كلمات في رثاء العلامة الشيخ محمد نذير حامد(4)

كان لموقعنا قصب السبق في نشر ترجمة وافية عن فضيلة الشيخ محمد نذير حامد في حياته، ونشرنا - بعد وفاته - ثلاث حلقات متتاليات جمعت عدة كلمات في رثاء الفقيد: الأولى: كلمة الدكتور محمد فاروق النبهان، والثانية : كلمة صهره الأستاذ يحيى حاج يحيى ، مع كلمة وقصيدة للشاعر جميل جانودي ، وفي الحلقة الثالثة نشرنا ذكريات نادرة وصور حية ناطقة لتلميذ نجيب من تلاميذ الفقيد هو فضيلة الشيخ إبراهيم منصور حفظه الله .

وفي هذه الحلقة نتابع نشر ما وقفنا عليه من كلمات، منها كلمة وافية نادرة للأستاذ عاطف البيانوني ، وأتبعناها بكلمة لشقيقه الدكتور الشيخ عبد المجيد البيانوني . ونتمنى من أخينا الحبيب عاطف البيانوني أن يتحفنا بتتمة ذكرياته مع أستاذه العلامة المربي الشيخ محمد نذير حامد رحمه الله تعالى.

وكتبه: مجد مكي

كتب تلميذه الأخ عاطف البيانوني أبو السعود

إنَّ العين لتدمع وإن القلب ليخفق ويخشع، والحزن يملؤ الكيان، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا الرحمن إنا لله وإنا إليه راجعون.

اللهم ارحم شيخنا وأسكنه الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا فقد كان يحبهم وربانا على حبهم، وقدم لنا صورة عنهم فكان نعم الأسوة الحسنة .

لقد تعرفت على فضيلة الشيخ عندما جاءنا مدرسا للتربية الإسلامية في ثانوية فلسطين، وكانت محدثة نترقب مجيء المعلمين، فلما جاءنا وكنا شلة طلاب في الصف متميزين جدا تردد على ألسنتنا عبارات الحسرة والأسى لأن مدرس التربية الإسلامية ( شيخ ) . كنا نتمنى شابا مصارعا ملاكما حاذقا بأساليب الخبثاء قادرا على مقارعتهم .هكذا أملى علينا طيش الشباب .لكن بعد عدة دروس علمنا فضل الله علينا بأن منَّ علينا بفضيلة الشيخ نذير حامد .

كان مربيا رحيما وداعية قلَّ مثيله وعالما فذا مع ما يتحلى به من أخلاق النبوة .

أثَّر في الطلاب تأثيرا بليغا . ولا بد لي من تقديم عيِّنات من أساليبه التربوية الراقية .

1) أول ما دخل إلينا أجرى التعارف فكان يسأل الطالب عن اسمه ، ثم أسرته، ثم عمل والده ...وهكذا مجموعة من الأسئلة .

جاء دور طالب متميز في الكوميديا فهب واقفا وانطلق يتكلم : اسمي غسان مكانسي عمري كذا اسم أبي كذا .....وزاد ما شاءت قريحته حتى طوله واسم جدته، وأطال السرد ونحن معتادون على فكاهاته، ثم التفت إلينا وقال : بقي شيء يا شباب ؟؟؟ أقول قولي هذا وأستغفر الله .فضحكنا وضحك الأستاذ الفاضل معنا . وكنا نظن أن الأستاذ قد أثبت أستاذيته في كل مجال لكنه لن يكون له في هذا المجال نصيب وكما ذكرت كنا شلة متميزة لكلٍّ منا تميزه .لكن بعد هذا قال الأستاذ له : أتظن أني أطرح عليكم أسئلتي تلك عبثا ؟ لا يا حبيبي .أنا أسأل السؤال وأضعه في مكانه من ذاكرتي، وبعد أن آخذ من وقتك خمس دقائق لك عليَّ حق أن تسألني بعد عشر سنوات : من أنا؟ فأقول لك: أنت طالبي فلان درستك في ثانوية فلسطين . لذا طريقتك لم تنجح معي . تفضل أعد من الأول . ما اسمك ؟ فضجَّ الطلاب بالتصفيق والضحك والسرور. لقد تحداه حتى في الفكاهة ونجح عليه وأسعدنا . ثم تبين لنا باعه العلمي في شتى المجالات فهو أقوى من مدرس اللغة العربية ، وأقوى من مدرس الفلسفة ، وحتى اللغة الإنجليزية شرح للطلاب بعض قواعدها فحلفوا أنه أفهمهم أكثر من المعلم المتخصص لكني كنت أدرس الفرنسية . لقد اجتزئ من الدرس وقتا فأثبت للطلاب وجود الله بالبراهين العلمية ، تحمل رعوناتهم بصدر تربوي لامثيل له فلازمته بعد ذلك أزوره في البيت وأشعر بأن مجلسه منجما للمعادن الثمينة . سمعنا منه ردودا على شبهات لم أسمعها من غيره هي قمة الحجة والمنطق .

لقد كنت في عملي في الإشراف التربوي متألقا مما استفدته من والدي ومن فضيلته في الأساليب التربوية الراقية ّ.

رحمة الله عليه لقد تكلمت بجزء مما يخصُّني والحديث عنه مع الشواهد يطول. أرجو الله أن يمكنني من عرضه .

وأحرُّ تعازي لولده الحبيب السيد بشير أبو اليمان ولأسرته الكريمة وأصهاره الكرام ولاحول ولاقوة الابالله .

وكتب الأخ الكريم الشيخ عبد المجيد البيانوني

كلمات قليلة في رحيل عالم جليل ، فذّ علم :

كَتب عدد من الإخوة الأفاضل ، والمشايخ الكرام عن العالم العلم ، والداعية العامل ، والمربّي الجليل ، الشيخ نذير حامد ، رحمه الله تعالى وأعلى منزلته عنده ، وعوّض الأمّة خيراً عن فقد علمائها ودعاتها ..

وعندي في هذه المناسبة أربع كلمات مختصرة أحبّ أن أفضي بها :

ـ الأولى : أنّني لم تكتب لي وللأسف التلمذة العلميّة على هذا العالم الجليل ، ولكنّني أحببته قبل أن أراه ممّا سمعت من أخي الأستاذ عاطف، وكان تلميذاً له في المدرسة، فعندما التقيته رأيته أعظم ممّا وصف لي ، ووجدت نفسي أمام عالم جليل ، دمث الأخلاق متواضع ، يطفح وجهه بالبشر والابتسامة النابعة من قلبه المُمتلئ بحبّ الخلق ، والحرص على النفع .. وشعرتُ أنّ الله تعالى قد وضع له القبول في القلوب .. ففرحت جدّاً بتلمذة أخي الصادقة عليه وانتفاعه به .. وكم سمعت منه عن مآثره ومناقبه ، وحكمته في خطاب الطلاب ، والإجابة عن إشكالاتهم ..!

ـ والكلمة الثانية : أنّ سرّ انتفاع طلابه به وأقبالهم عليه بعد توفيق الله تعالى له أنّه أحسن خطاب الشباب ، ومحاورتهم والدخول إلى قلوبهم ، ومعالجة مشكلاتهم ، وكان خطابه يَحمِلُ لهم الرحمة والرفق ، والتبشير والتيسير ، ولا عجب في ذلك فهو أبو بشير ..! لقد سمّى ولده ذلك الاسم بما يَحمِلُ هو من تلك الروح ..

ـ والكلمة الثالثة : أنّني منْ مجالستي القليلة له ، ولقاءاتي المحدودة رأيت فيه قلباً صافياً ، وعقلاً واعياً نيّراً ، مُنفَتحاً على جميع المدارس العلميّة والتربويّة ، وعلى جميع علماء عصره ، على تنوّع مشاربهم ، يأخذ من كلّ شيء أحسنه وأنقاه ، ويدع ما يراه خارجاً عن منهج العلم ، الذي يصبغ شخصيّته وحياته كلّها ، دون ضجيج أو اشتغال بما يبدّد جهده ووقته .. فلا عجب أن كان قريباً من الجميع ، ومحبوباً من الجميع ..

ـ والكلمة الرابعة : أوجّهها لإخوانه ومحبّيه وما أكثرهم : أنّ الشيخ رحمه الله ترك للأمّة ، ولأهل العلم ثروة علميّة لا تقدّر بثمن ، هو هذا الكتاب العظيم الموسوعة في التفسير، الذي عكف على كتابته سنوات طويلة، ووضع فيه عصارة علمه ، وخلاصة فهمه لكتاب الله تعالى ، فيجب على كلّ ذي جاه أو اقتدار مادّيّ أو معنويّ أن يبذل قصارى جهده ليرى هذا الكتاب النور قريباً ، ويوضع بين أيدي طلاب العلم وشداة المعرفة .. وفاء لحقّ هذا العالم الكبير على الأمّة ، وخدمة للعلم والعلماء ، وليبقى له صدقة جارية بعد وفاته .. ومَا أظنّ أنّ إخْوانه يغفلون عن هذا الأمر ، ولكنّها ما ينفع من الذكرى ..

رحم الله الشيخ رحمة واسعة، وأعلى مقامه عنده في علّيّين ، وجعله مع النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقاً ، والحمد لله ربّ العالمين .

الحلقة الثالثة هنا