ابن عاشور.. مجدد علم مقاصد الشريعة

إن تاريخ المجتمعات البشرية على اختلافها، مليء بالصعود والهبوط، فلا يكاد قارئ التاريخ يرى أمة ثبتت في صدارة البشرية على مستوى واحد، دون اهتزاز لمكانتها أو ضعف وخمول، بل زوال وأفول، كل ذلك يتناسب مع مقدار مرونة المجتمع وتجاوبه مع التغييرات الطارئة استجابات عميقة من نواحٍ علمية وفكرية وتربوية.

 

ولعلّ أحد أكبر أخطاء قارئ التاريخ أنه يقرأ التاريخ السياسي ويربط التغييرات التي تطرأ على أحوال المجتمعات بأحداثه فقط، ذلك التاريخ السياسي الذي جعل المؤرخون أحداثَه محطات زمنية يرجعون إليها في رسم الخارطة الذهنية لتسلسل أحداث التاريخ بسبب ظهورها ووضوحها وإمكان تحديدها بدقة، فظنَّ القارئ أن هذه الأحداث هي التي تصنع المجتمعات والأمم.

 

فإذا وقف القارئ على تلك الأحداث السياسية الكبيرة وحاول فهم أسباب التغيير وفلسفته من خلالها، لم يصل إلى نتيجة مفيدة، إذ غالبًا ما تكون الأحداث السياسية ثمرة التحركات العلمية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي تقود عجلة التاريخ.

 

ولذلك ظهر -على سبيل المثال- كتاب هكذا ظهر جيل صلاح الدين، الذي يؤرّخ للحركة العلمية والإصلاح الديني الذي سبق تحرير بيت المقدس والمسجد الأقصى، فلفت انتباه القارئ إلى دور النهضة العلمية التي قادها علماء كبار كالغزالي، في التمهيد لتغيير الجيل الذي سيحرر الأقصى.

 

وفي العصر الحديث سعت جماعة من العلماء المجددين والمفكرين المصلحين في مختلف بلدان العالم الإسلامي، لقيادة جهود عظيمة لتغيير ما في الواقع التعليمي والتربوي والسلوك الديني من أخطاء تعيق حركة النهضة وتحول دون يقظة وتطور المجتمعات العربية والمسلمة، وما زالت مجتمعاتنا -على ما فيها من أخطاء- تعيش ثمرات جهود أولئك المصلحين.

 

من ذلك ما قام به جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والشيخ بدر الحسني ورشيد رضا ومحب الدين الخطيب وغيرهم في المشرق العربي، إلى أولئك العلماء الذين برزوا في المغرب العربي، صحيح أنه قد ذاعت وانتشرت شهرة الأزهر بين أهل المشرق والعالم الإسلامي عامة، ولكنه كان أحد الجامعات الثلاث الكبرى في العالم الإسلامي، بالإضافة إلى جامع الزيتونة في تونس والقرويين في فاس.

 

وإذا كانت حركة التبادل الثقافي والحضاري بين مشرق البلاد الإسلامية ومغربها، المتمثلة في رحلة العلماء والكِتَاب، أصبحت شبه معدومة، كما يقول إياد الطباع في كتابه محمد الطاهر ابن عاشور، فلا بدَّ بعد الحديث عن بعض أعلام التجديد في المشرق العربي في العصر الحديث، من الإشارة إلى أحد أبرز أعلامه في المغرب العربي.

 

هؤلاء الرجال لم يكونوا قادة سياسيين، ولا عسكريين بارزين، لكنهم وضعوا بذور النهضة العلمية والفكرية والاجتماعية التي تؤهّل المجتمعات المسلمة لدخول العالم المعاصر.

 

أليس الصبح بقريب

لعلّ هذا العنوان لأحد أهم كتب العلامة محمد الطاهر بن عاشور المغربي التونسي يوضّح شيئًا من مذهبه الإصلاحي، حيث كان عصره كما يقول إياد الطباع في كتابه المذكور، عصر اضطرابات وفتن، إذ كانت البلاد التونسية ترزح تحت وطأة الديون الخارجية وعمَّ الاضطراب الاجتماعي واختلَّ الأمن وتنازع الأمراء على السلطة.

 

وكأي عالم مهتم بشؤون مجتمعه وإصلاحها، كان ابن عاشور يفكّر في أفضل طريقة لتغيير هذه الأوضاع، فوجدَ أن التجديد الديني أقصر طريق إلى إشراق الصبح على المجتمع التونسي والمجتمعات العربية والإسلامية، والإصلاح الفكري أقصر طريق لرقيها وتغيير أوضاعها السياسية والاقتصادية والحضارية.

 

كانت مجلة العروة الوثقى ومجلة المنار تصلان إلى تونس وتأثّر بها عدد كبير من علماء الزيتونة ومثقفيها، وأسّسوا جمعية العروة الوثقى، وكان ابن عاشور ممّن تأثر بهذه الحركة الإصلاحية، واصطدمت حركة التغيير هذه كما هي العادة بالمراحل المفصلية في حياة المجتمعات، بمقاومة المحافظين من علماء الزيتونة.

 

إضافات جديدة

عند الحديث عن الشيخ ابن عاشور كأحد المجددين، لا بدَّ من وجود إضافات علمية أو رؤية إصلاحية بارزة تستحق التقدير، تجعل الشيخ في زمرة المجددين في عصره، وقد برزت جهوده العلمية في جوانب مختلفة، نجملها في 4 محاور رأى أن واقعها يحتاج لإصلاح:

 

الإصلاح التعليمي

رأى أن الإصلاح الأمة يبدأ من إصلاح التعليم، فالتعليم هو الذي يؤهّل أجيال المجتمع للتجاوب مع متطلبات عصرهم وحاجاتها، فإذا قصر التعليم عن إنشاء تلك الأجيال فلا يرتجى تغيير ولا تطوير.

 

شملت جهوده في إصلاح التعليم المجال النظري والعملي:

في المجال العملي تولّى مشيخة جامع الزيتونة، وأدخل إليه الكثير من الإصلاحات التي جعلت فريقًا من علماء الزيتونة يخالفونه ويحاربونه، كانت رسالته أن ينتقل بالتدريس في الزيتونة من طريقة المشايخ التقليدية التي يكون فيها الشيخ هو محور العملية التعليمية (والتي كانت نافعة في مراحل زمنية معيّنة، وما زالت لها أهميتها في بعض المجالات)، إلى طريقة الجامعات الحديثة التي يكون التنظيم والإدارة والمنهجية في اختيار المواد والمقررات هي محور العملية التعليمية، فلا ترتبط بالشيخ وحده، بل هي مؤسسة قائمة بمناهجها وترتيباتها الإدارية.

 

ولذلك قام بتحديد المواد المقررة والمناهج بعد أن كان اختيارها مفتوحًا للمعلّم، وجعل حصة الدرس لا تتجاوز ساعة بعد أن كان الوقت مفتوحًا للشيخ، بل عيّن قيّمًا ينبّه المدرسين لانتهاء الدرس، وكان هو أول الملتزمين بمناهج التعليم ومواعيده، فإذا نبّهه القيّم لانتهاء الوقت أنهى درسه مباشرة.

 

وأدخل العلوم الحديثة من طبيعية ورياضيات إلى مناهج التعليم، ولعلّ جهوده في هذا المجال تخفى على القارئ المعاصر الذي يرى هذا الأمر هو الأمر الطبيعي المنتشر في كل جامعات ومعاهد عصره، إلا أنه في ذلك الوقت (النصف الأول من القرن العشرين الميلادي) أخذ كثيرًا من وقت وجهد وفكر الشيخ ابن عاشور في تحويل مؤسسة علمية تقليدية على طريقة المشايخ، إلى جامعة حديثة.

 

وكان من أهم جوانب هذا التغيير وجود معايير علمية من امتحانات وغيرها تبيّن أهلية الطالب للتخرج في الجامعة، واستحقاقه لنيل شهادتها، وتحديد مستواه، وضبط البحث العلمي وتوجيهه.

 

أما في المجال النظري، فقد قدّم كتابًا من أهم الكتب التي تعالج مشكلات التعليم ومناهجه في العالم العربي، فألّف كتابه أليس الصبح بقريب، وقد أدرك صعوبة المهمة وأهميتها وضرورتها، مع تقصير المصلحين فيها، حيث وجّهوا انتقاداتهم إلى بعض الأوضاع الاجتماعية والفكرية والدينية، لكنهم لم يتقدموا بدراسات لتطوير الواقع التعليمي.

 

ويقول في مقدمة كتابه أليس الصبح بقريب: وها أنا ذا متقدم إلى خوض بحر أرى هول أمواجه قد حاد بعقول كثير من ذوي الألباب فولوا عنه مدبرين، وتكلموا في إصلاحات نافعة من منافع المسلمين لكنها كلها كانت متوقفة على هذا المقصد الجليل المغفول عنه: مبدأ إصلاح التعليم.

 

فالتعليم بحسب ما يبيّن في كتابه هو الذي يوجّه اهتمامات الأفراد المجتمع ويكوِّن طريقة تفكيرهم وينشئ عاداتهم وتقاليدهم، وهذه الأمور التي تنشأ عن التعليم هي التي تتفاضل الأمم من خلالها، ولذلك كان إصلاح التعليم إصلاحًا للأمة.

 

ثم ينبّه إلى قضية مهمة، هي أن إصلاح مناهج التعليم وتجديدها يختصر على الطلاب كثيرًا من أوقاتهم وجهودهم الضائعة، ويقرّب إليهم طريق الإبداع والاختراع، فيقول: إني على يقين أنه لو أتيح لي في فجر الشباب التشبُّع من قواعد نظام التعليم والتوجيه لاقتصدت كثيرًا من مواهبي…”.

 

 

 

    كلما تغيّرت ظروف الحياة وابتعدت عمّا كانت عليه في الوقت الذي نزلت فيه نصوص الوحي، كان الاحتياج إلى النظرة المقاصدية أكبر.

 

لقد كان من التجديد الذي يحتاج إلى جرأة في تلك المرحلة، تجديد العلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية لتوافق أحدث ما تُوصِّل إليه عالميًا، ويشير في كتابه إلى هذه المسألة، فيقول عن الكتب التي تدرَّس في الزيتونة في هذه المجالات: أكثرها من المؤلفات القديمة التي تغيرت الآن مسائلها تغيرًا واضحًا.

 

ويشير إلى أهمية حركة الترجمة من أجل مواكبة التقدم العلمي، فيقول: فالحاجة اليوم إلى مترجمين نابغين لينقلوا ما يحتاج إليه من هاته العلوم لأهل اللسان العربي، كما يشير إلى أوضاع المعلمين وضرورة إصلاحها وأوضاع الامتحانات والمناظرات.

 

الإصلاح الأدبي

لا بدَّ أن يكون القارئ قد سمع أو قرأ شيئًا عن الأساليب الأدبية في عصور الانحطاط، الأساليب المليئة بالسجع والمحسّنات البديعية المتكلّفة، التي قد تفسد المعنى، فأصبحت اللغة مباراة ومباهاة بالأساليب اللفظية الفارغة من أي معنى.

 

ولأن الأدب لسان ثقافة الأمة وعلومها، كان الفساد الأدبي سببًا من أسباب الفساد الثقافي، وكان التجديد في اللغة والأدب أحد وجوه التجديد المهمة لتغيير الأوضاع الثقافية، فكان هذا المجال أحد أهم مجالات اهتمام ابن عاشور، فهو أول من درّس ديوان الحماسة في الزيتونة، وهو يمثل بذلك عودة إلى الأساليب الأدبية السليمة التي تكون فيها الألفاظ أداة للتعبير عن المعاني النبيلة.

 

ألّف كتابًا من أهم الكتب في تقويم الأسلوب الإنشائي، وقد يصحّ أن يطلق عليه أنه كتاب مقاصدي في اللغة، فكُتُب النحو تعلّم طريقة استخدام الكلمات وتركيبها، وكُتُب البلاغة تعلّم كيفية استخدام العبارات اللغوية بأسلوب جميل معبّر، لكنه ألّف كتابًا في كيفية صياغة كل ذلك للتعبير عن الموضوع الذي يريد الكاتب الحديث عنه، في توظيف الثروة اللغوية والأساليب البلاغية من أجل إنشاء الموضوع الذي يريد إيصاله إلى القارئ.

 

فالتعبير عن الموضوع بأسلوب مفهوم واضح جميل مترابط، مناسب للمقام، هو المقصد الأعلى من علوم اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة، فكان كتابه أصول الإنشاء والخطابة، ويبيّن فيه أن اللفظ خادم للمعنى تابع له، وملكة الإنشاء تكتسب من جهة المعنى، ومن جهة ما يعبّر عن المعنى وهو اللفظ والكتابة.

مقاصد الشريعة وعلوم الدين

 

كانت لابن عاشور إسهامات مهمة لا يستغنى عنها في علوم الدين، نذكر علم الأصول، تحديدًا مبحث المقاصد، فقد أسّس علماء المسلمين علم أصول الفقه ليكون الآلة التي تستخدَم لتجديد الاجتهادات في كل زمان ومكان.

 

فمصدر التعاليم والأحكام الكتاب والسنّة، وآلة أخذ هذه التعاليم من الكتاب والسنّة هي علم أصول الفقه، ولعلّه من المهم للقارئ أن يفهم فكرة مهمة علم الأصول حتى يدرك أهمية ما قام به ابن عاشور في هذا العصر.

 

يحدد علم الأصول القواعد في مجالَين متعلقَين بالأحكام، الأول كيفية أخذ الحكم من الدليل، أي فهم ما تدلُّ عليه الآية أو الحديث من حكم، والثاني فهم علل تلك الأحكام ومقاصدها وغاياتها، لصياغة النظريات الفقهية التي تجمع شتات الأحكام المتفرّقة، ومن المجال الثاني علم مقاصد الشريعة.

 

عندما تكون البيئة التي نريد إسقاط الأحكام الشرعية عليها متشابهة مع البيئة التي جاء فيها النص، من حيث ظروف الحياة ومجالات النشاط البشري، قد لا يحتاج الفقيه إلا إلى فهم الأحكام التي تدل عليها الآية أو الحديث.

 

ولكن عندما تدخل الأمة عصرًا جديدًا كانت غائبة عنه، بعلومه ومعارفه وفلسفاته وتقنياته الجديدة، وتريد أن تستفيد ممّا وصلت إليه البشرية من علوم ومعارف، وتريد أن تحدّث تنظيم دولها ومجتمعاتها، تكون بأمسّ الحاجة إلى علم مقاصد الشريعة، لتصل من خلاله إلى فهم روح الشريعة الإسلامية وأحكامها، وعللها وغاياتها، وتكوين نظريات تستطيع من خلالها التعامل مع مجالات النشاط البشري الجديدة التي لم تتحدث عنها الأدلة الشرعية بتفصيل.

 

فكلّما تغيرت ظروف الحياة وابتعدت عمّا كانت عليه في الوقت الذي نزلت فيه نصوص الوحي، كان الاحتياج إلى النظرة المقاصدية أكبر.

 

وحتى يدرك القارئ أهمية إسهام ابن عاشور، يكفي أن يعرف أنه قد أفردَ علم المقاصد بالتأليف العز بن عبد السلام، ثم الشاطبي، ثم لم يُؤلَّف في المقاصد إلى أن قام ابن عاشور في العصر الحديث بتأليف كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية، فتحدّث فيه عن أهمية علم المقاصد للفقيه، وطرائق معرفة مقاصد الشريعة، ثم بيّن مقاصد الشريعة العامة والمقاصد الخاصة بباب من أبواب الفقه.

 

ومن بديع ما ورد في كتابه عن فوائد علم المقاصد، أن دلالات الألفاظ تكون أوضح ما تكون عند المشافهة، ورؤية الحالة والظرف والسياق الذي ظهر فيه الكلام، فالصحابة أقدر الناس على فهم خطاب الشريعة لأنهم عايشوا الواقعة والظروف وفهموا مراد الشارع، فإذا بلّغ الكلام مبلِّغ تطرّق إليه الخطأ لعدم رؤية الواقعة أو الحال والسياق، فإذا وصل الكلام كتابة كان احتمال الخطأ أكبر لأنه لا تظهر فيه ملامح المتكلم التي قد تكون عونًا للألفاظ للتعبير عن المعنى.

 

فهنا يزداد الاحتياج إلى فهم المقاصد الشرعية حتى يحسن الفقيه فهم النصوص الجزئية في ضوئها، إذ يقول: ولذلك تجدُ الكلامَ الذي شافه به المتكلم سامعيه أوضح دلالة على مراده من الكلام الذي بَلَّغَه عنه مبلَّغ، وتجد الكلامَ المكتوب أكثرَ احتمالات من الكلام المبلّغ بلفظه بله المشافه به، من أجل فقده دلالة السياق وملامح المتكلّم والمبلّغ وفي هذا العمل تتفاوت مراتب الفقهاء، وترى جميعهم لم يستغنوا عن استقصاء تصرُّفات الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا على استنباط العلل.

 

بالإضافة لعلم مقاصد الشريعة فقد اعتنى ابن عاشور بعلوم الدين، وهو المجال الرابع من نظراته التجديدية، ولعل كتابه الأكثر شهرة تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير، هو من أعظم إرثه، ومن أهم كتب التفسير التي يتجلى فيها إبداع المفسّر المنضبط بالأصول العلمية، ويُعدّ التطبيق العملي لرؤيته التجديدية في الجوانب الثلاثة التي سبقت.

 

فكتبَ تفسير القرآن بأسلوب جديد، مع اهتمام بالجانب الأدبي والمقاصدي، حيث يحاول استيعاب ما قيل في تفسير الآيات والسور مع رؤيته التحليلية النقدية، ثم يبيّن المقاصد العامة للسورة التي تجمعها في رؤية موضوعية متكاملة، ليشرع في تفسير آياتها، مع التحليل اللغوي والبياني الماتع.

 

فعندما يفسّر سورة الإخلاص يبدأ بالمقاصد العامة للسورة من توحيد وتقديس، وهذا توجيه للفهم الكلّي المقاصدي لسور القرآن الكريم، ثم يبدأ بتفسير آياتها وكلماتها، فيبيّن بتحليل مفصّل الفرق بين واحد وأحد.

 

صحيح أنه قد وُجّهت إليه بعض الانتقادات لكنها لا تحط من شأن صنيعه، بل هذا شأن كل طرح جديد لا يخلو من خطأ أو انتقاد.

 

نشاط واسع

إن أولئك الكبار، من المجددين والمصلحين، لا تضيق حياتهم وتنحصر في أنفسهم أو أُسرتهم أو بلدهم، بل تتّسع باتّساع آفاقهم الفكرية ومداركهم العلمية، وكأن الحرية العلمية تخرجهم من أسر وضيق مكان محدد إلى عالم واسع.

 

وقد اتّسع نشاط ابن عاشور الذي تعلم في الزيتونة، فتأثّر بالحركات الإصلاحية في عصره، وما كان يُطرَح في الصحف والمجلات الكبرى، وتولّى وظائف التعليم والتدريس، وتولّى مشيخة جامع الزيتونة فكان واضح الأثر، ونشر مقالاته في مختلف أرجاء العالم الإسلامي من خلال مراسلاته للمجامع العلمية والمجلات.

 

وكان عضوًا مراسلًا في مجمع اللغة العربية بدمشق، والذي كان اسمه المجمع العلمي العربي، وعضوًا في إدارة الجمعية الخلدونية، فاشتغل بالتأليف من خلال مؤلفات فريدة أصيلة تلبّي احتياجات المرحلة، واشتغل بالتعليم، والتوجيه، وذلك الاتساع في المكان، أما امتداد أثره العلمي في الزمان فهو إكرام من الله وتخليد لجهوده وجهود الرجال الكبار الذين خدموا أممهم.

 

أما كيف يصبح الكبار كبارًا، فيذكر مؤلف كتاب ابن عاشور، ضمن سلسلة علماء ومفكرون معاصرون، أن من المكتبات المشهورة في العالم الإسلامي، الغنية بالكثير من الكتب الفريدة المخطوطة والمطبوعة، المكتبة العاشورية، وهي مكتبة عائلة ابن عاشور، وأنه توجد على كثير من كتبها ومخطوطاتها تعليقات وحواشي الشيخ ابن عاشور، ولا غرابة في ذلك فقد كانت المكتبة هي المكان الذي انطلق منه هذا العقل الإصلاحي الكبير.