من أدب القصة في القرآن الكريم -10-

 

(10)

 ومن تقدير الله أنَّ الحسَّ البشري معزول عن حسِّ الروح ، فلا يكاد يحس المرء ما يجد كائنه الروحي من ضيق أو سعة إلا قليلاً ، حتى إذا دخل المرء في طوره الأخروي ، وتبدل تكوينه فصار حس البدن هو الباطن وحس الروح هو الظاهر، عاين ما صنع بنفسه، ووجد من مس العذاب ما يؤول قوله تعالى : [وَلَعَذَابُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] {القلم:33}.

على أن شقوة الباطن كثيراً ما تبدو آثارها فيما يعاني المرء من قلق ، وضجر وحيرة ، فينشد التغيير والتقلب في ألوان متباينة من الحياة ، لعله يجد في حال منها جديداً يزيل سأمه ، أو بديلاً يغنيه من زاد الروح الذي فقده ... فلا يجد مع كل حال إلا الملل الذي يعجله إلى نشدان حال أخرى ، ذلك أن الملل الذي يفر منه ، إنما هو بين جنبيه وحنايا صدره ، فهو يجده أينما حل.

تلك حقيقة الشقوة ومعنى الحرمان... فأصحاب الجنة إذ قالوا : [أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا اليَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ] {القلم:24} . طاف بضمائرهم طائف مثل الذي طاف بجنتهم ، فأورثهم الشقوة حرمانأً بحرمان... ومنعاً بمنع ... إنهم لم يحرموا المسكين شيئاً حين عقدوا ضمائرهم على نية الحرمان ، إنما حرموا أنفسهم خيرها وزادها الحق... وفي الوقت الذي ظنوا فيه أنهم قادرون على منع المسكين كانوا أقدر ما يكونون على منع آخر هو منع أنفسهم ما لها من حظوظ السعة في روح الله ...

 وإنا لنقرأ عجباً من الاعجاز يشير إلى هذا لامعنى في قوله تعالى :[فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا اليَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ] {القلم:25} . فالحرد هو المنع... تقول العرب: حاردت السنة: إذا منعت خيرها ... وحاردت الإبل : إذا منعت درها... وقد جاء الحرد في نظم الآية نكرة ليصلح لكل توجيه يحتمله المقام ... وأول احتمال هو ما تحقق لأولئك المحرومين إذ قرروا منع الفقير فكانوا على منع أنفسهم أقدر ، وأبان الله تعالى ذلك بقوله :[وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ] {القلم:25} . فإنه بلغ من اقتدارهم على الحرد أن قد حلت حقيقته بنفوسهم ، فغدا متمكناً بها ، وغدوا متمكنين منه حاصلين عليه ... والحصول على الشيء عين الاقتدار عليه ، على أنهم قد حصلوا على الحرمان حساً ومعنى إذ هلكت حديقتهم ، فلما تنادوا: [أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ] {القلم:22} . لم يغدوا في الحقيقة على حرث ، بل غدوا على حرد ، وليس أبلغ في الاقتدار على المنع من هذا الاستيعاب الدقيق الذي جمع لهم حسه ومعناه.

وإذا كانت روعة الاعجاز على إيجاز اللفظ تبلغ أعماقها في النفس للسداد في أصابة حق المعنى على النحو الذي قدمنا ، فثمت ثالثة يكتمل بها نظم اللآلي في سمط هذا الإعجاز ، إذ أنهم كانوا يملكون الاقتدار على منع الفقير حين كانت ثمار الحديقة ملكاً لهم في اقتدار سلطانهم... فلما غدت أيديهم صفراً من كل شيء كانوا على منعه أشد اقتداراً ، لأن فاقد الشيء لا يعطيه... وهو ما نلمحه مع تهكم يصيب حقيقة موقعه في قوله تعالى :[وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ] {القلم:25} .

نسأل الله سبحانه أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ، وجلاء بصائرنا وابصارنا ، وعلم مجدنا وعزتنا ، ومنار رشدنا وهدانا ، إنه أكرم مسؤول ، وأفضل مأمول .

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

الحلقة السابقة هـــنا

المصدر : منبر الإسلام السنة 20 جمادى الآخرة 1382 العدد 6

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين