ذكرياتي مع سيدي الشيخ محمد نذير الحامد : اللوحة الأولى

 

كان لموقعنا قصب السبق في نشر ترجمة وافية عن فضيلة الشيخ محمد نذير حامد في حياته، ونشرنا - بعد وفاته - خمس حلقات متتاليات جمعت عدة كلمات في رثاء الفقيد: الأولى: كلمة الدكتور محمد فاروق النبهان، والثانية : كلمة صهره الأستاذ يحيى حاج يحيى ، مع كلمة وقصيدة للشاعر جميل جانودي ، وفي الحلقة الثالثة نشرنا ذكريات نادرة وصور حية ناطقة لتلميذ نجيب من تلاميذ الفقيد هو فضيلة الشيخ إبراهيم منصور حفظه الله .

وفي الحلقة الرابعة نشرنا كلمة وافية نادرة للأستاذ عاطف البيانوني ، وأتبعناها بكلمة لشقيقه الدكتور الشيخ عبد المجيد البيانوني .

وفي الحلقة الخامسة نشرنا بعض حديث الذكريات عن فضيلة الشيخ بأقلام بعض تلاميذه من طلاب دار نهضة العلوم الشرعية (الكلتاوية) وخريجيها الأوائل ، ونشرنا كلمتين للأستاذين الفاضلين: الشيخ محمود الجابر ، والشيخ عثمان عمر المحمد   

 ثم تابع الأستاذ عاطف البيانوني كتابة عدة كلمات استوفى فيها الكثير ذكرياته مع أستاذه العلامة المربي الشيخ محمد نذير حامد رحمه الله تعالى في عدة لوحات ننشرها تباعا.

وكتبه: مجد مكي

 الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم ، على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد : وأنا أبتدئ كتابة صور من ذكرياتي مع فضيلة العلامة الشيخ الحبيب نذير حامد رحمه الله يطيب لنفسي أن أكرر قول الشاعر أحمد رحمه الله شوقي حيث يقول :

قد كنت أوثر أن تقول رثائي// يا منصف الموتى من الأحياء

ولكن الله غالب على أمره .

مقدمة :

هذه المقدمة لا بدّ منها لتتجلى للقارئ المواقف وتتضح الصورة جلية .

لقد كنا في ذلك الزمن أي في المرحلة الثانوية نعاني من هجمة عنيفة جدا وقذرة ضد الإسلام والفكر الإسلامي وضد المتدينين ومن يظهر عليه التدين .

ولعل هذا سبّب اتصاف أغلب مدرسي التربية الإسلامية بالتجهّم والعصبية وسرعة الانفعال وتجنّب الصواب في معالجاتهم الفكرية والسلوكية للطلاب . كما كوّن عندنا ضعف الثقة فيهم

لذلك ذكرت فيما سبق أنّا كنّا نتمنى أن يأتينا أستاذ للتربية الإسلامية جلد مصارع ملاكم .

فالفكر الإسلامي يتعرض لهجوم شرس ويوصف بالرجعية والتخلف حتى بلغ بهؤلاء الطغام أن خرجوا في مظاهرات تجوب الشوارع في معظم المحافظات تهتف (مال المشمش على التفاح /دين محمد ولّى وراح ).

وعندما ذكرت هذا لأحد أبنائنا فيما بعد كذّبني ورفض صحة كلامي مدَّعيا أن هذا كذب لتشويه صورة الحزب ولما رحت أؤكد له ذلك جاملني بقوله : أنت صادق لكن يبدو أنك أخذت هذا من الإخوان المسلمين .قلت بل أنا شاهد عيان .فقال : لاتؤاخذني أنا لا أصدق مثل هذا .فلا تسل عن آلامي...

وبعد مدة التقيت مع حزبي تائب ذكر لي كيف ورّطوه في المشاركة في هذه المظاهرة.قلت له :آه … أين فلان ليسمع . لكن بعد مدّة خرج على قناة الجزيرة رئيس الجمهورية في تلك الحقبة وهو ( أمين الحافظ ) واعترف بذلك فقال له أحمد منصور : سيادة الرئيس من يستطيع سماع هذا ولا ينفعل ؟ فضحك وقال : صارت . فصرخت : آه لوكان أمامي ذلك الذي كذبني لصفعته على وجهه صفعة معتّقة عتّقها ألم السنين التي مضت على تكذيبه .

هذه هي الأجواء التي كنا نعيشها . وقد تأثرت بها فأصبت بعلّة طول اللسان تعبت حتى شفيت منها - وقد أتعرض لذكر شيء من ذلك -.ولما شرّفنا الأستاذ لم ندرك حقيقته كما ذكرت وأعربنا عن خيبة أملنا بعبارات مختلفة لكنّه ما إن شرع في التدريس حتى بدأ النور يسطع ويبدد أوهامنا .

فالأستاذ مختلف جدا فهو بسَّام دائما . وحديثه يوحي بالطمأنينة والثقة ، يعامل الطلاب كلّهم معاملة أبويّة تامّة لايشعر أحد منهم أنّ المعلم يكرهه أبدا مع ما يبدو من مظاهر ابتعاده عن الدين . وغلب عليهم بادئ ذي بدء أنّه يتصنع ذلك .وأمّا نحن ( الشلة ) فما زلنا غير واثقين من قدراته فارسا في هذا الميدان فإلى اللوحة الأولى .

(( اللوحة الأولى )) :

 جاءنا- رحمه الله - يوما وقال : لقد تأخّر دوامنا عن بقيّة الثانويات، وطلبت منا المديرية الإسراع في إنجازاختبارات (كان اسمها مذاكرات ) فالدرس القادم عندكم مذاكرة . فلم أهتمّ بذلك غرورا وإهمالا . وتمّت المذاكرة ولم أك موفقا فيها .فلما جاء الأستاذ ليعلن عن النتائج . كان في كلّ تصرّفاته متميّزا ، فكان ينادي اسم الطالب ثم يسأله : كم تتوقع درجتك ؟ فيجيب .فيثني عليه إن أصاب ويدعو له . وإن قدّرها أقلّ . وصفه بالتواضع وأثنى عليه وأخبره بدرجته . فإن قدّرها أكثرقليلا .قال اقتربت من الصواب .فإن بالغ في الزيادة تبسم وقال : طبعا الذي بيده القلم لايكتب نفسه من الأشقياء .  بعّدت كثيرا ثم يخبره بها .

حتى سأل مشاغبا درجته سيئة : كم تقدّردرجتك ؟ فقال المشاغب: عشرين من عشرين .فضحك الأستاذ وقال: قل غير هذا . قال : بل عشرين من عشرين لا تنقص درجة . فقال : ولك قول غيرها . قال لا أقول غيرها .

قال ماحزرت .فدرجتك مخجلة . فقام أحدنا وقال : يا أستاذ أتسمح لي أن أقول له مثلا عامّيا ؟ فقال الأستاذ : إذا سمح لك هو . فأسرع المشاغب يقول : قل ولا يهمك . فقال له :

أما تستحي ينطبق عليك المثل الشعبي ( شخاخ تحتو وبدو ينام في النص ) فعلا إنّك ما بتستحي .

 فقال له طالب آخر وفي مثل ثاني يقول : ( لعمى يضربها أقدامها عوج / وبدّها بابوج) وقال له ثالث :( ولك قعود أعوج واحكي سوي) الأستاذ يضحك والطلاب يضحكون . فاستغاث المشاغب بالأستاذ أن ينقذه من هؤلاء الهمج وقال : أستحق ستة أوسبعة . وكانت درجته سبعة . فقال الأستاذ له: أنت أتيت به لنفسك هلا اعتدلت من أوّلها ؟

وعندما صاح الأستاذ اسمي بدا على وجهه الحزن ونظر إليّ نظرة كلّها عتاب ثم أشار إليّ بيده يستدعيني إليه ، فلمّا وصلت همس في أذني قائلا : من شيخك ياابني ؟ قلت : الشيخ أحمد عزّ الدين البيانوني .قال : ماشاء الله عليه شعلة حيوية ونشاط وجد ومطالعة ، هل يرضى بهذه الدرجة ؟ فقلت له : لا . ولا أنا أرضاها لنفسي ، وهذه ليست درجتي . فقال : بارك الله فيك . فهمنا... توكّل على الله . ولم يعلن عنها .

كان علاجه هذا كافيا لأثبت على الدرجة التامّة بقيّة العام .

وأكتفي بهذا في هذه اللوحة وإلى اللقاء في لوحة أخرى .

تنظر كلمة الأستاذ عاطف البيانوني في رثاء شيخه هنا