (5/ 142).

(3) الغزالي أبو حامد محمد بن محمد الطوسي: المستصفى، تح: محمد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، ط:1، 1413هـ - 1993م، (ص: 342).

(4) السيوطي جلال الدين عبد الرحمن: الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصرٍ فرض، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، وفيه أنَّ بعض العلماء منع أن يخلو قطر بحدود مسافة القصر من مجتهد يستقل به أهل تلك البلاد في الاستفتاء، ص2_6.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين