العدوان الثلاثي على الوعي (1)

من إنصافنا للوعي الجَمعيِّ والشخصيِّ كشفُ ماهيةِ العادِيَاتِ المُغيْرَاتِ على بنْيَتِه وتشخيصُها وتعزيزُ ما في الوعي مِن مناعةٍ مقاومةٍ وأخرى طاردة لها، ولعلِّي لا أُبعِدُ في النُّجعة إنْ زعمت أن من تلك العادِيَات الغلوَّ أو الإيغالَ في الحكم على الأشياء والأحداث والمواقف والأشخاص والتاريخ، ومنه المبالغة في المآلات وفي سدِّ الذَّرائع وفتحها وفي تقديرِ المصالح وعواملِ جلبها وفي حدْسِ المفاسد ومعاولِ دفعها وقِلاع درْئِها، فهذا الغلوُّ عاملٌ مؤثِّرٌ في جملةِ عوامل كوَّنتِ المتتاليةَ التي شكلت أزمةَ التيهِ لدى الشباب، بل أزعم أنه أحدُ الحِراب المسمومة في العدوان الثلاثي على وعي هذا الجيل.

كم وكم في المبالغات الغالية وتصوُّراتها وأحكامها المرسَلة المطلقة من مخدِّراتٍ للهمَّة وخلودٍ للرَّاحة وخداعٍ لِلذَّات وركونٍ لِلَّذَّات، أو جلدٍ للنفس وجليدٍ للمروءة والنخوة! نعم إنَّ فيها مفجراتٍ للطاقة لكنَّها تصوِّر الأوهام حقائق، وتجترُّ أحداثَ التاريخ لتتخذ منها واقعيةً مفترضة ووقائع ماثلة تورد الشباب المهالك، وتكدِّس في ذاكرتهم ضغثًا من أحلامٍ لا يَزَعُها عقلٌ ولا ضمير، ولا تهتدي بشريعة ولا قانون، ولا تبلغُ كُنهَها ريشةُ أعرق الرسَّامين والفنَّانين لتصوير عقدةِ خَبَالِها وحدْس حبكةِ أساطيرها، وما تزال توغل في نقش هذه الأحلام على قلوب الناشئة حتى تمسخ عقولهم؛ فيغدو قلب الفتى قنبلةً موقَدة بعاطفة لا يسوسها عقل، فإذا ما انقشعت ظلمات الوهم ارتدَّ على عقبيه، فاستبدل بقلبه المفعم بالعاطفة المتقد بالحماس نفسًا تَكاثَرُ أَنْفُسًا تتوهج رغباتها وتنفجر بأهوائها، وعقلًا ينكر الغيب ولا يؤمن إلا بالمادَّة وعطائها، ولما كان السبب كالفاعل فلا ريب أن شيئًا من هذه الردة يحمل وزرَها قتلةُ العقولِ أربابُ المبالغات الموقدِين لنار عواطف مؤصدة بأوهامِ أخيلةٍ في عمدِ عِهْنٍ منفوشٍ ممدَّدةٍ، قاعدتُهَا فتحُ الشام وذروتُها فضاءات باقيةٌ وتتمدد حتى تحرِّرَ القدسَ والأندلسَ بأسياف خشبية وخطط خُلَّبيَّة، علمًا أني لا أشكُّ بأنَّ من أعدموا مشاعر الجيل وغيَّبوا أثر الإيمان والعاطفة في حياته بمحاكمات عقلية صِرْفةٍ ليسوا بأقل وزرًا ممن صرفوا أنظار أولئك الناشئة عن الواقع أو الحقيقة، فأعموا أبصارهم بمفاهيم خاطئة متولدة من نظريات زائفة قائمة على تزوير وأحابيل وأكاذيب مغْرِقة في التضليل كما الأساطير، وخرجوا عليهم في زينتهم الحضارية ببريقٍ يسحر الأعين ويذهب بالأبصار؛ كما أنهم ليسوا بأهون شرًّا ممن قتلوا العقول بنماذج متخمة بالمثالية المجافية للواقع أو بعواطف جياشة تؤجِّجها أخبار وملاحم وقصص ونوادر تفرَّقت أسبابُ ورودِها وتواريخُ حدوثها على مدى قرون، فحشدوها لهم في سياقٍ وموقفٍ واحد، إن أقلَّ صنائع هؤلاء وأَدْنى مُخرجاتها تخريجُ أفرادٍ حقيق بكلٍّ منهم أن يكون دونكيشوت عصره.

المبحث الأول: العدوان الثلاثي مفهومُهُ وعلائقُهُ

للعدوانِ الثلاثيِّ ماصدقَاتٌ، وله جيناتٌ تنقل العدوى وتعزز عدوانيتها وتولِّد من الأمراض الحميدة أخرى خبيثة، وإنها لَتُمسي أشدَّ فتكًا إذا تلاقحت بأخرى تحمل عواملَ ضارية تزيدها عدوانيةً وافتراسًا، وإليك تحليلًا عضويًّا لهذا التفاعل: 

المطلب الأول: ثلاثية العدوان

أمَّا ثلاثية العدوان فأعني بها:

أولًا: دعوَى الاستحالة في الممكنات، وتمكينها في نفوس النَّشءِ حتى لكأنها من المسلَّمات، وهدفها التيئيس واليأس أي التعجيز وإثبات العجز؛ ليتشرّب هذا الجيل نظرية المؤامرة ويسلِّمَ بالهزيمة أمام النفس وشهواتها القسرية كما يُخيَّل إليه، ويوقن أنَّ ما كان وما زال ممكنًا لغيرِنا غدا مستحيلًا علينا، وهو عجزٌ متولد من قناعات أفرزَتْها عواملُ عدة منها: تصوير المبالغات للممكنات على أنها من المستحيلات عادةً وَأْدًا للهمَّةِ وللثِّقةِ بالنفس مِن قَبْل أن تستهلَّ صارخةً.

ثانيًا: دعوَى الإمكان في المستحيلات عادةً في ظرفٍ أو مكان أو زمان أو حالٍ ما، وتلغيمَ المستقبل بقنابل الوهم لإرغام الغَارِّين على مغامرات انتحارية ناجمة عن تضليل المبالغات وما تبثه من أوهامٍ، والمقصود بالتضليل تصوير المبالغات لجملةٍ من المستحيلات على أنها عادةً من الممكنات، كل ذلك من خلال تزييف الوعي واستثمار ترَّهات هذا الوعي الزائف سعيًا إلى تخدير الجيل بضربتين: الأولى خارجيةٌ تقذف في العقول الوهن بما فيها من تعظيمٍ غالٍ لأثرِ قُوَى الروح والمعنى والمعتقد والقيم والمبادئ، والأخرى جاهليةٌ تهوِّن من شأن قوة العلم التجريبي والإعداد والتكوين وكأنها تنكر أنَّ الذي أنزل الداء أنزل الدواء وأنَّ الذي سلَّط الأعداءَ أنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليس لهم إلى ذاكَ التهوين من سبيلٍ سوى التلبيس واغتيال الوعي زعمًا بأنَّ القوة هي الإيمان وحده وكأني بهم يقاتلون عدوَّهم بصدور عارية وبالورود وأغصان الزيتون، ناهيك عن أنَّ دعواهم امتلاكهم لسلاح الإيمان وحدَهم هي نفسُها محلُّ نزاعٍ، لا سيما أنَّ تصورهم للإيمان في عزلةٍ عن مقتضياته وآثاره ومخرجاته والتكاليف الأخرى الدالة عليه ينقضُ عليهم دعواهم التسلُّح به، وأنَّ إيمان أهل الباطل بباطلهم له أثرٌ لا يُنكَر بل إنَّ منهم من يستمسك بعرى باطله أشد من استمساك أهل الحقِّ بحقِّهم، وليس وراء استواء كفتي الإيمان إلا استفراغ الوسع في الإعداد المادِّي والمعنوي، العلمي التجريبي وصنوِهِ النظريِّ بأجنحته الثلاثة: الإنسانية والاجتماعيّة والتنظيرية.

ثالثًا: وصدارةَ نماذج مصطنعةٍ أَمْكَنَتِ المستحيلاتِ وهمًا وإيهامًا أو مكْرًا وخديعةً، وشيَّدت عالَمًا من الأساطير عُمْدَتُه وَعَمَدُهُ فراخُ تلك الدِّيكةِ وقوائمُها الغضة وأجنحتُها المتكسِّرة؛ فأعملت عوالمُ الأوهامِ مبضعَها في بنية الوعي مسخًا وسلخًا واستنساخًا: المسخ لجوهره، والسلخ لإهابه، ثم الاستنساخُ لنماذج زائفةٍ خدَّاعة ستأتي على الجوهر والمظهر واليابس والأخضر، أو لنماذج تاريخيةٍ حقيقيةٍ جذَّابةٍ لكن كانت لها -من البذور والجذور إلى أن آتت أكلها- بيئةٌ وزمانٌ وقِوامٌ ومُدخلات وعمليَّات وتفاعلات لن يتحقق منها شيءٌ اليومَ إلا إن دار زمن القرن الحادي والعشرين دوْرَات؛ ليجدِّف بكواكبه وجنِّه وإنسه وأرضه وسمائه رأسًا على عقب وهو يرجع القهقرى نحو ذلك الماضي التليد العريق، فمَن تكلَّف إسقاط نصوصٍ دينية أو نماذج تاريخية على شخصيات عصريَّة أو على وقائع تحدث اليوم دونَما تخريجٍ لمناطها وتنقيح وتحقيقٍ، وبلا شواهد ولا سياق ولا طِباق، فقد أطبق على آخر رمق في وعي هذا الجيل بجهلِه المُطبقِ في فقه النص والواقع، وليس عنه ببعيد ذاك الذي ينترع نصوصًا أو مشاهد من سياقها وبيئتها وزمانها ليطابق بينها وبين نوازل ومستجدات يتعطش العامة لفهم أسبابها وعواملها ونتائجها، فهذا ضرب مستحدث من الوضع يذكِّر بالقصاصين الوضَّاعين وبغاياتهم الوضيعة، وهو في تزييفه للوعي ليس ببعيد عن نمطِ الوضعِ الشائعِ بين العامَّة في وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، وإن أرهبَك وضَّاعو الوثَّابِ مثلًا أَنَّك إن لم تشاركهم جريرتهم فستلقى حتفك أو يهلك مالك وولدك أو يحل بك ما لا يعلمه إلا دجَّالو عصر تقنيات القرن الحادي والعشرين، فقد يُرغمك أولئك على الركوب معهم زاعمين أنك إن لم تركب غرِقْت وحملت وزرَ غرق سفينة الإسلام إن كانت الكرَّة عليهم في ذاك السِّجال.

المطلب الثاني: بين الغلو والعدوان الثلاثيِّ

إليك شيئًا من البيان لتفسيرِ علاقة الغلو في المبالغات وإطلاق الأحكام بالعدوان الثلاثي:

أ_ انفردت المبالغاتُ الغالية بصناعةِ أوسطِ الأعمدة في خيمة الوعي، لقد صنعَتْها مِنْ أحلام الفروسية الدونكيشوتية وأوهامها مستغلَّةً جيلًا آذانُه متخمةٌ بأخبار الفروسية وعيونُه جائعةٌ ما رأت فارسًا قطُّ.

ب_ وزعمتْ تلك المبالغات أيضًا أن بعض المستحيلات عادةً غدتْ من الممكنات، فأوردت الشعوب في هذا العقدِ مهالكَ ليالٍ مظلمةٍ وغاباتِ تيهٍ مهلكة على غِرار معركة دون كيشوت وطواحين الهواء وغبار المواشي، وطارت بالعامَّة والمستضعفين بأجنحة الحماس، وغفلت أو أغفلت التاريخَ وطبائعَ الاستبداد والسُّننَ الاجتماعية وشروطَ سنة التغيير ودراسةَ الجدوَى وتغوُّلَ العالِم المادي اليوم وتأهبَه للانقضاض على أي صحوةٍ قد تهدِّد أو تمسُّ كيانه أو لا تسير في رَكْبه.

إنَّ فرسانَ العامَّة الذي يعتلون صهوة جواد دونكيشوت في ساحِ حروبِ السياسة وتحكيم الشريعة والتعليم الحضارة ليُذكِّروني بطفل الخامسة المغرور الذي لم ير بحرًا من قبلُ، ولم يشمر عن ساقه لخوض غمار بحيرة لا يبلغ ارتفاعها شبرًا، لما وقف على رمل الشاطئ أول مرة صفعته ترددات موجة خفيفة فملأت فمه ماء، فأغضبته؛ فشمَّر لها مستعرضًا عضلاتِه ومضى كالرمح يُبحر في غمرات الموت ولُجَّةِ البحر، يمخر عبابَه ويتحدَّى بصدره أمواجه صارخًا: سترى ما أنا فاعل بك، فغشَّاه ما غشَّى، فبأيِّ سنن ربِّك تتمارى أي بُنَيّ!

ج_ وعَكَسَت مغالاةُ المبالغات وإطلاقُ الأحكام الأمرَ، فبثت سموم اليأس لما صورت الممكنات مستحيلات، وستبقى كذلك ما دامت عقبات الأوهام التي أرسَتْها تلك المبالغاتُ حجابًا يحول دون رؤيةِ الأذهان لأي أمرٍ على حقيقته، ثم ولَّدَ اليأسُ لدى الشباب كلَّ ما ترى من عجائب الدهر وكبائر العصر في القرن الحادي والعشرين.

وأمَّا ثنائية العدوان على حصون شبابنا من داخلها فتلك ثنائية لها بحثٌ آخر مغايرٌ لموضوع البحث، لكن تجب الإشارة إليها لئلا يوهم السكوت عنها خلاف المراد من هذا البحث، وتلك الثنائية هي:

1_ سذاجة فريق من الشباب الغارِّين أو جهالتهم أو جاهليتهم أو غيبوبتهم أو انخداعهم.

2_ وجمود فئةٍ من قادتهم أو خداعهم لهم أو حماقتهم أو قصورهم أو قصر نظرهم، أو تجهيلهم للناشئة أو تعطيلهم لعقولهم بإدمان اللهو والعبث والترف وتغييب الهدف، أو قتلهم لمواهبهم وطاقاتهم بحرمانهم من أدنى مقومات الحياة ومن تلبية الغرائز الجبلية ليشغلوهم بما رخُصَ وهان عما يكون أو قد كان.

المبحث الثاني: العدوانُ الثلاثيّ على الوعي الفرديِّ والجَمْعيِّ

سيقتصر هذا المبحث على دراسة غلو المبالغات وإيغال أحكامها وتصوُّراتها للوقوف على مدى تأثير هذا الغلوِّ على وعي الفرد والمجتمعِ بصفتِهِ غائلةً وسهمًا مسمومًا من سهام العدوان الثلاثي وغوائله.

المطلب الأول: العدوان الثقافي على الوعي الجمعي

جليٌّ أنَّ مشكلة الدراسة ليستْ حديثةً في بابها، وإنما الجديد هو قياسُ مدى تأثيرِها في الوعي الفرديِّ والجمعيِّ وفقًا لنتائج الدراسة الميدانية؛ فالمغالاة في المبالغةِ وإطلاق الأحكامِ قديمةٌ قِدَمَ اللغات وما فيها من مجاز وألقاب وصفات، كثيرةٌ أنواعُها وأمثلتُها في حياة الأمم عبرَ تاريخها كثرةَ الصفاتِ وأضدادها والأرقامِ وجموعِها، وهي متجذِّرةٌ في خلايا الناس مُغرقةٌ في ثقافتهم إغراقَ النفس الإنسانية في ميولِها وجنوحها ورغباتِها وطموحاتها وظنونِها ساذجها أو خبيثها، وفي دعاويها العريضة وغرامها بأساطير الحبِّ وملاحم الكره أو بطقوسِ التقديس والولاء والانتماء أو بحروبِ الكراهية والتمرد والعصيان، إنها لظاهرةٌ غنيةٌ عن الرصدِ والإحصاء، ما زال الأجدادُ يورِّثونها للأحفاد، تسودها ثقافة التهويلِ والهوسِ بالتعميمِ والغلوِّ في نُطُقٍ عدَّة ضُرِبَتْ عليها سبعُ عُقدٍ لكَ أن تطلق عليها "سُباعيَّة عِلَلِ الثقافةِ العامة":

1_ الإفراط، ومنه القدحُ والمدح، والهدمُ والنقضُ والطعن، ومنابرُ الإعلام والفكر والنقد، وتأويلُ النصوص ومدلول الكلام، وتكبيرُ الصغائر وتصغيرُ الكبائر وإطلاقُ الأحكام حتى أودَت المعارضة والموالاة لأمرٍ ما إلى خصومةٍ وبغضاء جعلت المسلمَ منهم أشدَّ عداوةً لأخيه المسلم من عداوته لعبَدَةِ النارِ والصليبِ واللات، وأمسى العاشقان بعد الطلاق أعداء ألدَّاء أشدَّاء، ولم تشفع رؤومة الأمومة وشفقة الأبوة في صغارهما، ويكأنَّه يمتنع أو يستحيل على هذين العاشقين المفرِطين في العشق والعداء أن يكونا أبوين بعد أن تعذر عليهما أن يكونا زوجين.

2_ تَبَعِيَّة سانشو، ومنها سادِيَّةُ السادات ونرجسيةُ الذَّات ومازوخيتُها، وتِيْهُ النَّفْعِيين والرَّعاعِ الهمَجِ أَتبَاعِ كلِّ ناعق في عبوديِّتِهم للمستبدِّين والفراعنة والْمِثالِيين، وتقديس العادات والأهواء والنَّزَواتِ في لَبوسٍ من الثقافاتِ والحضاراتِ والمذاهبِ والأفكارِ والمشاربِ والمشاعرِ.

