العدوان الثلاثي على وعي الباحثين -2-

إنَّ الانحراف في ريشة الكاتب وكلمة المثقف المشهور ليطير بمبالغاته عبر الأثير والشبكة، فلا تدع كلماته قلبًا أو أذنًا أو عقلًا غُفْلًا إلا غزته، ومن يدري ما يفعل توالي أمثال تلك المبالغات في وعي أناس غارِّين أو غُرٍّ أو مغرورين منخدعين أو آخرين مثقفين لكنهم غير مختصين ولا يملكون ما يكشفون به زيف الكَلِمِ من جواهره؟!

هذا؛ كلَّما طرحت قضية تخلف أمتنا عن ركب الحضارة في مؤتمرٍ تخصصي أو محفل علمي أو مناقشة رسالةٍ جامعيةٍ تجد الأساتذة المناقشين لا يكادون يعثرون في اللغات على ما يصف قتامة ما نحن فيه وسوداويته، ولكنهم يغفلون عما تفعله مبالغاتهم في تقييم الأبحاث والرسائل وتقويمهم لها، ويتجاهلون أثر هذه المبالغات والحماس والحفلات الوهمية أثناء المناقشة على تخلفنا الحضاريِّ وعلى وعي ناشئةٍ لا همَّ لهم إلا استحصال الألقاب الفارهة بالدعاوى الفارغة كما يقول الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، وفيهم أنشد:

خلق الله للعلوم رجالًا=ورجالاً لنفشةٍ ودعاوي

وهكذا يمضي أمرهم في تيه الألقاب وندرة الإنجاز حتى إنه ليصدق فيهم قول قائلهم:

تسألني أم الوليد جملًا=يمشي رويدًا ويجيء أولًا

وللكشف عن جوهر مشكلة المنابر العلمية ومدى إضرارها بالوعي إليك واقعةً كنت عليها من الشاهدين:

في مؤتمر عن تطوير مناهج تعليم العربية للناطقين بغيرها عام 2018م رأيت أستاذًا جامعيًّا عربيًّا متخصصا في المناهج يجود بالثناء على أبحاث المؤتمر، لقد كان كالبحر يكيل المديح بلا عدٍّ ولا حساب، بل طابت له المبالغة لِما رأى من الحفاوة، فمضَى في فيوضاتِ مديحه لها على مواقع التواصل الاجتماعي مدَّعيًا أن الأبحاث المقدَّمة في المؤتمر "ينبغي أن تكون دستورًا لدى تأليف أي سلسلة تعليمية جديدة؛ وذلك لجودتها وعمق تحليلها، وحضور الجديد فيها" علمًا أنها كانت وصفية لا تحليلَ فيها ولا جودةَ أيضًا وفقًا لمعايير جودة أبحاث تحليل المناهج وتطويرها، لكنها المبالغات في إطلاق الأحكام كما ترى، وقال: "أبارك النجاح الباهر الذي حققه المؤتمر الدولي الثالث على أكثر من صعيد، أهمها وأبرزها جودة الأوراق العلمية المقدمة وقيمتها العلمية وعمليتها، وتعدد أوجه الاستفادة منها في مضمار تعليم العربية للناطقين بغيرها، وأجزم بأنه المؤتمر الوحيد الذي لم أفوِّت فيه جلسة علمية واحدة خشية أن يفوتني الكثير" "وكانت سعادتي أكبر حين علمت بل رأيت بأن الحاصلة على المركز الأول لأفضل بحث في المؤتمر باحثة شابة مبدعة، فتالله إنني فخور بإنجازها أكثر من سعادتي بحصولي على المركز الثاني، وأبارك كذلك للأستاذات الأخريات الشوابّ اللاتي كن قاب قوسين أو أدنى من الحصول على المراكز المتقدمة"، بل بلغ به غلو المبالغة أنْ عَدَا على منهجية البحث العلمي، فنسفها واجتثها من الجذور قائلًا: "وهذه دعوة للشباب لخوض تجربة التعليم والبحث في آنٍ؛ حيث ثبت بالبرهان الساطع أنكم أقدر على إيصال الرسالة ممن يحملون الدرجات العلمية ويُنظِّرون من أبراجهم العاجية".

ولا إخالك قد نسيت أن مغالاتِه هذه ترسِّخ لدى المشاركين من شباب وشوابّ صوابَ المنهج الأبتر الذي بنوا عليه أبحاثهم وخطأَ المنهج العلمي شبه التجريبيّ الذي بُنيت عليه السلاسلُ الأجنبيةُ المتطوِّرة موضوعُ المؤتمرِ، وحسبنا غلوه في مبالغاته هذه لرصدِ أحد عوامل تخلفنا عن ركب الحضارة والعدوانِ على الوعي الجمعيِّ بل إنَّ غُلَواءَه هذه صدٌّ عن سبيلِ الحضارةِ وكفرٌ بالعلمِ التجريبيِّ وتخديرٌ لوعي الناشئين من طلبة العلم بما منحهم من ألقابٍ تستخفُّ بالعلم التجريبي وسدَنتِه:

مِمَّا يُزَهِّدُني في أَرْضِ أَنْدَلُسٍ=أسَماءُ مُعْتَمِدٍ فيها وَمُعْتَضِدِ

أَلْقابُ مَمْلَكَةٍ في غَيْرِ مَوْضِعِها=كالْهِر يَحْكي انْتِفاخاً صَوْلَةَ الأَسَدِ

ورأيتُ في المؤتمرِ ذاتِه أستاذًا جامعيًّا أعجميًّا متخصصًا في المناهج أيضًا حضر في اليوم الثاني ليرأس جلسة، كان ساخطًا على الأبحاث المقدَّمة، فصال وجال وأرعد وأزبد وحمل حملة ضارية على الأساتذة المشرفين على الشباب الباحثين المشاركين في هذا المؤتمر: "لِمَ لَمْ يعلموكم أصول البحث العلمي في البحوث التربوية والنفسية وشبه التجريبية منها خاصَّةً؟" فالأبحاث المقدمة في المؤتمر التي حضرها هذا الأستاذ -ومنها بحث الشابة الذي حاز على شهادة أفضل بحث بتصويت المشاركين والحاضرين، وجلُّهم من الشباب العاملين في المؤسسة الراعية للمؤتمر- هذه الأبحاث كما قال: "شأنها شأن كل ما تخزِّنه عقولنا من معلومات نظرية سردية في ميدانٍ كلُّ علومِه تجريبيةٌ أو شبه تجريبية، فكلُّ ذلك ليس سوى كومة زبالة تُزاحِم ما تراكمَ في عقولنا من زبالة المعرفة" على حدِّ تعبيره هو! وتاهَ المشاركون ومنهم المغالي المذكور أوَّلًا والحاضرون في صخب التصفيقِ لكلماته، فما علمت وما زلت لا أعلم: أكان تصفيقهم تأييدًا، أم ضربًا من الصخب الكوميدي، أم استحسانًا منهم لبلاغة تصويره للمعارف النظرية التي لا تطبيق فيها ولا تجريب؟ وأيًّا كانت العلة فالتصفيق للمبالغة والغلو غلوٌّ أيضًا لا سيما من ذاك الذي غالى في مبالغته غلوًّا يضادُّ ما يصفق هو له.

ومضى الأستاذ الساخط على أبحاث المؤتمر يبرهن على وجهة نظره بأنَّ أبحاث المؤتمر التي حضرها هو في اليوم الثاني كانت وصفيَّة بينما كانت طبيعة قضية المؤتمر التحليل والتطوير "تحليل سلاسل تعليم اللغات الأجنبية لتوظيفها في تطوير سلاسل تعليم العربية"، فهو شبه تجريبيّ، وجلُّ المشاركين من مدرِّسي اللغة العربية للناطقين بغيرها، وهم خريجو كليات الآداب أو الشريعة لا التربية، ناهيك عن أن يكونوا باحثين مختصين متمرسين في المناهج وطرائق التدريس وتقنيات التعليم أو ممن لهم سابق تجربة بحثية في البحوث شبه التجريبية؛ لذا كان "ينبغي على أساتذتهم أن يدربوهم على البحث لتكون أبحاثهم شبه تجريبية، يستند التحليل فيها إلى أداة بحثية يصممها الباحث ويعرضها على المحكّمين، ثم يقوم باحث آخر بتحليل السلسلة ذاتها، ويقارن الباحث بين نتائج تحليله وتحليل زميله ليتأكد من صدق النتيجة من خلال حساب معامل ثبات التحليل، وبناء على ذلك يطبق الأداة البحثية التي أعدَّها، ويتبعها بدراسة إحصائية وتفسير للنتائج يعقبه تصور مقترح لشكل تطوير المنهج من خلال درس أو وحدة تعليمية في ضوء ما تقدَّم، ثم يطبق المنهج المطور على مجموعتين من الطلاب إحداهما ضابطة والأخرى تجريبية، ويستخلص ما تدل عليه الدراسة الإحصائية، ويُردِفها بتوصيات الدراسة ومقترحاتها المستخلَصة استنادًا إلى ما سبق".

هذه خلاصةُ حربه الضروس على أعمال الشوابِّ والشباب المشاركين في المؤتمر، وشرارةُ عدوانه على انبعاثةِ وعيهم بأهمية البحث وعلى محاولاتهم المبتدئة؛ فأنت ترى ما بين النظرتين من تباينِ ومبالغةٍ فيها من الإفراط والتفريط والعدوان على بنية الوعيِ ما لا تخطئه عين، والعدل هو ما بين الرأيين، صحيح أنَّ الأبحاث التي حضرتُها في اليوم الثاني وصفية لكن كان فيها فوائد قيِّمة وجهود تُذكَر فتُشكَر، حتى إني لما قارنت هذا المؤتمر عن مناهج تعليم العربية بمؤتمرات أخرى اشتركت فيها هنا في تركية في الحقل ذاته قلت عن هذا المؤتمر:

تاقتْ إليك عِجافٌ أنت يوسفها=هلا رميتَ على العميان قمصانًا

ذلك أني وجدت أبحاث هذا المؤتمر تخصصية عميقة نسبيًّا مقارنةً بمؤتمرات أخرى شاركتُ فيها، وكان يغلب عليها السرد والشعر ومصفوفات اللوم وجلد الآخرين أو الأماني والوعود والبيانات الختامية الخدَّاعة، ويهيمن عليها المتخصصون في الأدب العربي والشريعة والحقوق، ويقتحمها آخرون لا يحسنون تركيب جملة فصيحة، ولا ترى فيها متخصصا في المناهج أو معنيًّا بالبحث فيها!

نعم كانت أبحاث المؤتمر قيِّمة من هذا الوجه، فالدراسات الوصفية ليست محظورةً في البحوث التربوية وإن كانت قيمتها محدودة، لكن لا قيمة لهذه الأبحاث ألبتة في موازين البحوث التربوية والنفسية شبه التجريبية التي اقتضتها طبيعة المؤتمر القائمة على التحليل وتطوير المناهج؛ فأحكام أبحاث المؤتمر ونتائجها كلّها جملةً وتفصيلاً ليست سوى دعاوى خاوية لا أدلة عليها ولا شواهد ولا شهود، وأخص بهذا الرأي الأبحاث الوصفية المقدَّمة عن موضوع تطوير المناهج في ضوء تحليل السلاسل الأجنبية المعروضة في اليوم الثاني الذي حضرته؛ ذلك أنَّه لا أثر ولا وجود في هذه الأبحاث لأي جهد يُترجِم ما يدلُّ عليه مصطلح التحليل العلمي في البحوث التجريبية ومصطلح تطوير المناهج، بل كانت كلها دراسات وصفية أجادت وصفَ واقعِ السلاسل الأجنبية ولم تذكر أية ورقة منها منهجًا عربيًّا واحدًا أو بضعةَ مناهج عربية لتقترح شكل التطوير المناسب لها في ضوء دراستها الوصفية أو ما وَهِم المشاركون بأنه تحليل علميّ وهو ما أوهمه به أستاذهم، بل لم يقدِّم أي بحث منها نتائج تمثِّلُ تصورًا فيه إسقاط لدراسته الوصفية على السلاسل العربية للاستفادة من وصف السلسلة الأجنبية في تطوير السلاسل العربية.

بهذا لعلك وقفتَ على ما بين مبالغاتِ الأستاذَين المتخصصين في المناهج من بونٍ كَشَفَ عوارَ عدوانهما على وعي طلاب العلم الناشئين وغلوَّهما في الأحكامِ قدحًا أو مدحًا، ومثلُ هذا كثير في مناقشة الرسائل الجامعية وحفلاتها الصاخبة، فهل ترى بعد هذا التيه والعدوان على الوعي الجمعيِّ من مخرجٍ أو قبس فيه هدى لأمةٍ يشكو رُوَّادها هؤلاء تخلفًا حضاريًّا سلَبَهم عزة الانتماء إلى عروبتهم أو دينهم؟!

الحلقة السابقة هــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين