من أدب القصة في القرآن الكريم [ 4 ]

 

(5)


ومن الفروق الأساسية الواضحة: أن المرأة في القصص العادي، عنصر أصيل لابدَّ منه عادة في كل قصة طويلة أو متوسطة... أما القصة في القرآن فالمرأة غير ملتزمة فيها... فقصة نوح، وهود، و صالح، وإسماعيل، وأصحاب الكهف، وذي القرنين، وداود وغيرهم لم تدخلها المرأة.

ولكنها قد دخلت في بعض القصص مدخلاً كريماً في غير افتعال أو تكلف، لتكون مظهر آية من آيات الله وقدرته في عجائب الخلق...

 فامرأة إبراهيم عليه السلام، ومريم ابنة عمران، وأم موسى وأخته، مكانهن معروف في القصص الذي دخلن فيه، فقد ولدت العجوز العقيم من زوجها الهرم بعد أن أمعنت في سنِّ الإياس ... وحملت العذراء الحَصَان بدون رجل على غير المعهود في سنن الحمل و الولادة ... وسعت أخت موسى باحثة عنه، لتقول لآل فرعون:[ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ] {القصص:12} . ليقيم الوليد وأمه في كنف الطاغية ولتتم كلمة الله تعالى، فيرعى الطاغية بنفسه في داره، ما يحذر من أسباب بواره وهلكته...

أما علائق الجنس، والتخوض في آثامها على ما هو معروف في القصص العادي، فقد تنزهت عنه قصة القرآن، وبرئت منه، لأن الله يكره أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، بل يكره للمؤمنين أن يستمعوا إلى أنبائها، ويسنّ لهم أن يردوا ما يجيئهم من إشاعاتها، قضاء عليها، وتنزيهاً للمجتمع أن يستمرئ ترديدها أو يترخص في تأثيم ذويها...

وحين دخلت امرأة العزيز في قصة يوسف عليه السلام، إنما دخلت لإثبات مدى ما يحرز الشاب من حصانة عن الإثم، إذا هو اعتصم بإيمانه بالله بإزاء الفتنة التي تدعوه إلى الجمال والمال والجاه... [مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ] {يوسف:23} .ولقد عرضتها القصة، في مثال من أذلها شبق الشهوة لرقيقها الخادم، حتى طرحت عن نفسها كبرياء المرأة، وراحت تهدِّد في جنون من طاشت الغلمة بحلمه:[وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ] {يوسف:32}.

فلا يكون منه إلا أن يلوذ بربه:[قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ] {يوسف:33} .ويدخل الشاب العفيف السجن وكل جريمته أنه لم يقبل الجريمة... فلما أرادوا أن يفرجوا عنه قال: لا ... لماذا أنا هنا...؟!!

 وتتم القصة الزاجرة أن تقبل المرأة في هوان الخاطئ وانكسار النادم لتعلن:[ الآَنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ]{يوسف:51} .

ويكون في ذلك كمال القدوة لكل شاب يبتغي معالي الأمور... وكمال الزجر والردع لكل امرأة تحاول أن تبذل عرضها وتخون أمانتها ... وما أبعد هدف القرآن في ذلك، عن هدف سواه.

وقد دخلت المرأة في قصة سليمان عليه السلام، وكان عليها أن تؤمن بالله، فتنقذ نفسها وقومها وإلا زحف عليهم بجنود لا قِبَل لهم بها يذيقونهم الصَّغار والذلة... ولسنا ندري لماذا أجرى سليمان عليها لسلام لتلك الملكة اختباراً من اختبارات الذكاء وأثار فيها غريزة الأنثى؟

لعله افترض استعصاء الملكة عن الإيمان... وأراد في الوقت نفسه أن يحقن الدماء بما يحقق دخول الجميع في الإيمان بالله تعالى. وهل يتسنَّى ذلك إلا أن تصير الملكة زوجاً له؟ وهل يعقل أن ترفض تلك المرأة ملكاً آتاه الله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده؟ ولكنه عليه السلام يريد أن يعرف قبل ذلك ما لديها من ذكاء، فكان ذلك الاختبار الطريف.

 لقد أحضر عرشها الذي تركته وراءها في بلادها البعيدة وقال لمن معه:[قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ]{النمل:41} . أي: غيِّروا لها معالم هذا العرش.. فلما جاءت عرضوا عليها العرش وقد نكِّروه لها، فغيَّروا معالمه بالزيادة والنقصان، وقالوا لها: [أَهَكَذَا عَرْشُكِ] {النمل:42}. ودُهشت للمفاجأة وأسعفها الذكاء اللمَّاح، فلم تقل: إنه هو ... لأنها تركته وراءها في بلاد بعيدة، ولكنها في الوقت نفسه لم تقل: إنه ليس عرشي، لأنه تراه بكثير من معالمه وصفاته ... ولم تقل: لا أدري، لأنه غباوة وبلادة ذهن... فخرجت من هذا السؤال المحرج بهذه الإجابة الكيِّسة اللبِقة، التي ما كان يصلح للموقف غيرها.. فقالت: [كَأَنَّهُ هُوَ]{النمل:42} .واطمأنَّ سليمان عليه السلام إلى هذا الذكاء، وأراد أن يخرج ضيفته من تزمّت الملك، ليلفت فيها إليه غريزة الأنثى، فوجَّهها إلى الصَّرح الذي تأخذ زينته وحُلاه بِلُبِّ الأنثى ... وشهدت الضيفة منظراً عجيباً... إنهم يقولون لها:[ ادْخُلِي الصَّرْحَ] {النمل:44}، ولكنها لا ترى أمامها سوى لُجَّة من الماء، فتضطر أن تكشف عن ساقيها لتخوضها ... وهنا يقول لها عليه السلام: إنها ليست لجَّة:[ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ] {النمل:44}، تنعكس منه الأضواء على أرضه البلورية، فتعطي منظر الماء...

وهنا تنتبه غريزة الأنثى، وتفطن لما يريد سليمان، وتحس بقلبها يتحرك في صدرها حباً لله، وحباً لسليمان، ولم يكن ممَّا يعبِّر عن إحساسها ذلك أن تقول أسلمت لله رب العالمين ... بل: [وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ]{النمل:44}. فإنَّ إعلان الإسلام بدون إعلان تلك المعيَّة، لا يعبر عن حقيقة وجدانها الذي يشغل سليمان حيِّزاً كبيراً منه، فكان إعلان تلك المعيَّة هو المقتَضَى الذي يطلبه المقام لصدق التعبير عن تلك التجربة الوجدانيِّة [رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ] {النمل:44} .

ذلك طرف من حديث المرأة في قصص القرآن الكريم، وطرف من أدب هذا القصص عامة، وإلى اللقاء لتكملة الحديث.

 وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

الحلقة السابقة هـــنا

المصدر: مجلة منبر الإسلام، السنة 20 جمادى الأولى 1382 العدد 5

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين