لمحات حول الإعلام في الإسلام (3)

الإعلام، بأبسط تعاريفه، كما نفهمه هو: إبلاغ. وتثقيف وتوجيه، وتوعية

فالإبلاغ إخبار بشيء.

والتثقيف إحاطة بشيء.

والتوجيه دعوة إلى شيء.

والتوعية تنوير بشيء.

وأستطيع أن ألخص، أو أُعرِّف، الإعلام الإسلامي بهذه النقاط الأربع التي قام عليها هذا الإعلام منذ نزول الرسالة الإلهية على محمد صلوات الله وسلامه عليه، وإلى يومنا هذا.

ولم يكن صدفة أن تكون أول كلمة من كتاب الله أنزلها على نبيه هي كلمة: (اقرأ). فحاشا لشيء من صنع الله أن يكون صدفة، بل لقد كانت هذه الكلمة، والمنهاج الذي تنبئ به في حروف أربعة ليس غير، هي الحدث الكبير الذي هزَّ أركان المجتمع العربي أولاً، ثم تعداها إلى بقية أرجاء العالم. وما زالت آثارُه وتأثيراته تتفاعل إلى اليوم. وستظل كذلك إلى أن شاء الله.

﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ٢ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ٣ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ٤ عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ٥﴾[العلق:1-5]

بهذه الكلمات الإلهية المباركة، التي أنزلت على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة القدر من شهر رمضان، فتحت في تاريخ البشرية صفحة جديدة. آذنت العالم بما وقع فيه، بعد ذلك، من أحداث جِسَام.

وما أريد هنا أن أسرد عليكم السيرة النبوية العطرة ولا أن أعرض لكم تعاليم الإسلام، فكلكم - ولله الحمد - عارف بذلك، عليم بتفاصيله، آخذ بآفاقه، مما يجعلني أسجل على الهامش، على الهامش ليس غير، تطبيقات عملية، للممارسة الإعلامية بمعناها العصري، تلك التي بدأت مع نزول الدعوة.

كان نزول الوحي، بوساطة جبريل عليه السلام، هو الخطوة الأولى في الطريق الذي استمرَّ نيفاً عن ألف وأربعمائة عام وما يزال، فكانت الإرادة الإلهية بنزول الرسالة.

وكان جبريل عليه السلام هو الواسطة. فكان هذا هو الإعلام بشيء، التبليغ بشيء. ويا له من (شيء) أراد الله تعالى به لعباده الهداية والتوفيق في الدنيا والآخرة.

وتتالت آيات الله سبحانه، تروي أخبار الأولين، وتستخلص منها العبرة والعظة، وتُلقي بالتعاليم الإلهيَّة فيما خصَّ الدين والدنيا، وتشرح الأوامر والنواهي، وتُبيِّن الحلال من الحرام، والهدى من الضلال، والخير من الشر.

كان ذلك إبلاغاً.

كان تثقيفاً.

كان دعوة.

 كان تنويراً.

كان ذلك بكلمة واحدة - إعلاماً على مستوى أكثر من عظيم، وأكثر من رفيع. إنه مستوى الإرادة الإلهية، وكفى به - كذلك- تعريفاً. وكان مما تنفرد به هذه الرسالة، أنها ألقت مسؤولية الدعوة إليها على عواتق المؤمنين بها.

أي أنها كلَّفت المسلمين، منذ ذلك الحين وإلى اليوم، وحتى يشاء الله، بأن يكونوا في خدمة دين الحق، وأن يكونوا - بدور هم- مبلِّغين ومثَقِّفين، ودعاة، ومرشدين.

وهذه نقطة بالغة الأهمية، لأنها أرست بصورة تلقائية عبر الأزمان قواعد لتطور أساليب الدعوة، والدعوة إعلام.

وكشأنه في الإحاطة بالأمور، وتفصيلها على أشكال شتى، تضمَّن القرآن الكريم الخطوط العريضة للدعوة الإسلامية أو الإعلام الإسلامي حيث يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ [الأحزاب: 46]، ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ﴾ [الأحقاف: 31]، ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ [التوبة: 3]، ﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [إبراهيم: 52]، ﴿وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ﴾ [الأنعام: 91]، ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل: 125]، ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33]، ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159].

 وكما نعلم، فقد كانت أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها، زوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هي أول من بلغته هذه الدعوة، وأول من آمن بها وكلكم تعرفون، بطبيعة الحال، كيف قلقت زوج رسول الله إذ تأخر في العودة ليلة أن نزل عليه القرآن، فما أن رأته حتى قالت: يا أبا القاسم. أين كنت؟. فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إليَّ فحدثها رسول الله ما كان معه، فقالت: «أبشر يا ابن العم واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده أني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة».

أبشر يا ابن العم واثبت. هنا نتوقف قليلاً عند هذه الجملة، تلقيها الزوج الصالحة على زوجها المختار. أبشر يا ابن عم واثبت.

إن الثبات عنصر هام من عناصر الدعوة، والثبات لا يكون إلا بالإيمان؛ والإيمان لا يكون إلا بالإسلام.

أتراه، إلهاماً إلهيَّاً أُلقي في نفس خديجة رضي الله عنها، فاستشفّت مدى حاجة الدعوة إلى ثبات المؤمنين بها، وتوقعت ما سوف يَلْقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأذى في سبيل الدعوة؟!.

ما كان لأم المؤمنين رضي الله عنها، أن تقول «اثبت» إلا وهي تتوقع ما سوف تُحدثه النبوَّة من آثار في المجتمع القرشي.

نتوقف، إذن هنيهة لنضيف إلى عناصر الإعلام الإسلامي عنصر آخر هو الثبات والصمود ومواجهة الصعوبات والعقبات.

ونستطرد فنستعرض كيف راح رسول الله يدعو۔ ثابتاً إلى دين الله، فيُسلم من الصبيان أولهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو ابن عشر سنين، ويُسلم من الموالي زيد بن حارثة رضي الله عنه، مولى رسول الله، ويسلم من الرجال أبو بكر بن أبي قحافة، المعروف بأبي بكر الصديق، رضي الله عنه، ثم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، ويتتالى المستجيبون للدعوة ولكنهم يظلون قلة، تستخفي في عبادتها وصلاتها إلى أن فشا ذكر الدين الجديد في مكة وتحدث فيه الناس، ثم أمر الله تعالى رسوله الأمين بأن يجهر بالدعوة فقال: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الحجر: 94]، وقال أيضا: ﴿وَأَنذِرۡ عَشِيرَتَكَ ٱلۡأَقۡرَبِينَ٢١٤ وَٱخۡفِضۡ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ٢١٥﴾[الشعراء:214-215].

وكان ذلك على ما ذكر ابن اسحاق، بعد ثلاث سنين من بدء نزول الدعوة أو أن الإعلام الإسلامي، تبليغاً وتثقيفاً وتوجيهاً وتوعية، قد خرج - بأمر الله تعالى - من السر إلى الجهر، ومن التخفي إلى العلانية.

وهنا أستميحكم عذرا في التوقف لحظة عند هذه المرحلة من تاريخ الإعلام الإسلامي لنلقي نظرة خاطفة على الأسلوب الذي اتبعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

كانت المشافهة، في نجوة من العيون، هي وسيلة التبليغ الوحيدة تقريباً. كان المسلم يأتي من يتوسَّم فيه خيراً من غير المسلمين، فيخاطبه في الأمر، ويعرض له أن الصادق الأمين، عليه صلوات الله وسلامه، قد أتى البشرَ من عند ربِّه بخير الدنيا وخير الآخرة معاً.

ويصف رسول الله ردود الفعل لدى من دعاهم بنفسه إلى الإسلام فيقول: (ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة، ونظر وتردُّد، إلا ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة، ما عكم عنه حين ذكرته له وما تردد فيه).

ومما لا شك فيه، أن ثقة أبي بكر رضي الله عنه المطلقة في رسول الله، كانت هي السبب في سرعة استجابته، على نحو ما ذَكَره صلى الله عليه وآله وسلم، ولقد رأينا من أدلة هذه الثقة فيما بعد شيئا كثيراً، فما دام ابن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم ثقة ومصدقاً من قِبَل أبي بكر، وما دام أبو بكر قد اطمأنَّ إلى رسول الله، فهو يصدقه من غير تردد، ويؤمن بما يقول وما يفعل من غير إحجام، فلا عجب إذا أكرم بذلك النعت الذي عرف به: الصديق.

فالثقة إذا، هي عنصر آخر من عناصر الإعلام الإسلامي، نضيفها إلى ما سلف من عناصر، ذلك أن أوائل المسلمين كانوا يسارعون إلى الإيمان بعد أن يزول عنهم ردع المفاجأة بالدعوة، لأنهم يثقون برسولها ونبيها، وكما نعلم فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معروفاً طوال حياته بالصدق والأمانة، حتى لقبته مكة بمحمد الأمين.

ولا ريب في أن الجدارة بالثقة إنما يستمدُّها الداعية من ثقته بالدعوة نفسها فلولا أنّ الإيمان قد وقع من قلوب أوائل المسلمين حتى أعماقها، فما كان أحد منهم ليجرؤ على مفاتحة الآخرين بها، سراً أو جهراً، لو لم يكن هو نفسه مطمئناً، وواثقاً، من أنه إنما يدعو إلى دعوة الحق.

وقد أثبتت تجارب التاريخ، لا سيما بعد أن تطور الإعلام إلى علم قائم بذاته، أنَّ الصدق شرط أساسي لنجاح الخطط الإعلامية، وأنَّه لا صحة للمبدأ الذي وضعه وزير دعاية هتلر - غوبلز (اكذب، ثم اكذب، ثم اكذب، فلابد وأن يبقى شيء في الأذهان من كذبتك).

هذا المبدأ قد أثبت إخفاقه الذريع بدليل سقوط الرايخ الثالث قبل أن يتم عقداً واحداً من الزمن، بعد أن كان إعلام غوبلز قد روج بأن الرايخ الثالث سيعيش ألف عام.

وثبت إخفاق هذا المبدأ أيضاً في الإعلام الصهيوني، الذي استطاع لفترة من الوقت أن يقلب الحقائق، وأن يصور الباطل على صورة الحق، ويعرض الكذب على أنه الصدق، بدليل أن العالم، وبعد ثلاثين سنة متواصلة من الإعلام الصهيوني المضلل قد بدأ يكشف زيف الدعاية الصهيونية، ولا أقول الإعلام الصهيوني لأنه لا وجود في رأيي لإعلام صهيوني، وإنما هناك دعاية فحسب، وفارق كبير، كما تعلمون بين الدعاية والإعلام.

الصدق إذاً، هو الذي يولد الثقة، وهو ركن جوهري لا غنى عنه في الإعلام الناجح على المدى البعيد.

الحلقة السابقة هـــنا

يتبع..

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية - الدوحة – محرم 1400هـ.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين