لمحات حول الإعلام في الإسلام (2)

الإعلام قبل الإسلام:

لقد شرَّف الله تعالى العرب بأن حمَّلهم مسؤولية الدعوة إلى سبيله، وقت أن شاء أن يكون خاتم رسله عربياً، وأن يتنزَّل كتابه الكريم باللسان العربي، وأن يكون العرب هم أول من تبلغهم هذه الرسالة.

فكيف كان حال العرب قبيل ظهور الإسلام ونزول الرسالة الإلهية؟ كانوا - كما نعلم - يعيشون في مجتمع جاهلي يتوزع قبائل وأفراداً، على أجزاء من شبه الجزيرة العربية وأطرافها، وله تقاليده، وأسلوب حياته، التي لا تجد لها مثيلاً في غير هذه البقعة من العالم، ورغم هذا التوزع والتباعد السكاني والجغرافي، فإننا نعرف كثيراً جداً - من تفاصيل حياتهم وأحداثها، كبيرها وصغيرها، فكيف حدث ذلك؟

حدث ذلك عن طريق ممارسات إعلامية طريفة، لا أحسب أن أمماً أخرى غيرهم قد طبقتها كما طبقوها هم.

هناك الشعر مثلاً

إن الشعر - كما نعلم - قد لعب دورا بالغ الأهمية في المجتمع العربي، قبل الإسلام وبعده، وعن طريقه وصلت إلينا أخبار العرب على النحو الذي نعرفه. أقول «أخبار» وهذا تعبير إعلامي حديث ولكنه كان مستعملاً عندهم بالكلمة نفسها والمدلول نفسه إذ ذاك.

كان الشاعر أشبه ما يكون بجريدة متنقلة، أو إذاعة متنقلة. كانت كل أحداث القبيلة، من سياسية واجتماعية، تسجل شعراً، ببلاغة عظيمة وبيان فصيح، فتتناقلها القبائل، ومنها تعرف ما يدور لدى القبائل الأخرى.

كان الشاعر العربي يرصد الأحداث ويتابعها، ويحللها ويسجلها ثم يرسلها في قصائد قد تطول أو تقصر، ولكنها - في معظم - الأحوال تحمل مضموناً إعلامياً لا شك فيه.

وأستطيع بهذه العجالة أن أصنف هذا الشعر إلى نفس ما تصنف به الجريدة الحديثة في عصرنا هذا.

فهناك أخبار الحروب، والعلاقات بين القبائل، سلبية كانت أم إيجابية، روتها لنا قصائد شعراء فطاحل في مختلف أدوار التاريخ العربي، ومنها عرفنا هذا الجانب من الأحداث.

وهناك الأخبار الاجتماعية. لا سيما أخبار الهوى، على مثل ما تعنى به بعض الصحف العصرية، من أنَّ فلاناً أحب فلانة، وأنَّ فلانا تزوج فلانة، وأنَّ لفلان أو فلانة مزايا كذا وكذا. أو عيوب كذا وكذا. فما يكاد يختلف المضمون عمَّا هو معروف في أيامنا هذه من باب الأخبار الاجتماعية في الصحافة الحديثة.

وهناك التعليق، سياسياً كان أم اجتماعياً. وقد بلغ به الشعراء شأواً عظيماً بحيث كان لكل قبيلة شاعر أو أكثر يتحدث بلسانها ويعرب عن رأيها ويحدد موقفها. ويمدح أصدقاءها، ويهجو خصومها، ويتهدَّد، ويتوعد ويحلل، ويتفحَّص، فيتلقَّف الناس هذه القصائد بمثل ما يتلقف به الناس أيامنا هذه كتابات كبار المعلقين في الصحافة والاذاعة والتلفزيون. وأود أن أؤكد هنا على ما أشرت إليه، من أن هذه الممارسة الإعلامية الفريدة لم تعرف في مجتمع ما كما عُرفت في المجتمع العربي القديم. وإذا كان بعض شعراء الإغريق كهوميروس مثلاً، قد فعلوا مثل ذلك، ونقلوا إلينا أخبار طروادة، وحروبها، فهومىروس كان فرداً، أما العرب فكانوا كلهم هوميروس، فهم يتحدثون شعراً، ويتخاطبون شعراً، ويعلنون آراءهم شعراً، ويسجلون وقائع حياتهم شعراً، بحيث بات الشعر مصدراً رئيسياً من مصادر التاريخ العربي السالف، ومنه عرفنا أخبار القبائل، والحروب، والأمجاد، والعلاقات الاجتماعية، ومنه - بالتالي - استقينا ما صنف بعد ذلك من أخبار العرب.

وأكاد أرى، في استعراض دور الشعر في حياة المجتمع العربي، قبل الإسلام وبعده، كممارسة إعلامية لا مثيل لها، موضوعاً قائماً بذاته، يصلح لدراسات شتى لولا أنه - اليوم - وبالنسبة للموضوع الذي نتحدث فيه، لا يشكل سوى جانب يسير من الممارسات الإعلامية التي طبَّقها العرب، مسلمين وجاهليين، فأكتفي - مع ضيق المجال - بأن أسجل الشعر كنقطة من نقاط الموضوع، وكلون من ألوان العمل الإعلامي، الذي أقبل العرب إليه بالفطرة، ومارسوه بالسليقة، وأصبح معلماً بارزاً من معالم حياتهم، حتى إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان له شاعره، حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه.

فالشاعر العربي كان - إذاً - مخبراً. ومعلقاً. وناطقاً رسمياً. وواضع تحقيقات واستطلاعات صحفية. وهذه كلها تعبيرات إعلامية حديثة، ولكنها تنطبق كل الانطباق على ما كان الحال عليه عبر سنوات التاريخ العربي كله، ما سبق منه ظهور الإسلام وما تلاه.

وإذا نحن أخذنا الإعلام من حيث هو وسيلة اتصال، كما يقول أحد التعبيرات الإعلامية الحديثة، فإننا نجد أن المجتمع العربي قد عرف هذا اللون من الاتصالات عبر ناحيتين هامتين كان لها دور كبير في حياته وهما:

- التجارة.

- والأسواق.

وكانت التجارة مهنة العرب الأولى التي يفخرون بممارستها ويقومون فيها بدور الوسيط ما بين تجارات بلاد الشام وبلاد اليمن.

فكانت لهم أعمال ونشاطات تجارية شتى، حَفِلَ التاريخ بأخبارها.

وكانت لهم اتصالات بشعوب أخرى كالفرس والروم.

ولكن التجارة بالنسبة للعرب، ما كانت مجرد بيع وشراء، وإنما كانت في الوقت ذاته - ممارسة إعلامية من الطراز الأول، لا أكاد أجد معها فارقاً بين ما يحدث اليوم وما كان يحدث بالأمس.

كان التبادل الإخباري - وأعني هذا التعبير حرفياً - يتم عبر القوافل التجارية، قادمة إلى بلاد العرب ومُنطلقة منها.

فكان الناس في كل بقعة من البقاع التي تجتازها القوافل، يتساءلون عن الأخبار مثلما يتساءلون عن الأسعار. أخبار القبائل والمجتمعات الأخرى، وأسعار البضائع والمواد التجارية.

كان التاجر، أو القافلة التجاريَّة، ينقل ما لديه من أخبار، ويأخذ ما لدى سامعيه، لينقلها بدوره إلى مجتمعات أخرى في مناطق أخرى، بحيث كانت حركة التبادل الإعلامي نشطة على طول الطريق التي تمر منها القوافل، فيعرف أهل الشام أخبار مكة. ويعرف أهل مكة أخبار اليمن. ويعرف أهل كل مدينة أخبار المدن الأخرى، بصورة لا تختلف في مضمونها الفني عما يحدث اليوم من نشاطات مماثلة، وإن اختلفت وسائل التبادل فحسب.

ولكن القوافل التجارية لم تكن وحدها وسيلة الاتصال الإعلامية.

فكما نجد اليوم حشوداً من أهل الإعلام، صحفيين وإذاعيين وتلفازيين يفدون بأعداد كبيرة من مختلف الأنحاء لتغطية الأحداث العالمية الكبيرة. كانت للعرب صورة مماثلة - أكاد أقول تماماً - من خلال أسواقهم الشهيرة، وعلى رأسها بطبيعة الحال، سوق عكاظ.

كانت أسواق العرب هذه، ملتقى جامعاً، تقصده القبائل من كل حدب وصوب، وتستعد له استعداداً كبيراً، لا سيما على النطاق الإعلامي، فتعهد القبيلة إلى أكثر شعرائها كفاءة وعلو كعب، فتدفع به إلى حلبة المساجلة مع شعراء القبائل الأخرى، ويتولى كبار الشعراء، كالنابغة الذبياني، تقويم تلك الأشعار، وتحديد مستواها، والمفاضلة فيما بينها، حتى إذا فازت إحدى القصائد بالإجماع، أو ما يشبه الإجماع، على قوتها وجمالها وإيفائها بالقصد، عُلِّقت على جدار الكعبة، حتى بات لدينا في التراث عشر، وقيل سبع، من عيون الشعر العربي القديم، تكاد تعتبر وحدة قائمة بذاتها بين أشعار العرب، فتدعى بالمعلقات، ويفهم من هذه التسمية أن المقصودة هي إحدى تلك القصائد العشر أو السبع.

وكانت الأسواق إلى جانب ذلك، مناسبة يتبادل فيها الناس الأخبار، بحيث تنتشر، نثراً أو شعراً، بين الجميع، فعرف هؤلاء ما جرى في مختلف الأنحاء، ويتحقق بذلك عنصر هام من عناصر الإعلام وهو تبادل الأخبار، على النحو الذي أشرت إليه قبلاً.

وكان من أشهر تلك الأسواق العربية:

سوق دومة الجندل وقد اشتهرت بأنها سوق تجاري يعقد مرة كل عام وهي سوق تجارية وحسب.

سوق هجر:

وهذه أيضاً: سوق تجارية كان يديرها أمراء من البحرين وتختص في الدرجة الأولى بتجارة اللؤلؤ. وبعض البضائع وبصورة خاصَّة أنواع من المهارات والأرزاق التي كانت تأتي من بلاد فارس ومن الهند.

كما كان هناك سوق (عُمان) وسوق (جياشة) في أراضي تهامة وسوق (دبي) وسوق (مجنه) وسوق (ذي المجاز).

ولقد بقي بعض هذه الأسواق بعد ظهور الإسلام، وظهرت أسواق جديدة مثل (سوق المربد) التي كانت في مدينة البصرة.

وهناك سوق عكاظ وهي التي كانت أكثر شهرة في أيام الجاهلية. وبعد ظهور الإسلام. وقد وقف بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة بثلاث سنوات.

وكان الرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم يدعو الناس إلى الإسلام والإيمان بإله واحد لا شريك له ويقصد كل قبيلة في منازلها، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول للناس:

(قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتنجحوا)

وكان الشعراء يَفِدون إلى هذه السوق يعرضون شعرهم وأدبهم على المحكمين. يستحسنون ما يستحسنون ويستنكرون ما يستنكرون. وتنشر أخبارهم في أنحاء الجزيرة.

وكان الخطباء أيضاً يفدون لهذه السوق. يخطبون في شتى الموضوعات وكانت تعقد كذلك ندوات ثقافيَّة وسياسيَّة واجتماعيَّة. وكانت القبائل تتداول شتى الأمور والشؤون في هذه السوق وفي غيرها.

وقد يكون من المفيد، أيها الأخوة، أن ألمس من بعيد ناحية ليست بعيدة من العلوم العصرية، وأعني بها التوثيق الإعلامي.

فلقد انفرد العرب في مجال التوثيق بخصىصة ما عرفت عند غيرهم، لا قبلهم ولا بعدهم، وهي ما يسمى بالأنساب، أو علم الأنساب. ولعل أجمل تعريف لهذا الفرع الذي يعتبر فرعاً هاماً من فروع الإعلام - عنيت به التوثيق بوجه عام - هو ما قاله النعمان بن المنذر لكسرى حيث جرى بينهما حوار. حاول كسرى فيه أن ينتقص من قيمة العرب. وأن يعرب عن استخفافه بهم، وتصنيفهم في آخر درجة بين الأمم، فردَّ عليه النعمان يُفنِّد كلامه جملة جملة، ويُبين له فضائل العرب وشيمهم، حتى إذا تطرق إلى الأنساب قال ما أعرضه لكم بالحرف الواحد:

«وأما أنسابها وأحسابها، فليست أمة من الأمم إلا وقد جهلت آباء ها وأصولها، وكثيراً من أولها، حتى أن أحدهم ليسأل عمَّن وراء أبيه فلا ينسبه ولا يعرفه، وليس أحد من العرب إلا ويسمى آباءه أباً فأبا. حاطوا بذلك أحسابهم وحفظوا به أنسابهم، فلا يدخل رجل في غير قومه، ولا ينتسب إلى غير نسبه، ولا يدعى إلى غير أبيه ».

انتهى كلام النعمان مخاطباً كسرى، كما أورده العقد الفريد وهو يروي الحوار بأكمله.

وأود هنا. أن أتساءل: بم يختلف علم الأنساب الذي انفرد به العرب عن التوثيق الإعلامي من حيث المبدأ؟ أليس العناية بهذا الأمر دليل حسي إعلامي فطري، كان هو السبب في قدرتنا على ربط التاريخ العربي كله بعضه ببعض عن طريق ما تناهى إلينا من أخباره على النحو الذي عرضته آنفا؟.

في تقديري، ولعلي لا أكون قد جانبت الصواب. أن وجه الاختلاف بين مبدأ التوثيق الإعلامي العصري. وبين مبدأ النسبة عند العرب هو الوسيلة ليس غير. أما المبدأ من حيث جوهره؛ فهو واحد. أو قريب أحدهما من الآخر على الأقل.

ولم يكن النسابة شخصاً عادياً يُعنى بهذا الأمر كيفما اتفق، بل كان لابدَّ وأن يكون رجلاً ثقة. طيب السيرة. حميد السمعة، لأنَّ كلامه يعتبر - في العادة - فاصلاً. وحاسماً. وكان الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه نسابة معروفاً ۔ قبل البعثة المحمدية المباركة وبعدها.

لهذا لم يكن غريباً أن ينفرد تراث الأسلاف عن تراث الأمم الأخرى، بسرد نسب كل من يترجم له من الأعلام. ويختلف امتداد النسب إلى الأجداد باختلاف مستوى الشخصية التي يترجم لها. ويكاد لا يخلو كتاب واحد من كتب التراث في الدين والتاريخ والعلم والأدب والفن وغيرها، من إيراد النسب الكامل، أو شبه الكامل، للشخصيات الواردة فيها، حتى ما كان منها من غير العرب.

بل لقد بلغت دقة مبدأ التوثيق الإعلامي لدى البعض مبلغاً جعله يسود لنا لوائح كاملة بأسماء من حضروا أحد الأحداث الهامة، وتحديد القبيلة التي ينتمي إليها كل منهم، حتى بلغ عدد هذه الأسماء خانة المئات أحياناً، كما فعل ابن هشام في جمعه للسيرة النبوية العطرة فصدَّر كتابه منهجه التوثيقي الذي نعرفه، قائلاً:

«وأنا إن شاء الله مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل ابن إبراهيم، ومن ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن ولده، وأولادهم وأصلابهم، الأول فالأول، من إسماعيل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما يعرض من حديثهم». إلى آخر كلام ابن هشام في صدر السيرة المعروفة.

ويٌروى عن ابن إسحاق، واضع السيرة النبوية الذي أخذ عنه ابن هشام، أنه دخل على المنصور في بغداد، وقيل في الحيرة، وبين يديه ولده المهدي، فقال له: أتعرف هذا يا ابن إسحاق؟ قال نعم هذا ابن أمير المؤمنين، فقال المنصور: اذهب فصنِّف له كتاباً منذ خلق الله تعالى آدم عليه السلام إلى يومك هذا. فذهب ابن إسحاق وصنَّف الكتاب، فقال له المنصور:

لقد طوَّلته ىا ابن إسحاق اذهب فاختصره. فاختصره وألقى الكتاب في خزانة أمير المؤمنين.

هذا أيها الأخوة- توثيق إعلامي من طراز رفيع وليس مجرد تاريخ، ولا أريد أن أمضي بعيداً في تتبعه لأنه يكاد يعتبر موضوعاً قائماً بذاته لو أردنا إيفاءه حقَّه من الدراسة والبحث.

وإذا كان لي من كلمة أضيفها إلى هذا القسم من بحثنا، فهي التنويه عن القوة غير العادية، والحدة المذهلة في الذاكرة العربية آنذاك: يحفظ المرء قصيدة من عشرات الأبيات بمجرد سماعها مرة واحدة. ويسرد نسباً طويلاً لا يتلكأ فيه ولا يتلعثم، ويروي رواية متشعبة فيقبض على أطرافها جميعاً ويلقيها كاملة. ولا ريب في أنَّ هذه الذاكرة العجيبة هي العامل الأساسي في حفظ التراث الذي هو بين أيدينا الآن، فلئن كان الكومبيوتر، أو العقل الالكتروني، يُعتبر في أيامنا هذه أداة هامة في يد الإعلام العصري، فإن الذاكرة العربية المدهشة قامت، بكفاءة نادرة، وأمانة مثالية غالبة، بدور الكومبيوتر نفسه، في تلك الأيام.

هذه باختصار ملامح عامة عن الممارسات الإعلامية العربية وخلفياتها الذهنية والاجتماعية، وقد كان لابدَّ لنا من الإشارة إليها لكي تحيط بفكرة عن تلك الخلفيات، حيث شاء الله تعالى أن ينزل دعوته على رسوله الأمين صلى الله عليه وآله وسلم، ويحدث في تاريخ البشرية ذلك التحول العظيم الذي أحدثه الإسلام الحنيف.

يتبع..

الحلقة السابقة هـــنا

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية - الدوحة – محرم 1400هـ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين