لمحات من الهَدْي النبوي في الوقاية والصيانة (2)

التطبيقات النبوية في الوقاية والصيانة

تعد التطبيقات النبوية في الوقاية والصيانة واحدةً من أهم القضايا التي حَظيت بعناية النبي صلى الله عليه وآله وسلم طِوال عصر الرسالة، ويمكن للمتأمل فيها أن يقف على منهاج النبوة في توقع المَضار الفكرية والعَقَدِيَّة والسلوكية التي قد تقع للأمة، أو لآحادها، مع وصف علاجاتها.

وقد يمكن إحصاء بعض هذه التطبيقات، وبيان طرق الانتفاع بها، وخصوصاً في عصرنا هذا، على النحو التالي:

1) راعى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تَدَرُّج الأحكام بما يناسب استقرار التوحيد في القلوب، فجاء قوله صلى الله عليه وآله وسلم " ألا وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تُزَهِّد في الدنيا وتُرَغِّب في الآخرة " (1)

وفيه ذِكر لِعِلَّة جواز زيارة القبور بغرض الزهد في الدنيا وتَذَكُّر الآخرة، وفيه سكوت عن عِلَّة المنع من زيارة القبور في أول الإسلام لصيانة جانب التوحيد وقطع التعلُّق بالأموات، وسد ذرائع الشرك التي أصلها تعظيم القبور والمباهاة بمآثر الموتى؛ فلما تمكَّن التوحيد من القلوب، واضمحل الشرك، واستقر الدين أَذِن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في زيارة القبور ليحصل بها مزيد إيمان وتذكير بدار البقاء، وهكذا كان نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن زيارة القبور للمصلحة، كما كان إذنه صلى الله عليه وآله وسلم في زيارة القبور للمصلحة (2)

ولذلك لما سأل رجل أحمد بن حنبل 241هـ قائلاً " كيف يَرِقُّ قلبي؟ " أجابه أحمد " ادخل المقبرة وامسح رأس اليتيم " (3)

2) نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الخَلْط بين عالمي الغيب والشهادة؛ لأن ذلك يُفقد الإيمان بالغيب أثره في مقابل عالم الشهادة، فلما سمع صلى الله عليه وآله وسلم قوماً يَتَدارَؤون (يتنازعون) القرآن أنكر عليهم قائلاً " إنما هلك مَنْ كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يُصَدِّق بعضه بعضاً، فلا تُكَذِّبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكِلُوه إلى عالمه " (4)

ولما سمع صلى الله عليه وآله وسلم أصوات رجلين اختلفا في آية، خرج يُعرف في وجهه الغضب، وقال" إنما هلك مَنْ كان قبلكم باختلافهم في الكتاب" (5)

وقال صلى الله عليه وآله وسلم " إن هذا القرآن أُنْزِل على سبعة أحرف، فأي ذلك قرأتم فقد أحسنتم، ولا تماروا فيه فإن المِراء فيه كُفْر" (6)

وعَلَّمهم صلى الله عليه وآله وسلم كيف يتناولون القرآن، فقال" اقرؤوا القرآن ما ائتَلَفَت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فيه فقوموا " (7)

فدل ذلك على أن فهم القرآن الكريم مرهونٌ بتحقُّق شروطه، وهي: الوعي بالوحي لفهم الواجب الشرعي، والوعي بالعصر لفهم الواقع، والوعي بطرق تطبيق الواجب في الواقع.

3) حَسَم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسألة التشاؤم، وما قد يترتب عليها من ضعف السعي، فحين قال رجل "يا رسول الله مِنّا رجالٌ يَتَطيَّرون " أجابه صلى الله عليه وآله وسلم " ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يَصُدَنَّهم" (8) فأشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى عدم الالتفات إلى تلك الرواسب، وإنْ بَدَت لها في بعض النفوس دواعٍ وآثار.

4) أنكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم تَخَلُّف الشروط الموضوعية لمفهوم القَدَر في العقل المسلم، مما قد يضر بقيمة الاختيار واثاره، ويضعف عافية المرجعية بين دلالات الحق والواجب والدور والجزاء والدنيا والآخرة.

فأثمرت تلك الوقاية صحةً في وَعْيَ عقل المسلم بمفهوم تناول الأسباب، وإحسان الجمع بين الحرية والمسؤولية، والمغالبة بين القدر والقدر، والفرار من القدر إلى القدر.

لذلك شَدَّد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على تَجَنُّب الخوض في القَدَر؛ لأنه سِرٌ من أسرار الله زَلَّت فيه أقدام، فكان الأوْلَى بنا الأخذ بالأسباب معه، وتَلَقِّيه على جَناب التسليم، وإطراح الاقتراح على العالم به سبحانه.

فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج علينا ونحن نتنازع في القَدَر، فغضب صلى الله عليه وآله وسلم حتى احْمَرَّ وجهه، حتى كأنما فُقِىء في وَجْنَتَيْه الرُمَّـان، فقال " أبهذا أُمِرْتُم أم بهذا أُرسلت إليكم؟ إنما هلك مَنْ كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، إني عزمت عليكم، عزمت عليكم، عزمت عليكم ألا تتنازعوا فيه " (9)

5) صحح النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما قد بدا على بعض الصحابة من غَبَش في التصور بين التوكل والتواكل، فلما قال رجل " يا رسول الله أُرسل ناقتي وأتوكَّل؟ " قال صلى الله عليه وآله وسلم " اعْقِلْها وتَوَكَّل " (10)

وضرب صلى الله عليه وآله وسلم لذلك مثلاً، فقال " لو تَوَكَّلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تَغْدو خِماصاً، وتَروح بِطاناً " (11) فنَبَّه على أن الطير لم تلزم أغصانها تنتظر رزقها، وإنما لما غَدَت رُزِقَت.

وسُئل صلى الله عليه وآله وسلم " فهل علينا جُناحٌ أن نتداوَى؟ " (12) فقال: " تداوَوْا فإن الله لم يُنْزِل داءً إلا وقد أنزل له شفاء إلا السام والهَرَم " (13)

ورسم صلى الله عليه وآله وسلم أسباب التداوي في اجتماع: العلم والإصابة والتوكل، فكان مما قال " إن الله لم يُنزل داءً إلا أنزل معه دواء جَهِله مَنْ جَهِله وعَلِمه مَنْ عَلِمه" (13) وقال صلى الله عليه وآله وسلم " إن لكل داءٍ دواء، فإذا أُصيب دواء الداء برأ بإذن الله " (14)

فكان صلى الله عليه وآله وسلم أفضل المتوكلين؛ يأخذ بالأسباب، ويَتداوَى، ويلبس لباس الحرب، ويمشي في الأسواق، ويتعامل مع الناس (15) ليعلمنا أن التوحيد إنما يتم بمباشرة الأسباب التي نَصَبَها الله، وأن تعطيل الأسباب حمقٌ يَقْدَح في معنى التوكل، وأن ترك الأسباب عجز ينافي التوكل، وأن الأسباب مجرد أمارات على حصول النتائج وليست صانعةً لها، وأن حقيقة التوكل هي الأخذ بالأسباب، واعتماد القلب على الله في حصول النفع ودفع الضر، وترك نتائج الأمور بعد ذلك لله، وإلا صار العبد معطِّلاً للشرع، ومحروماً من الحكمة، فلا يجعل العبد من عجزه توكلاً، ولا من توكله عجزاً (16)

وهكذا بان أن التوكل علم وعمل؛ وأن العلم أصله، والعمل ثمرته، وأن الإيمان أُس التوكل، وأن التوكل جِماع الإيمان.

يتبع...

الحلقة السابقة هـــنا

 

(1) صحيح ابن حِبّان 981

(2) حاشية ابن القَيِّم 9/44وبعدها، تفسير الشنقيطي 9/78وبعدها

(3) الفروع ابن مفلح 2/233

(4) المسند أحمد 6741، وحَسَّنه الألباني في (مِشْكاة المصابيح 237)

(5) صحيح مسلم 2666

(6) المسند أحمد بن حنبل 17855، السلسلة الصحيحة الألباني 1522

(7) صحيح مسلم 2667

(8) صحيح مسلم 537

(9) سنن الترمذي 2133 وقال: هذا حديث غريب، وحَسَّنه الألباني في (مِشْكاة المصابيح 98و99)

(10) صحيح ابن حِبّان 731 (3) صحيح ابن حِبّان 730

(11) صحيح ابن حِبّان 6061

(12) صحيح ابن حِبّان 6064

(13) صحيح ابن حِبّان 6062

(14) صحيح ابن حِبّان 6063

(15) شرح العقيدة الطحاوية 301

(16) زاد المعاد ابن القَيِّم 3/67

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين