لمحات من الهَدْي النبوي في الوقاية والصيانة (1)

1) توطئة

توفَّر لعصر الرسالة خَصيصة حضارية لم تُتَح لغيره من عصور الإسلام، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم يسمع ويرى، وبرغم أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يترك خيراً إلا دلَّ عليه، ولا شراً إلا نهى عنه، ولا فتنة إلا حذَّر منها فقد بقيت مباشرته عصره مَيْزَة ارتفعت بالصحابة إلى رُتَب من الفعالية المبهرة بما تحمله تلك المباشرة من مددٍ يومي، وتطبيق عملي، ومعايشة متجددة، وتَمَثُّل حي لأكمل صور التقوى، فكان صلى الله عليه وآله وسلم قرآناً يمشي بين الناس، وكان حبهم له واتِّباعهم إياه شيئاً يفوق حدود الوصف (1) وليس أدل على ذلك الحضور النبوي الفاعل من أن أبا بكر الصديق بكى لوفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً:

فلَـتَحْدُثــَنَّ حوادثٌ من بعده=تُعْـنَى بهـن جوانـَِحٌ وصدور (2)

وانتحبت صفية بنت عبد المطلب قائلة:

لعَمْرُكَ ما أبكي النبي لفقده=ولكنْ ما أخشى من الهَرْج آتيا(3)

وانْتَحَى أبو سفيان بن الحارث حزناً، وهو يقول:

أرِقْتُ فبـات ليـلي لا يـزول=وليـلُ أخ المصيبة فيـه طــول

فقد عظُمت مصيبتنا وجَلَّت =عشية قيل قد قُبِض الرسول

فقدنـا الوحـي والتنـزيــل فينـا= يـَروح بـه ويَغْـدو جبرئيل (4)

وبكت أم أيمن، فأراد أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب أن يعزياها، فقالا " ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم " فقالت " ولكني أبكي أنَّ الوحي قد انقطع من السماء " فهَيَّجَتْهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها (5)

واتصل الصحابة بتلك الرُّتَب العالية من المعايشة النبوية، فثبت أن أبا هريرة قال " يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا إِذَا كُنَّا عِنْدَكَ، رَقَّتْ قُلُوبَنَا، وَكُنَّا مِنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ، وَإِذَا فَارَقْنَاكَ أَعْجَبَتْنَا الدُّنْيَا، وَشَمَمْنَا النِّسَاءَ

واتصل الصحابة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم من كل وجه، وطال ذلك شُعَيْرات من رأسه صلى الله عليه وآله وسلم، فلما سقطت قُلَنْسُوَة خالد بن الوليد يوم اليرموك 13هـ، جعل يَسْتَحِثُّ في طلبها، فعُوتِب في ذلك، فقال " إنَّ فيها شيئاً من شعر ناصِيَة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنها ما كانت معي في موقف إلَّا نُصِرْت " (6)

وقال أبو سعيد الخُدْري " لما قَدِم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه، أظلم منها كل شيء " (7) وما نَفَضْنا أيدينا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا " (8)

وقال أنس بن مالك " لما كان اليوم الذي دخل فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها

كل شيء، وما نفضنا عنه صلى الله عليه وآله وسلم الأيدي، وإنَّا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا " (9)

وقال أُبَي بن كعب " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما وجهنا واحد، فلما قُبِض نظرنا هكذا وهكذا " (10)

وقالت أم سَلَمَة " كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام المصلي يصلي لم يَعْدُ بصره موضع قدميه ـ يعني من الخشوع ـ فتُوُفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان أبو بكر، فكان الناس إذا قام احدهم يصلي لم يَعْدُ بصره موضع جبينه، فتُوُفِّيَ أبو بكر وكان عمر، فكان الناس إذا قام احدهم يصلي لم يَعْدُ بصره موضع القبلة، وكان عثمان وكانت الفتنة، فتَلَفَّت الناس يميناً وشمالاً " (11)

يقول ابن حجر العسقلاني 851هـ " مُرادهم هنـا أنهم وجدوا

قلوبهم قد تَغَيَّرت عما عَهِدوه في حياته صلى الله عليه وآله وسلم من الأُلفة والصفاء والرقة؛ لفقدان ما كان يُمِدَّهم صلى الله عليه وآله وسلم به من التعليم والتأديب " (12)

لقد حوت تلك الرعاية النبوية جوانب الوقاية والصيانة الروحية والفكرية والسلوكية لمشكلات عصر الوحي، وللحياة من بعده صلى الله عليه وآله وسلم.

فعلَّمهم صلى الله عليه وآله وسلم استصحاب قيم الوحي وموازينه في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم، وعلمهم تنزيل معارف الوحي ومناهجه على الحادثات والمستجدات لسياستها وتصويبها.

وحذَّرهم صلى الله عليه وآله وسلم من مخاطر العِلَل العَقَدِيَّة والقولية والعملية المكنونة في قول الله تعالى عن بني إسرائيل: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾ [المائدة: 13]

وتَجَلَّت تلك التطبيقات النبوية للوقاية والصيانة في جُمَل شتى من جوانب الإعداد الرِّسالي الذي طال أمهات مشكلات الحياة حتى تقوم الساعة.

يتبع...

 

(1) البداية والنهاية ابن كثير 4/167 (2) التذكرة القرطبي 630،

الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة القَنُوجي 67-69

(2) التذكرة القرطبي 630،

الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة القَنُوجي 67-69

(3) البداية و النهاية ابن كثير 7/103 (3) صحيح مسلم 2454

وَالْأَوْلَادَ " فقال صلى الله عليه وآله وسلم " لَوْ تَكُونُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَلَى الْحَالِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ بِأَكُفِّكُمْ " (1)

(4) صحيح ابن حِبَّان 7387

(5) البداية والنهاية ابن كثير 7/4 وبعدها و113

(6) البداية والنهاية ابن كثير 5/274

(7) فتح الباري ابن حجر 8/149 وقال " أخرجه البَزَّار بسند جيد "

(8) صحيح ابن حِبّان 6634

(9) سنن ابن ماجة 1633، البداية والنهاية ابن كثير 5/274، وصححه الألباني في (صحيح وضعيف سنن ابن ماجة 1633)

(10) سنن ابن ماجة 1634، البداية والنهاية ابن كثير 5/274، وصححه الألباني في (صحيح وضعيف سنن ابن ماجة 1634)

(11) فتح الباري ابن حجر 8/149

(12) وانظر: آل عمران 19و105، النساء 46، الروم 32

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين