الشيخ فخر الدين قباوة الذي أعرفه

معرفتي بالشيخ الدكتور فخر الدين قباوة تنقسم إلى مرحلتين، المرحلة الأولى كانت في فترة دراستي الجامعية في مدينة حلب - كلية الآداب - قسم اللغة العربية - من عام ١٩٧٣ لغاية ١٩٧٧، والمرحلة الثانية أواخر التسعينات، يفصل بين المرحلتين عشرون عاما.

المرحلة الأولى:

يجد الناظر إلى الشيخ -سوف أسميه بالشيخ حيث ورد اسمه كما يحب هو- فخرالدين قباوة في ملامحه شيئا إضافيا لافتا للنظر يُنبيك أن في داخل هذا الرجل شيئا مختلفا وأن هذا الشيءَ ذو بالٍ، وكنت أقرأ في وجهِه جملةً من الانفعالات والعواطف الجيّاشة.

كان شديد الانضباط والالتزام بتوقيت المحاضرات، كان يقف أمام باب قاعة الدروس قبل موعد بدئها بدقيقتين وينظر إلينا ثم إلى ساعته كأنه يقول لنا: اقطعوا أحاديثكم وهلمّوا إلى الدرس وكنا نسارع للدخول لعلمنا أنه إذا دخل القاعة فلا يسمح لأحد بالدخول بعده إلا في حالة نادرة لطالب لم يكن من أولئك الواقفين في الرواق وأنه صادق قادم من مكان بعيد. 

كان يقطع الدرس والكلام إذا سمع صوت المؤذِّن ينبعث من المسجد القريب من الجامعة، ويُطرِق يجيب المؤذن حتى يُنهيَ الأذان فيتابع الدرس.

كان يراعي الطلاب الملتزمين والطلاب المبرزين والطلاب الفقراء، ويقسو على الطلاب اللامبالين فلقّبوه -أبو حديد-.

مجموع هذه الصفات فرضت على الطلاب احترامَه ومَهابته إضافة إلى الاهتمام بالمواد التي يدرسّها وهي: الأدب الجاهلي في السنة الأولى، والنحو والصرف في باقي السنوات.

المرحلة الثانية:

افترقت عن الشيخ حوالي عشرين عاما، ثم شاء الله اجتماعنا بعد تلك السنين الطويلة وكان ذلك في مسجد سيدنا -عبد الله بن العباس- في مدينة حلب، حيث بدأ الشيخ مجلسا أسبوعيا يعرب فيه القرآن الكريم بأسلوبه الماتع وشخصيته القوية الفريدة المُفعمة بالطاقة والتأثير.

ثم أضاف إلى هذا المجلس مجلسا ثانيا في مسجد -أبي حنيفة النعمان- يقرأ فيه كتاب المفصل للزمخشري وثالثا في المسجد الأموي الكبير خصَّصه لإعراب كتاب رياض الصالحين للإمام النووي رحمه الله، وذلك بعد صلاة الفجر، وكانت هذه الخطوة جديدة على التراث اللغوي، ثم تغيّر موعد المجلس إلى مابعد المغرب بسبب الحوادث الخطيرة التي ألمّت بالشعب السوري نتيجة ظلم الحكام الطغاة الذين أوغلوا في الشعب قتلا وسجنا وتشريدا، وهذا ما اضطر الشيخ إلى قطع تلك المجالس كلها وآثر المكث في بيته إلى أن سافر إلى تركيا.

هذي المجالس الأسبوعية الثلاث في ثلاثة من أكبر المساجد وذلك بعد إحالة الشيخ على التقاعد كأن لسان حال الشيخ يقول فيها: أريد أن أنتقل معكم من كدر الجامعة إلى صفاء الجامع ومن قيود الظلم والإفساد إلى رحمة الله الواسعة وفضائه الرحب.

هذي المرحلة مختلفة جدا عن المرحلة الأولى وذلك لأسباب كثيرة، أهمها أن العلاقة بيننا في المرحلة الأولى كانت متحفِّظة لا تتعدى علاقة طالب بأستاذه، إضافة لحرص الطالب على إرضاء أستاذه ودراسة مادته ليحظى بالنجاح والدرجات، فكانت علاقة رسمية مشوبة بالخوف، أما في المرحلة الثانية فقد أمست هذه العلاقة أعلى وأرفع رتبة، إنها علاقة الولد البار بأبيه المُربّي الذي ترك في نفسه أثرا بالغا من القيم السامية والصفات الحميدة، لاسيّما وأن تلك القيم كانت غريبة في وسطها الاجتماعي والسياسي فقد كانت محاربة من المتسلِّطين أدعياء التقدُّم والاشتراكية، في زمن كان المسلم فيه يشعر بغربة حقيقية في وطن الغثاءِ والغوغاءِ والرويبضات الذين تسلَّطوا على الجيش والثقافة والإعلام والتجارة وجميع مرافق الحياة، فصَدَقَ في علاقتي مع شيخي قولُ الشاعر: إنّ الغريبَ إلى الغريب نسيبُ.

أكرمني ربي بالقرب من الشيخ الذي عاينت فيه الصدق والإخلاص والعطاء والحرقة على ما أصاب أمتنا، فكانت علاقة مميّزة أذكر جوانب منها أوضح فيها كيف كان موقف الشيخ من الأحداث وكيف خاطر وجاهد بنفسه وماله وقلمه وعلمه في الوقت الذي جبُن فيه الكثيرون من مشاهير علماء المدينة وعجزوا عن اتخاذ موقف تجاه تلك الطغمة الحاكمة المجرمة، بل كنا إذا طلبنا منهم كلمة حق امتقَعَت ألوانُهم وبلعوا ريقَهم واصفرّت وجوهُهم، ومنهم من سلَق الثوار بألسنة حداد ورماهم بأقذع الصفات زورا وبهتانا في الوقت الذي لاينبس فيه بِبِنتِ شَفة على من أحرق البلاد وشرّد العباد وفعل ما لم تفعله ثمود ولا عاد.

أذكر هذا شهادة لله ثم للتاريخ وعبرة لإخوتي طلبة العلم .

لعلّ الله يجعل لك صاحبا:

عندما اشتدَّت الأحداث واضطُّر الشيخ لترك هذي المجالس الطيبة انقطعنا عن الشيخ ودهتنا دويهة تصفرُّ منها الأنامل، وانقسمت مدينة حلب قسمين، غربي بقي تحت سيطرة بشار وزبانيته حيث يقيم الشيخ وشرقي تحت سيطرة الثوار والجيش الحر المُنشّق عن الحكومة حيث أقيم، وكنت أتصل بالشيخ بهاتف النوكيا الصغير وأطمئن عليه، وأتسقَّط أخباره عن طريق بعض إخواني المقيمين في الطرف الغربي.

لم تكن هناك بداية الأمر فواصل واضحة بين المنطقتين إذ لم يتصوَّر أحد أن هذي المدينة الواحدة ستصبح مدينتين متحاربتين لكن مع مرور الوقت أخذ الطرفان يتمترسون ويضعون السواتر والحواجز والدوريات.

في هذا الواقع علمتُ أن الشيخ متضايق جدا ويودّ السفر إلى تركيا، اتصلت به وأخبرته أني أستطيع مساعدته على السفر إذا كان راغبا في ذلك حقا، فأجابني بسرعة ولهفة أنه يتمنى ذلك ويرغب به رغبة حقيقية، كلَّمته بعد أيام وأكّدتُ له ماقلته له وأرسلت له بعض إخواني المقيمين في الشقّ الغربي يطمئنه ويُذهِب عنه أيّ مخاوف، بعد أيام اتَّصلت بي زوجته أمُّ نجيب حفظها الله وكلمتني في موضوع السفر واستَشفَفتُ من حديثها أنها خائفة على زوجها، كلّمتها بما ألهمني ربي وطمأنتها أنني أريد الخدمة ولا أريد جزاء ولا شكورا، كلمتني ثانية وثالثة، كانت خائفة ومضطرة وكنت أشجعها على أن تثق بي وتقوّي قلبها، وأخيرا اتُّخِذ القرار.

أرسلتُ أحدهم ليأخذ الشيخ من بيته في ساعة موعودة ويوصله إلى نقطة محددة، هنا في هذي النقطة وهذا التوقيت كان أحدهم ينتظر الأول لينقله من سيارة دولة الغرب إلى سيارة دولة الشرق، كان مكان هذا اللقاء هو أضعف نقطة جغرافية بين حدود الدولتين وكان خارج المدينة ببضعة كيلو مترات، طبعا درست الأمر دراسة وافية وأعددت الخطة إعدادا يليق بشيخي وبحبّي له وحرصي عليه.

جرت الأمور بِيُسر وتوفيق من الله وفي الدقائق المحدّدة كنت أتسمّر أمام بيتي أنتظر قدوم الشيخ.

أقبلت السيارة من بعيد تتهادى وتوقفتْ أمامي، نظرت إلى الشيخ الجالس جانب السائق، كان وجههه متعبا حذرا مُشفقا، سلَّمت عليه وابتسمت له وطيّبت خاطره ببعض الكلمات وقلت: شيخي الحبيب الأمر إليك، إن شئت تنزل وتستريح وتصلي ثم ننطلق وإن شئت انطلقنا فورا، أجابني: ننطلق فورا.

انطلقنا على بركة الله، بقي الشيخ مكانه وصعدت مع ابني في الخلف، تحدثنا قليلا، لم يكن الشيخ مرتاحا، بقي مضطربا مترقّبا حائرا، ساعة وكنَّا في معبر باب السلامة على الحدود التركية، أخذتُ جواز سفره وضمَمتُه إلى جوازاتنا السائق وابني وأنا، دقائق قليلة وعدت إلى السيارة، ناولته جواز سفره وقلت له: الحمد لله على السلامة، قُضِي الأمرُ والحمد لله، كانت السيارة قد مشت حوالي خمس دقائق داخل الأراضي التركية، فتح الجواز ونظر إلى ختم الدخول الممهور عليه والتفت إلي قائلا: نحن الآن في تركيا؟ كأنه غير مصدّق قلت: نعم شيخي الحبيب، عاد لونه إليه واعتدل في جلسته ورفع يديه داعيا ودموعه تسحّ سخيّة كان يكرِّر كلماته المعهودة التي طالما سمعناها منه: الحمد لله الحمد لله، لاأعرف كيف أشكر الله.

وصلنا مطار عنتاب وصعدنا طيارتنا، كل شيء كان يسير بِيسر وتوفيق ورعاية من الله سبحانه، نظرت إليه، كان مختلف الملامح كثيرا في الطيارة عمّا كان عليه في السيارة، كان شديد الارتياح يغشى وجهه السرور، لقد نجونا من براثن الأسد.

وصلنا إستانبول، كان الرجال في استقبالنا، وأخذوا الشيخ إلى مكان إقامته ومنزله المبارك.

زاحم العلماء بركبتيك:

لازمت الشيخ في دروسه ملازمة تامة، ماتخلَّفتُ عن درس إلا نادرا، وكنت لا أرفع يدي لإجابة عن سؤال إلا إذا كنت متأكدا من صحة جوابي تفاديا لغضبته، وكم كان سروري عظيما عندما كان يبشّ لإجابتي ويقول لي: أحسنت، وأخذَتِ العلاقة بيني وبين الشيخ تزداد بازدياد الدروس سواء في إعراب القرآن أو إعراب رياض الصالحين أو كتاب المُفصّل وكنت أحرص على لقائه قُبيل موعد الدرس وبعده، وكثيرا ماكنت أُحَضّر الدرس جيدا قبل الحضور ثم أكتب مايقول الشيخ على ورقة ثم أثبت الملاحظات على الكتاب، وخاصة كتاب المفصل لأنه صعب العبارة، ولمّا أطْلَعْتُه على كتاب المفصَّل الذي لديّ سُرَّ كثيرا وقال لي: ماشاء الله هذا تحقيق.

كنت أشعر أن الشيخ كنز عليّ أن أستثمرَه خيرَ استثمار إضافة لتشامّ روحَينا، لكني شديد الحذر شديد التعلّق .

تواضَعْ تُرفعْ:

عندما طبعت كتاب (أي بُنيتي) أخذتُ معي نسختين أهديهما له وأمسكت القلم أريد كتابة إهداء للشيخ فجمدت أصابعي وقالت لي نفسي: اعرف حجمَك، رحم الله امرأً عرفَ حدّه فوقف عنده، من أنت لتكتب إهداء لهذا الشيخ الجليل؟! أعطه الكتاب بلا إهداء وتواضع لله يرفعْك الله.

ناولته النسختين بيدٍ مُرتجفة وقلبٍ وجِل وانصرفت باقي الوقت أضرب أخماسي بأسداسي ماذا عساه يقول لي، داعيا ربي ألا يعرّضني لموقف من الشيخ لا أحسَد عليه.

في موعد الدرس التالي انصرفت باكرا بعد نهاية الدرس على غير عادتي خوفا من العواقب، كان ذلك في المسجد الأموي الكبير، وما أن وصلت الباب للخروج حتى سمعت الأصوات تناديني باسمي، رجعت وشريطَيْ عَرَقٍ ينسابان بغزارة من تحت إبطَيّ مبتهلا إلى الله بالستر والعافية، اقتربت منه فرأيته مُشرِق الوجه مُنفرِج الأسارير فحمدت الله وهدأ قلبي قليلا عن الخفقان. قال لي: ماشاء الله يا أستاذ أحمد، لقد أعجبت بالكتاب، قرأته أنا وأهلي واستفدنا منه، وفقك الله.

ومرّت الأحداث قاسية سريعة، وما هي إلا أشهر بعد هذا الموقف وأنا في بيتي في إستانبول وإذ بشيخي الحبيب يستأنس لزيارتي فأفرح لذلك كثيرا وأستقبله وأرحب به أجمل ترحيب؛ جلس على يميني وأخرج من كيسٍ كان بيده كتاب (التفسير الوافي المفيد لفهم القرآن المجيد) وأخرج من جيبه قلم حبر وكتب عليه إهداء لي وناولنيه مصحوبا بكلمات الشكر والتقدير، أغمضت عينيّ وتمثّلت نفسي وشعوري وأنا أخجل من إهدائه كتابي في المسجد قبل أشهر، فإذا به يزورني في بيتي ويكتب لي إهداء لكتابه.

 ويسألونك عن الرّوح:

كانت الأحداث تتتابع بسرعة، والواقع أشبه ببحر هائج متلاطم الأمواج، واضطر أحد أولادي إلى السفر إلى تركيا وكان كثيرا ما يحضر معي دروس الشيخ، اقتربنا من الشيخ بعد انتهاء الدرس وقلت له: إن ولدي هذا مضطر للسفر فادع له، بدا عليه التأثر المفاجئ كعادته ودعا له ومضى، كان أخونا الأستاذ عبد القادر يأتي بالشيخ من بيته إلى الدرس ثم يعود به إلى بيته في سيارته، وفي الدرس التالي للدرس الذي طلبت منه الدعاء جاءني الأستاذ عبد القادر وكان أحد إخواني وقال لي: سبحان الله، ونحن في السيارة ذكرك الشيخ وذكر ابنك وراح يدعو دعاء طويلا حارّا ويبكي بحرقة كبيرة حتى أني استغربت هذا منه فيا سبحان الله.

تتابعت الأيام والأحداث وكنت وأولادي نلازم الشيخ في إستانبول ونخدمه وأهله ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، واقتربنا من بعضنا كثيرا حتى أني كنت أوصي أولادي عند نزولي إلى سورية قائلا لهم: الشيخ الشيخ، لاتتركوا الشيخ، لاتُلهِكم أشغالُكم عن الشيخ، إذا رغبتم بِرّي فهو أبوكم بعدي.

هذا، وهنا بيت القصيد، فكان الشيخ يقول لي -وقد تذكر دعاءه الحار لولدي ولم يكن يعلم أن الأخ عبد القادر قد حدّثني بذلك-: سبحان الله ياشيخ أحمد عندما طلبت مني الدعاء لولدك قبل سفره فعلتُ، ولكن لم أكن أعلم أني ساعتها كنت أدعو لنفسي، يقصد أنه ساعة الدعاء لولدي وقد صدق فيه لدرجة واضحة الصدق واللّجَأ والتجلّي لم يكن يدري أن هذا الشاب الذي يدعو له هو من يستقبله في إستانبول، وهو الذي سيجد فيه الابن البار الملازم له، وأن والد هذا الشاب هو الذي يصحبه في هجرته، إنها رَحِمُ العلم والدّين والجُهد والجهاد وما أسناها وأسماها من رَحِم.

كنت كلما سافرت لإستانبول أزوره ويطلب مني أن أحدّثه عن الوضع في الداخل السوري وكنت أحدثه بما يفتح الله به فيتأثّر تأثرا بالغا ويتمثّل قول دريد بن الصمّة:

ياليتني فيها جَذَعْ   أخبُّ فيها وأضَعْ

من خلائق الشيخ:

كان الشيخ صادقَ اللهجة قويَّ التأثير في مَن ألقى السمع وهو شهيد.

يجمع في شخصيته بين الرقة والشدة، وهذه الخليقة بدت تتجلى وتظهر أكثر عندما تقدم به العمر، فلا تدري وأنت تتابعه في الدرس متى ينفجر في وجه طالب أخطأ في إجابة أغضبته، ثم إذا مرَّت عليه عبارةٌ مؤثرة أو معنى لطيف خشع ورقّ وفاضت عيناه.

كان يركّز على الإلقاء وعلى اللهجة والنّبْرة، والأسلوب الموافق للموقف من رقّة أو شدة، ومن سؤال إلى جواب، ومن أسلوب تعجب أو أسلوب شرط أو نداء، وما يناسب ذلك جميعا من نبرة الصوت وضعفه أو قوته، ومن رقّته أو شدته، وكأنه يمثل المعنى الموجود داخل العبارة ويعيشه بقلبه ووجدانه .

كان ينبِّهنا إلى ضرورة الصدق والحضور، والتفاعل مع المعنى الذي نقرؤه، وألا ننثر الكلام على وتيرة واحدة لانفرق فيه بين معنى شديد وآخر رقيق، وبين معنى حماسي وآخر غزلي رقيق، وكان يهزأ ممن يقرؤون النص على وتيرة واحدة وكأنهم آلة صماء لا شعور ولا حياة ولا تفاعل فيها مع معاني النص.

أخبرنا أول قدومه إلى تركيا أنه كان يعمل اثنتي عشرة ساعة قراءة وكتابة ومتابعة، أما هنا فخفض العمل إلى ثماني ساعات وهو ابن الثمانين .

كان حريصا على اغتنام الوقت وعدم إضاعته ويذكرنا بقوله تعالى: "وقل اعملوا"، فكنا في مدينة حلب إذا طلبنا منه زيارته في بيته يسألنا: هل من عمل؟ إذا كان لديكم عمل فأهلا وسهلا بكم، وإن كنتم تريدون مجرد الزيارة فاعذروني.

كان حريصا على الاعتزاز بالتراث العربي والإسلامي والحفاظ عليه، بعيدا عن التأثر بما عمّ وطمّ من مناهج المتغربين والمستشرقين الذين لايريدون بأمة الإسلام خيرا سواء كانوا خبثاء ماكرين أو جهلاء فارغين.

له نظرات ووقفات عميقة في البحث العلمي، وله رسالة في ذلك الموضوع، وله نقد بناء لطه حسين ولكل فكر مُعادٍ للإسلام.

جريء في طرح الحقائق، لا يخشى في الله لومة لائم، كيف لا وقد شارك أول شبابه في المظاهرات والثورة ضد المستعمر الفرنسي، وسُجِن بسبب مواقفه الجريئة.

مخلص صادق حريص على المعلومة الصحيحة ونسبتها لأصولها، وإذا بدا له أنه أخطأ في معلومة رجع عنها إلى ماهو صحيح، وذكر هذا أمام الجميع دون تحفُّظ أو حرج، وذكرَ وشكرَ الذي نبّهه وصوّب له خطأه، وهذه صفة لايتمتَّع بها إلا المخلصون وقليل ما هم.

الشيخ ودود كريم لاينسى المعروف بل يشكره ويكافئ عليه، عصامي، صاحب شخصية مؤثرة مُعدِية وروح شفافة قوية، لايمكنك الانصراف من مجلسه إلا وقد حملت في طواياك الكثير من همّته وشفافيته وصدقه.

كان شديد الاهتمام بعلامات الترقيم، يشبهها بالشواخص وشارات المرور وبدونها تختلط المعاني وتكثر الحوادث الضارة.

ولم يكن يقبل رسائل الدراسات العليا من الطلاب الذين  لا يُراعونها حقّ رعايتها ويضعونها في مكانها الصحيح المناسب، وله رسالة خاصة فيها.

لقد رأينا كثيرا من العلماء يمتازون بالقدرة على الكتابة لكنهم متواضعون في الخطابة والإلقاء، وآخرين عكس ذلك، أما الشيخ فحباه الله قدرة وتألقا في المجالين.

تكريم الشيخ في دار المكتبة الوطنية في مدينة حلب :

عندما قرّرتْ مدينةُ حلب الاحتفاء به وتكريمه في المكتبة الوطنية، اجتمع المسؤولون والمثقفون من زملائه يشيدون به وبأعماله ضمن حفل رسمي، ألقى فيه الأستاذ الشاعر محمد خطيب عيّان -رحمه الله- قصيدة جميلة في مدح الشيخ، وألقى صديقه الدكتور بكري شيخ أمين -رحمه الله- كلمة بيّن  فيها فضل الشيخ ومثابرته وحرصه على طلب العلم والتعليم، حتى إذا جاء دوره في الحديث بسط لنا أجنحته الطويلة العريضة الفسيحة وقال لنا: هلمّوا، هيّا اركبوا، وطار بنا مُحلّقًا في عوالمَ ساميةٍ سامقة سنيّة، ولست أحنثُ إذا أقسمتُ أنّ جميع من كان حاضرا غلبه البكاء، لقد بكى وأبكى وحلّق وصدق، فللّه درّ الأرواح التي لايعلم أمرَها وسرّها إلا الله، وصدق من قال: الرجال مواقف، وشتّان شتان وهيهات هيهات بين الرجال والأنذال.

كان يتكلم بضمير الغائب عن نفسه ومما قاله: لقد كان الطفل فخر الدين قباوة في الصف الرابع الابتدائي عندما توفِّي أبوه منتصف العام الدراسي، فاضطر لترك المدرسة ومغادرتها لأنه لايستطيع دفع قسط الفصل الثاني للمدرسة الفرنسية الخاصة يومها، وأخذ يعمل نادلا في المقهى وهو اليتيم ابن العاشرة، لم يكن فخر الدين ينزعجُ أو يتألَّمُ من بعض الزبائن السّيئين الذين يُعاملونه بغلظة وجفوة، ولم يكن ينزعج أو يتألم من الزبائن الذين يطلبون منه جلب وإحضار المُحرمات أو الممنوعات من دخان أو كحول من داخل المقهى أو خارجه، فكانوا يبادرونه بالسوء من الكلام فيجيبهم بالمثل، ولا يسكت لهم، لم يكن جميع ذلك يزعج أو يؤلم فخر الدين، لكن الذي كان يؤلمه فقط عندما يدوس بقدميه الحافيتين على جمرِ النارجيلات المتساقط منها على الأرض وهو منهمك في العمل لا يراها.

كان يحبس دموعه المسافرة معه منذ طفولته وهو الشيخ الكبير، ويقول والدموع تحبس صوته: نعم أيها الإخوة الحضور الأكارم إن شيخكم الذي تحتفون وتحتفلون به وتكرمونه اليوم لم يكن يملك ثمن حذاء يقيه برد الشتاء وجمرات النارجيلات الكثيرة المتساقطة على الأرض، ولا يزال يحسّ ألمها إلى الآن.

حدثنا كيف اشتغل حذّاء لفترة ليست بالقصيرة استطاع خلالها إتقان تلك المهنة، ثم اشتغل في معمل للنسيج، ثم قرّر أن يدرس دراسة حرّة غير نظامية يسمّونها ليلية، حيث يعمل نهارا ويتلقى الدروس ليلا ويتحيّن الدراسة ليلا ونهارا، وقد نال الشهادة الإعدادية ثم الثانوية على هذا المنوال، ونال أعلى الدرجات في دراسته الجامعية ثم تابع دراسته العليا في مصر، وسلّمه رئيس جمهورية مصر العربية آنذاك شهادة الشرف الأولى لتفوقه في دراسة الدكتوراة، وعرفنا لماذا لم يذكر اسم ذلك الزعيم رئيس جمهورية مصر العربية في تلك الفترة تنزيها للسانه أن يتّسخ بذلك الاسم.

مما قاله في كلمته: المركز الثقافي أبي والمكتبة الوطنية أمي، لم أكن أخرج منهما، حتى أن الموظفين أشفقوا عليّ وقد رأوا انهماكي وعاينوا حرصي فأعطوني المفاتيح، كنت أنام هنا في الطابق العلوي في قاعة الشاعر عمر أبو ريشة، ولم أكن أذهب إلى البيت كي لا أضيع الوقت وكنت أخرج مرة واحدة في اليوم آكل صندويشتي ثم أعود مسرعا إلى المكتبة.

وختم كلمته برسائل نارية لرئيس الجمهورية السورية وللمسؤولين جميعا على اختلاف مستوياتهم، وحمّلهم مسؤولية اللغة العربية وأمانتها اللصيقة بالإسلام والعروبة وأن ما عمّ وطمّ من إهمال لها وطغيان اللغات الأجنبية إنما هو خيانة للأمانة ولله وللدين وللوطن.

لقد كانت كلمة صادقة جريئة وقعتْ وَقْعَ الصاعقة على المرجفين والمنافقين، حتى أني سمعت عن بعض المسؤولين من أكابر مجرميها وقد كان حاضرا، سمعت مَنْ سمعه -وهو من الصادقين- يقول: لو كنا نعرف أنه سيتكلم هذا الكلام وبهذه الطريقة لما كنا قمنا بتكريمه أصلا، وقال آخر من أكابر مجرميها أيضا: وأنقله بحرفيّته قال باللهجة الحلبية: هلّق طالع كل دينو؟! هيك وهيك بدينو.. شتم الدين والعياذ بالله.

له أكثر من مئة مؤلف تجدها في مظانّها.

وآخر ماكتب الشيخ في إستانبول -الفتاوى الإستانبولية- وهي مُجمل ماأفتى به في شؤون اللغة العربية إجابة على الأسئلة التي يتلقاها مكتوبة.

وله سيرة ذاتية تنوف عن الألف صفحة يتحدث بها بصدق وشفافية عمّا عاشه وكابده من تجارب في كل الظروف الحسنة والسيئة أسماها (وأما بنعمة ربك فحدث)، وقد أخبرني من أثق به أن جميع دور النشر التي عرضها الشيخُ عليهم أنفوا عن طباعتها لأنهم ما ألِفوا لهجة الصراحة والمكاشفة التي يتميز بها الشيخ.

من أقوال الشيخ:

- في غمرة العمل في كتاب المفصل أكرمني ربي برؤية النبي صلى الله عليه وسلم مرّتين .

- إذا قتلك يهود فاعلم أنك على قدم الأنبياء فالله سبحانه وتعالى قال فيهم في محكم تنزيله: "ويقتلون النبيين بغير الحق".

- جاء في كتابه الموسوم بـ (المفصل في تفسير القرآن الكريم) المشهور بتفسير الجلالين، وذلك لدى تفسير قوله تعالى: ومن شر النفاثات في العقد، يقول: فالتعميم هنا أولى ليراد بالنفاثات أيضا النفوس الخبيثة جميعًا، كرعاة الأمم والمحتلين لبلاد المسلمين وسماسرة الشعوب والقيم، المسؤولين عن البلاد وأمور العباد، قد يعقّدونها فيوقدون الحروب والخلافات، ويفسدون العقائد والأخلاق والقيم، ويبلبلون التفكير والميول واللغات، ويثيرون الفتن وينفخون فيما تعقّد منها، بالقول والعمل ليتسنَّى لهم الاستبداد والطغيان. وكذلك شأن سماسرة الطب والصيدلة والمنكرات، وحال عصابات علوم العدوان والابتزاز والوحوش والحشرات والجراثيم المُؤذية، والسعي بين الناس بالغيبة والنميمة والحروب والغزو، وحال ولاة بعض الشؤون العامة في كل ميدان، قد يصطادون منها في الماء العكر، فيهمّهم أن تبقى الأمور في عكر دائم، ليتسنى لهم مايطلبون. وأظهر ذلك يبدو في المشرفين على وسائل الإعلام، يريدون أن تكثر الحروب والفتن، ليكون لديهم أخبار وندوات ومؤتمرات وتعليقات وتحليلات ومسرحيات وأفلام. والعبرة بعموم اللفظ والحكم، فالمراد هنا النفوس الخبيثة في كل مجال. ص ٢١٦٩

وإذا أردت التعرُّف أكثر على شخصية الشيخ وتألُّقِه في البحث والتحقيق فعُد إلى مقدمة كتابه المفصل في تفسير القرآن الكريم.