مختارات من تفسير (من روائع البيان في سور القرآن) (الحلقة 222)

﴿ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لَا يُتۡبِعُونَ مَآ أَنفَقُواْ مَنّٗا وَلَآ أَذٗى لَّهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ٢٦٢ [البقرة: 262]

السؤال الأول:

ما الفرق من الناحية البيانية في ذكر الفاء ﴿ فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ   [البقرة:274] في آية البقرة 274 وحذفها ﴿لَّهُمۡ أَجۡرُهُمۡ في آية البقرة 262؟ وما الفرق بين الفاء والواو العاطفتين في بعض آيات القرآن مثل هاتين الآيتين ؟

الجواب:

(الفاء) كما هو معلوم تأتي للتعقيب، ومعنى التعقيب أي: يأتي بعدها مباشرة، في عقب الشيء، أمّا (الواو) فهي لمطلق الجمع ولا يدل على ترتيب أو تعقيب، وتأتي الفاء للسبب، أي: سببية: درس فنجح، والواو ليس فيها سبب.

الآيتان بدأتا بالاسم الموصول (الذين) وكلاهما في سياق الإنفاق .

لماذا جاء بالفاء في الثانية دون الأولى؟

آـ الفاء واقعة في جواب الاسم الموصول، وهنا الاسم الموصول مشبّه بالشرط، والاسم الموصول أحياناً يشبّه بالشرط بضوابط، فتقترن الفاء في جوابه كما تقترن بجواب الشرط، وكل واحدة لها معنى.

 مثال: الذي يدخل الدار له مكافأة، والذي يدخل الدار فله مكافأة.

الأولى فيها احتمالان إمّا أن له مكافأة بسبب دخوله الدار، كأنّ الدار مقفلة وهو يفتحها، أي: أنّ المكافأة مترتبة على دخول الدار، وإمّا أن يكون للشخص الذي يدخل الدار مكافأة بسبب آخر، إذن هناك احتمالان عندما لا تذكر الفاء.

وإذا ذكرت الفاء فلا بدّ أنّ المكافأة مترتبة على الدخول قطعاً وليس لأي سبب آخر، وهذا تشبيه بالشرط؛ أي أنّ المكافأة شرط الدخول في الدار.

ب ـ أيضاً هناك ملاحظة، وهي أنه في تشبيه الموصول بالشرط أحياناً يكون الغرض من ذكر الفاء هو التوكيد، أي أن ما يُذكر فيه الفاء آكد مما لم يذكر، كقوله تعالى في آية البقرة 262 ﴿ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لَا يُتۡبِعُونَ مَآ أَنفَقُواْ مَنّٗا وَلَآ أَذٗى لَّهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ٢٦٢ [البقرة:262] بدون فاء، والثانية في آية البقرة 274 ﴿ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُم بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ٢٧٤ [البقرة:274] .

نلاحظ أنّ الله تعالى زاد فيها ﴿ بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ  [البقرة:274] ونسأل: أيهما آكد؟

بالطبع التي فيها الفاء؛ لأنّه في الآية الأولى قال فقط: ﴿ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ [البقرة:262] أمّا في الثانية فقال: ﴿ بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ [البقرة:274] فحدد أكثر، لذا جاء بالفاء في مقام التوكيد والتفصيل.

أمّا الآية الأولى فذكر فيها الإنفاق في سبيل الله ولم يفصّل، فاقتضى الحذف.

السؤال الثاني:

ما دلالة (ثم) في الآية ﴿ ثُمَّ لَا يُتۡبِعُونَ [البقرة:262] ؟

الجواب:

لم يقل الحق: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ولا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى)، وإنما جاء بـ (ثم) هنا فقال: ﴿ ثُمَّ لَا يُتۡبِعُونَ ، وذلك أنّ المنفق بالمال قد لا يمن ساعة العطاء، ولكنْ قد يتأخر المنفق بالمن، فكأنّ الله سبحانه ينبِّه كل مؤمن إلى أنه يجب أنْ يظل الإنفاق غير مصحوب بالمن فلا يمتنع وقت العطاء فقط، ولكنْ لا بدّ أنْ يستمر عدم المن حتى بعد العطاء وإنْ طال الزمن.

  و(ثم) تفيد التراخي، والمن عبء نفسي كبير، وكلمة (أجرهم) هي طمأنة إلى أنّ الأمر قد أُحيل إلى موثوقٍ بأدائه وإلى قادرٍ على هذا الأداء، قالت الزهراء بنت رسول الله وقد كانت تجلو الدرهم وتطيبه قبل أنْ تتصدق به: (إني لأعلم أنه يقع في يد الله قبل أنْ يقع في يد الفقير).

السؤال الثالث:

ما دلالة قوله تعالى في الآية ﴿ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ ؟

الجواب:

 قول الحق: ﴿ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ [البقرة:274] ولم يقل: (ولا خوف منهم) لأنّ الحق يريد أنْ يوضح لنا أنّ هناك عنصراً ثالثاً سيتدخل بصورة المحب فيقول: ادخر للأيام القادمة، ادخر لأولادك.

والله ينبهنا أنّ المنفق في سبيل الله يجد الحماية والعطاء من الله فلا خوف على المنفق ولا يحزن.

وآفة الناس أنهم يقيسون الرزق بما يدخل له من مال ولا يقيسون الأمر برزق السلب، ورزق السلب هو محط البركة، وذلك بإبعاد أهله وأولاده من الأمراض والمصائب، فيوفر في ذلك مالاً كثيراً فتظهر البركة على كسبه.

أمّا غير المنفق خوفاً من مصاريف الأولاد والمستقبل فيسلبه الله الرزق بالبلاء والأمراض والمصائب.

لذلك أيها المؤمن إنْ لم تسع الناس بمالك فسعهم بحسن الرَّدِّ، قال : «اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة»[صحيح البخاري 6540 ـ صحيح مسلم 1016] ؛ ولذلك يقول الحق في الآية التي تليها: ﴿ ۞قَوۡلٞ مَّعۡرُوفٞ وَمَغۡفِرَةٌ خَيۡرٞ مِّن صَدَقَةٖ يَتۡبَعُهَآ أَذٗىۗ وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٞ٢٦٣ [البقرة:263] .

السؤال الرابع:

ما أهم الأسس التي أراد الله أنْ يوضحها في آيات الإنفاق في سورة البقرة؟

الجواب:

من دراسة آيات الإنفاق في سورة البقرة نجد أنّ الله سبحانه وتعالى يريد أنْ يوضح لنا أسس الإنفاق ومعالجة آفاته:

آ ـ أنّ النفقة لا تنقص المال وإنما قد تزيده سبعمائة مرة.

ب ـ أنّ النفقة لا يصح أنْ يبطلها الإنسان بالمن والأذى.

ج ـ أنّ القول المعروف خير من الصدقة المتبوعة بالمن والأذى.

د ـ أنّ الإنفاق يجب ألا يكون رئاء الناس، وإنما يكون ابتغاءً لمرضاة الله.

هـ ـ حاجتنا إلى الصدقة أشد من حاجة الفقير لها، فتحتها سنستظل يوم القيامة، وهي وسيلة إطفاء ذنوبنا، والطريق لرضا ربنا سبحانه؛ فاحذر من إتباعها بمنٍّ أو أذى . والله أعلم .

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين