مختصر تفسير ابن عاشور (8)

سورة الفاتحة

ولها نيف وعشرون اسما لم يصح منها إلا فاتحة الكتاب من الفتح وهو إزالة حاجز للدخول، والأصل فاتح تشبيها بفاتح الباب لأنه أول من يدخل فسميت الحمد به لأنـها جعلت أول القران، ثم زيدت هاء التأنيث للنقل من الوصف إلى الاسم كالحاقة.

وصح تسميتها بأم القران وأم الكتاب، وأم الشيء أصله سميت الفاتحة به لأنـها تجمع أصول مقاصد القران ومعانيه من التوحيد والتشريع والمعاد والنبوات والأخلاق، فهي كالديباجة للكتاب لما فيها من براعة استهلال بذكر أصول معانيه من تنزيه الرب وتوحيده والأمر والنهي والوعد والوعيد والبعث والجزاء والملل والمواعظ والقصص.

وصح تسميتها بالسبع المثاني لأنـها سبع آيات بالاتفاق خلافا للحسن في ثمان ولحسين الجُعفي وعمرو بن عبيد في ست، ولبعضهم أنـها تسع، وسببه الخلاف في عد البسملة منها وعد (أنعمت عليهم) آية مستقلة، وعن عمر أنـها سميت بالمثاني لأنـها تثنى أي تكرر في كل ركعة، وقيل لأنـها تثنى في الصلاة، وقيل لأنـها ثنيت في النزول فنزلت بمكة وبالمدينة وفيه نظر لأنـها مكية عند الجمهور، وقيل إنـها أول ما نزل وفيه نظر فقد عدها جابر بن زيد خامس ما نزل وقبلها القلم والمدثر ونون والمزمل، وقيل إنـها أول سورة نزلت كاملة.

(الحمد لله) بدأ بالحمد على عادة العرب في افتتاح خطبهم به ولذا سميت خطبة زياد في البصرة بالبتراء لكونه لم يفتتحها بالحمد، ولأنه باب الرجاء ولمناسبة الافتتاح بأعظم نعمة ومنة وهي القران، ولأنه أدعى للإجابة إذ الكريم إذا أثنيت عليه أجاب سؤلك دون أن يحرجك بذكر المطلوب، ولهذا قال أمية بن أبي الصلت يذكر حاجة له عند ابن جدعان:

أأذكر حاجتي أم قد كفاني...حياؤك إن شيمتك الحياءُ

إذا أثنى عليك المرءُ يوما........كفاه من تعرّضه الثناءُ

والحمد: الثناء على الوصف الجميل الاختياري فعلا كالكرم أو غيره كالشجاعة، والثناء أعم من الحمد ولا يكون ضده خلافا لابن القطاع ولا حجة له في حديث (من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار) لأنه مجاز دعت إليه المشاكلة اللفظية.

وعند الجمهور أن المدح أعم من الحمد لأنه يكون على الوصف الاختياري وغيره خلافا للزمخشري في أنـهما أخوان أي: مترادفان، ولا يلزم منه امتناع حمد الله على صفاته لأنـها ذاتية لا اختيارية، لأن كونـها غير اختيارية ناشئ من وجوبـها وملازمتها لذاته لقدمها فعدم الاختيار فيها صفة كمال لله بخلاف المخلوق فعدم الاختيار فيه صفة نقص كنفي الولد.

و(الحمدُ لله) مبتدأ وخبر في محل نصب على المفعولية المطلقة والتقدير حمداً لله مثل سقياً لك قاله سيبويه، وتقديم المسند إليه أبلغ في الدلالة على الحمد واستحقاق المحمود له، وإنما عدل عن النصب إلى الرفع للدلالة على دوام الحمد وثبوته قاله الزمخشري، وتعريفه بــ(ال) لاستغراق جميع المحامد ولهذا ترك نصبه مع التعريف كما هو لغة تميم لأن التعريف مع النصب لا يفيد الاستغراق، لأنه إن قدر بـ(أحمد الله) اختص بالمتكلم دون غيره، وإن قدر بـ(نحمد الله) لم يتناول غير المؤمنين، وقد حمده المشركون كما قال أمية:

الحمد لله حمداً لا انقطاع له....فليس إحسانُهُ عنا بمقطوعِ

ولذا قال سيبويه: (من رفع الحمد أخبر أن الحمد منه ومن جميع الخلق، ومن نصبه أخبر أن الحمد منه وحده) واللام الداخلة على اسم الجلالة لإفادة اختصاص الحمد بالله وتقوية تعلقه به.

واختلف في جملة الحمد هل هي للخبر أو الإنشاء؟ فقيل خبر محض وتعقب بأنه يلزم أن لا يكون المتكلم حامداً، وأجيب بأن الحمد حاصل من جهة دخول المخاطب في خطاب نفسه عند جمهور الأصوليين، وقيل إنشاء محض لكن العرب نقلته إلى الإخبار كصيغ العقود والمدح والذم والرجاء، وقيل خبر أريد به الإنشاء كقول الحارثي:

هواي مع الركب اليمانيين مصعد...جنيب وجثماني بمكة موثقُ

وإنما عدل إلى الخبر للدلالة على الدوام والاختصاص والاستغراق، ورجحه المصنف ومنه قول ذي الرمة:

ولما جرت في الجزل جريا كأنه....سنا الفجر أحدثنا لخالقها شكرا

فهذا إخبار بالشكر أريد به الإنشاء.

والله علم على الذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد، أصله الإله اسم جنس بدليل دخول سبحان ومعاذ عليه والعرب لا تستعملهما مضافين لغير اسم الجلالة كما قال البعيث:

معاذ الإله أن تكون كظبية....ولا دمية ولا عقيلة ربربِ

واشتقاقه من أَلَه بمعنى عبد، أو أَلِه بمعنى تحير، وقيل من ولاه ثم قلبت الواو همزة مثل وشاح وإشاح، وقيل معرب من لاها بالسُريانية علم على الله تعالى، وعند الزجاج ونسب للخليل وسيبويه أنه علم وضع لاسم الجلالة من غير أخذ من أله، ومعانيه راجعة إلى التعظيم والخضوع، وفي (اللباب) لابن عادل أن سيبويه رحمه الله رُئيَ في المنام بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي. قيل: بـماذا؟ قال: بقولي عن اسم الجلالة: أعرفُ الـمعارف.

ولهذا لا تطلقه العرب على غير الإله الحق إلا مضافا فتقول آلهة بني فلان، لأنه علم عليه بالانحصار لا بالغلبة والشيوع، لأنـهم خصوه بالإله الحق قبل وجود الشرك فيهم، فلذا اشتقوا له من اسم الجنس علما للدلالة على اختصاصه بالعبودية فجرى مجرى الأعلام الشخصية، ثم حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال مثل الأناس والناس، أو حذفت مبالغة في اختصاص العلم به لأن العرب تتصرف في الاسم بالحذف والشكل إذا جعلته علما خاصا بالشخص مثل سَلمى وسُلمى، ولهذا ينادونه معرفا فيقولون يا الله مع أنـهم يمنعون تعريف المنادى، وأجمعوا على تفخيم لامه للتعظيم قاله ابن تيمية، ومن عجب ما حكاه التلمساني عن بعضهم أن اسم الجلالة لا يتكلم في معناه إجلالاً له.!

الحلقة السابقة هــــنا

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين