من أدب القصة في القرآن الكريم [3]
 
 
 
(4)
 
على أنَّ قصص  القرآن إذ خلا من الاطالات الفنيَّة وغير الفنيَّة، لميتخلt إطلاقاً عما يقتضي المقام بيانه من الجزئيات الضرورية؛ إذ جعل التصوير الفني سبيله إلى عرضها، ولكن في إيجاز دقيق يغني عن الصفحات فإنه ليذكر العبارة، بل الكلمة، الواحدة في سياق القصة، فإذا هي تعمل في خيال القارئ وفي لبِّه مالا يدركه أبرع القصاصين بمختلف حيل الإثارة والتنبيه ... وكلنا يعرف قصة إبراهيم عليه السلام يوم كسر أصنام قومه، فأرادوها له محاكمة جامعة، يحضرها عامَّة الناس وخاصَّتهم، بحيث يكون هو بمنظر ومرأى من الجميع، ليعرفه منهم من سمعه يتوعد الآلهة فيشهد عليه... ويراه منهم من يراه في معرض المخذول الذي يتلقى جزاء تمرده على الآلهة، فتقر عينه بالانتقام لقدسيَّة العقيدة، ويراه منهم من كان على مثل رأيه، فيزجره سوء المصير عما هو عليه... فكيف صور القرآن ما ارادوا لذلك كله من هيئات  ظاهرة، وأغراض في الذهن والضمير؟ [قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ] {الأنبياء:61} . فاختصر ما هنالك من مقدمات ومناقشات عن يوم الجمع ومكان المحاكمة، وأراك الصورة حيَّة جيَّاشة بمختلف الانفعالات والمشاعر، وقد أدرج فيها ما كان هنالك من مناقشات ومقدمات. 
 
 وانظر قوله: [فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ] {الأنبياء:61}، فإنها تريك إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وقد برز للجمع في مكانه الواضح، وتريك طوائف الجمع، وقد تحوَّلوا إلى أعين مثبتة في اهتمام على ذلك الفتى العجيب ... وتأمَّل كلمة (على) في قوله :[عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ]. فإنها مركز الإعجاز في التعبير والتصوير، إذ جاءت بالاستعلاء الذي يتمكن من كل عين، ويريك أنظار الجمع مشدودة إلى هدف واحد... وهي دقة عجيبة في بيان طبيعة الجمع الذي حشد لمثل هذا الغرض بأوجز لفظ ممكن في وضوح لا يبلغ شأوه أبرع الفانين في صفحات و صفحات...
 
وكلنا يعرف قصة موسى مع الخضر عليهما السلام، ويعرف شأن القرية التي أبت أن تضيفهما: [فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ]{الكهف:77} . لولا كلمة: [يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ] {الكهف:77} . لولا إسناد الإرادة إلى الجدار، وما عراه من البلى حتى تفتتت لبناته، ونخر السوس خشبه، فلم يبق منه إلا معالم لا يمسك بعضها بعضاً إلى آخر ما لدى محترفي البرقشة وتزيين الألفاظ باسم الأدب والبيان ... وما كان شيء من ذلك يبلغ من وجدانك بعض ما تبلغه كلمة [يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ]فالجدار قد طال به العمر، و انتابته العلل، وحنته السنون فهو [يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ].
 
 إن إسناد الإرادة للجدار، إعجاز في التعبير، وشأو في التصوير، يبعث الحياة في الجماد، ويرد صداها في الحس الآدمي، فإذا هو يشعر بما يشعر به الجدار، وهيهات أن يبلغ قصَّاص أو أديب بعض هذا الشأو بكلمة واحدة منه،، أو بما شاء من كلمات....
 
وإننا لنعرف قصة أصحاب الجنة ـ أي الحديقة ـ في سورة (ن)  [إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ] {القلم:18} . وتواطئوا أن يكتموا عزمهم على جني ثمارها، حتى لا يشعر بهم مسكين، فيدخلها سائلاً شيئاً من فضل الله، ولقد كانوا في تدبيرهم هذا، والله من ورائهم محيط، فإذا بهم يفاجئون بحديقتهم قد أحيط بثمرها، فأصبحت كالصريم.
 
وشاهدنا في القصة ذلك التصوير الفني الرائع الذي يصور لك القوم في طريقهم إلى ما عزموا عليه: [فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ(21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ(22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ(23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا اليَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ(24) ]. {القلم}. . فإنك تشعر أن كلمة (يتخافتون) قد أرتك القوم وقد لفهم غبش الصبح كأنما يمشون في حذر على أطراف أقدامهم، وقد أخذ يوصي بعضهم بعضاً في همس خافت، حذر أن يفطن إليهم من لا يريدون، كلمة واحدة في مقطعها بعثت الحياة، ورسمت الأشباح، وأبانت عن مكنون السرائر، وأرتنا حركات الحذر في خفة الخطو، والأصابع على الأفواه تحبس  الهمس، وتطلب المخافتة ...  وليس من التعصب للقرآن إذا قلنا: إن ابرع القصَّاصين لينقطع عجزاً عن مستوى هذه الصورة الدقيقة الرائعة التي رسمتها كلمة واحدة ولو حشد لها ما حشد من صور الشعر والخيال...
الحلقة السابقة هـــنا
 
*     *     *


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين