ذكرياتي مع سيدي الشيخ محمد نذير الحامد(2)

اللوحة الثانية 

توالت الدروس وكل درس من دروس فضيلته - رحمه الله - يحمل الجديد من الإبداع . لذا أعرب كثير من الطلاب أنّ هذه أوّل مرة في حياتهم تكون فيها حصة التربية الإسلامية مشوقة ممتعة تنتظر النفس قدومها .

مع ذلك كان يتخلل أسئلتهم للمعلم رعونات : الاختبار . أو الإثارة . أو السفاهة . أو الدخول في الممنوعات . ولا تلقى من فضيلته إلا الصدر الرَّحْب والابتسامة العذبة مع الحجة الدامغة .مع إظهار المحبة لأبنائه والعطف عليهم .

إذا طلب من أحدهم أن يقرأ القرآن واعتذر لأنّه غير طاهر قبل أن يحوّل السؤال الى غيره يداعبه فيهمس ويسمعنا فيقول له : ( معذور؟؟؟) فلا يسعه إلاّ أن يقول: نعم . لترتسم الابتسامة على وجوه الجميع .

تكرر ذلك الموقف من طالب، فقال له مداعبا : الدرس القادم سأستمع لك، فإن لم تكن طاهرا أمرت الشباب بأن يطهِّروك هنا واستمع لك غصبا عنك . وبدون أن يوجِّه الكلام لنا ضجّ الطلاب معلنين أمنيتهم في الحصول على هذا الموقف…

فلمّا جاء الموعد استقبل ذلك الطالب الأستاذ وهو يهلل ويكبّر ويسبّح ويحمّد معلنا عن طهارته واستعداده لقراءة القرآن .

كان لا يفتُر عن توجيه الطلاب وحَثّهم على التمسُّك بدينهم واستطاع ببراعته أن يجتزئ من الدروس جزءا تناول فيه إثبات وجود الله وصفاته بالبراهين العلمية والأدلّة القاطعة فلئن أثار دهشة الطلاّب وإعجابهم بذلك فلقد أثار أضعاف ذلك عندي : كيف استطاع بهذا الوقت القصير أداء هذا الكم الغزيرمن المعلومات . تحول إثر ذلك طالب من الإلحاد إلى الإيمان . كان يجادل الأستاذ عند طرحه المعلومات والأستاذ يجيبه ويزيل الشبهات حتى فرغت جعبته، وكان ماركسيا يفتخر بذلك .

فلمّا أفلس ، قال للأستاذ : أتريد أن تقنعني أنّ الإسلام صالح لهذا الزمن وهو فكر رجعي غير مقبول ؟

هل يعقل أن نعالج مشكلة بؤس الفقراء وظلم الأغنياء بأن ننتظر من السَّنَة إلى السَّنَة حتى يأتي رمضان فيصوم الغنيّ ويتألم من الجوع فيحسّ بآلام الفقراء فيتصدق عليهم ؟؟؟

والإقطاعية لا يصومون ولامن يحزنون وكذلك الرأسمالية يأكلون حقوق العمال والفلاحين ويمتصّون دماءهم . والجائع لايتذكر إلاّ المائدة وما تحتوي .

الحل هوالتعرف على حقيقة جريمة هؤلاء، والقيام بثورة حمراء تقضي عليهم، وتحررالبؤساء من شرورهم، وتعيد إلى الفقراء حقوقهم مع عزّتهم وكرامتهم .

أصغى إليه الأستاذ - رحمه الله - ولم يتغيّر من ابتسامته مثقال ذرّة.

ثم قال : هل انتهيت ؟ . قال : نعم . 

قال الأستاذ : ومن قال لك أنّ هذا هو الحل الذي طرحه الإسلام ؟

قال الطالب : هذا واضح وقد ذكره لنا الأستاذ ( فلان )، وسمعته بأذني من خطيب الجمعة أيام كنت أصلي .

أخرج الأستاذ من جيبه مصحفا ثم فتحه، وقال للطالب: اقرأ .

فقرأ : (( يأيّها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )).

فقال له الأستاذ: صحّح . فأعاد قراءتها . فقال له: صحّح .قال : هذا هو المكتوب . 

قال الأستاذ : يعني ليس مكتوبا : لعلكم تجوعون فتشعرون بالفقير فتتصدّقون عليه . قال : لا . قال: فمن أين تأتي بهذه الافتراءات على الدين وتتَّخذ منه موقفا معاديا ظلما وعدوانا هلا تثبتت من صحّة المعلومة أوّلا ؟ الإسلام قال:{ لعلّكم تتقون} وربّى أبناءه على التقوى تلك التي ترفع مستوى الإنسان الى مصافِّ الملائكة وتسمو به إلى حضارة إنسانية راقية .

يابني سأضرب لك مثالا من واقعك الذي تعرفه أكثر من غيرك .

أنت تنتمي إلى أسرة كريمة مسلمة، والدك حفظه الله بائع من صغار الكسبة تربّى على التقوى، أنت أدرى الناس به كيف يتحرّى الحلال ويكره الحرام ولا يتساهل في ذرة من الحرام والصور التي تؤيد قولي كثيرة جدا لديك .

جدك فلان من بقايا السلف الصالح مافاتته صلاة الفجر مع الإمام منذ أربعين سنة في جامع ( البكرجي )أنت أدرى الناس بصلاحه وأفعال الخير التي يمارسها .

عد بذاكرتك الى سلوكهم الخيري الفاضل في مجتمعك بين أرحامهم وجيرانهم ومعارفهم وحينما يطلبون منهم مساعدة لفعل خير .

هل من الممكن أن يمدّ أحدهم يده الى مال غيره ؟

هل يستطيع أحد منهم أن يأكل جهد عامل أو فلاح أو فقير ؟

هذا مستحيل وألف ألف مستحيل عليهم لأنهم تربوا على التقوى التي من روافد تربيتها الصيام .

هذا مثال عملي تطبيقي للطرح الإسلامي. وقس عليه.

ما إن أنهى الأستاذ - رحمه - الله كلامه حتى اغرورقت عينا زميلنا بالدموع . وبدأ لديه الندم والرجوع فما جاء يوم الجمعة إلّا وهو في الصف الأوّل ، وعاد إلى أصوله.

وأختم هذه اللوحة وما حوت بما يناقضها فبضدها تتميز الأشياء .

سبق وأن ألمحت إليكم بأن تلك الظروف التي كنا فيها أصابتني بداء طول اللسان وتعبت حتى تخلصت منه وذكرت لكم بأني سأعرض لكم ذكرياتي مع فضيلة المرحوم فإليكم التالي :

ذات يوم كنا - نحن الشلة - نجلس في المدرسة في الظل بعد الظهر، ننتظر بدء الدوام، ونتبادل الأحاديث والمزاح . فجلس بجوارنا طالب ماركسي شرس يسترق السمع وأغاظه جدا أن يرى طالبا شيخا يلتف الطلاب حوله .فنتج عن غيظه انّه همس لمن بجانبه - ولم يتجرّأ على المواجهة - فقال له :

"إنّ ضابط الفتوّة إذا رأى طالبا شعره طويل يقصّه له ، هناك من لحيته طويلة يجب أن يقصّها له ".

فلما أنهى كلامه صاح صاحبي بي: يا أبا أسعد في واحد قال كذا وكذا …

وكان جواب الملتحين في ذلك الحين : أعوذ بالله/ أستغفر الله / الخ.. لكن جوابي مختلف واشرأبّت الأعناق لسماع الرد .

فقلت له : صحيح ...وفي ناس لسانهم طويل لازم يقصُّه لهم.

فعلا التصفيق والتكبير .

فقاطعتهم وقلت: اصبروا لم ينته جوابي .فأصغوا . 

فقلت : الشعر الطويل واللحية الطويلة تقص بالمقص . أمّا اللسان الطويل فبالصرماية. طرقه صرماية على راسو بتقص لسانو. فضجوا بالتصفيق والتصفير والتكبير . ولاذ المفتري بالفرار وهو يسبُّ ويشتم بكل تأكيد لكن الأصوات لا تدع لصوته أثرا .

وراح الشباب يؤيّدون ويمدحون ويثنون ويمجّدون ويعتبرون أنّ هذا نصر للإسلام . وأخوكم يعني ( ما بحب القنفشة ).

بعد أن رأيت موقف فضيلة الشيخ رحمه الله، والنتيجة التي حصل عليها من إنقاذ إنسان من النار . والنتيجة التي حصلت عليها من تطفيش هذا الإنسان، وقطع حبال التواصل تماما بيني وبينه فقد حمل لي كراهة لاتنتهي، بل تزداد يوما بعد يوم .

لقد وصلني من مصادر كثيرة صورٌ عن ذلك منها :

تقاتل أحدهم معه فقال له : أنت بدك الشيخ عاطف يمسح فيك الأرض فتركه وانهال بإرسال الرسائل للشيخ عاطف .

سأله آخر : صحيح الشيخ عاطف بهدلك ؟؟؟ الخ….

بعد رؤية هذا الموقف أدركت أنّي على خطر أحتاج إلى علاج .

قارنوا بين الداعية الحقيقي والمدَّعي وبضدّها تتميّز الأشياء إلى اللقاء في لوحة ثالثة.

الحلقة الأولى: هنا