3_ اختلالُ الموازين، وأعظمُه خطبًا ما يقع في تقدير الأمورِ والمصالحِ والمفاسدِ والقُوَى والحقوقِ والمظالمِ، وفي حَدْس الأزمنةِ والأوقاتِ والمعنويِّ والماديِّ من المسافات، ومنه تجاهلُ واجبِ الوقت والأولوياتِ، وتضليلُ الجيل في تأخير ما حقه التقديم وتقديم ما حقه التأخير للتنصل من المسؤوليات، وفرضُ المثاليات في تجاهلٍ مُذهِلٍ للممكناتِ والمستحيلاتِ والطاقاتِ والقابلياتِ والثوابتِ والمتغيراتِ.

4_ الدونكيشوتية، ومنها تخمينُ حجمِ المشكلات والقدرات والطاقات والمشاق والعقبات والحلول والقطع بما سيكون في إصرارٍ على النهجِ ذاته وإلحافٍ في السير عليه دون اعتبار بما قد كان، وكذلك إحلالُ اليقين محل الظنون في مكابرةٍ ومعاندةٍ لما تراه كل العيون من أشباهٍ ونظائر تكررت وأسبابٍ وعوامل تحققت، وكل منها يقطع بخلاف ما يؤملون ويقطعون.

5_ الاندفاعية والمظلوميَّة، ومنها أبعادُ القدرةِ على التغيير وآمادها ومَدَدُها ومِدادها، والمواقفُ أو المشاعرُ الإيجابية والسلبية، وردودُ الأفعال الفردية والجماعية وانعكاساتُها في كل حالٍ تُستثار فيه نوازع النفس البشرية لا سيما وقتَ الفرحِ والغضبِ والنزاعِ وتحولاتِ الأفراد الفكرية والدينية والسياسية والاجتماعيَّة والانتمائية.

6_ غُلَوَاءُ الوَلاء والبراء، ومنها الإطراء والتعظيمُ والتقديس والتحقير، ومقاماتُ الوداد وميادينُ العداء، والإطلاقُ والتعميم المغرق في الحكم على الأعداء، وهكذا بل أشدُّ مِن هذا أحكامُ أطرافِ المنافسة أو النزاع الفكري أو المذهبي أو العَقدي أو السياسي أو الاجتماعي أو المهني أو التخصصي أو غيرها من المجالات.

7- السوابق العمياء، وهي أمُّ الكبائر الموروثة في العدوان على الوعي، فما أكثر الأَحكام والإِحجام والشحناء والبغضاء والمواقف والمشكلات والمعضلات والنزاعات والتصنيفات الفكرية والاجتماعية الناجمة عن تصورات سابقةٍ سائدة تُحكِم زمامها على الوعي الفردي والجمعيِّ، ومنها ثنائيات المذهب والسياسة والمرجعية والتاريخ والجغرافية والعرق واللون والجنس والنوع والشَّكلِ والبيئة والانتماء ومسقط الرأس من البادية إلى الحاضرة، فهيهات هيهات أن يبرأ سجناء السوابق العمياء من تصوراتهم تلك ويعوا جمال رُكْنَي هذه الثنائية وكمال مخرجاتها: (زاهر باديتنا ونحن حاضروه، ولكل حاضرة بادية)(1) ناهيك عن أن يتخلقوا بمثل هذا الخلق قبل أن يحكموا على الأشخاص والأُمم والأشياء.

إنَّ مردَّ الخشية من إجهاز سُباعية العلل الثقافية على الوعي يكمن في قوة التأثيرِ وسرعة التأثُّرِ، وهذا عادةً يقتضي قيام علاقة بين طرفين أحدُهما فاعلٌ مرسِل والآخر منفعل مستقبِل، ولا تتخلف هذه الفرضية إلا في عدوَى الجماهير عندما ينماث الفردُ في الجماعة كما في المظاهرات الشعبية، فيغدو فاعلًا منفعلًا مرسلًا مستقبلًا معًا.

هذا ولعل منابرَ العلم والإعلام أشدُّ تأثيرًا في بنية الوعي وأقوى أثرًا وأبقى، وجلُّها -إن لم نقل كلها- بيد الغزاةِ وعمَّالِهم الطُّغاةِ المستبدين؛ فكم وكم من أُمَّةٍ قد احتُلَّتِ ثُمَّ تحررَّت ونهضت لكن حالَ أمَّتِنا يشهدُ أنَّ غزو الوعي والفكر واللغة أبلغُ وأنكَى، فهيهات هيهات أن نتحرر ما دامت عقول أبنائنا ترزح في أغلال أولئك الغزاة والطُّغاة!

يتبع

1 الهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، كتاب المناقب، باب ما جاء في زاهر بن حزام رضي الله عنه، رقم (15979) (9/ 368).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين