لمحات حول الإعلام في الإسلام (1)

بسم الله والحمد لله خَلَقَ وَعَلَّم. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد خير من علم وأصدق من أعلم. وبعد. فحيا الله هذا اللقاء، وبارك الداعي اليه، ووفَّق المستجيبين له وأعاننا على مهمتنا حتى يبلغ اللقاء أهدافه، ويحقق استشرافه.

والحق أن هذا اللقاء بجميل اسمه، وأمل الإخلاص لمُسَمَّاه يُعتبر من أهم اللقاءات وأولاها بالصدارة وأجدرها بالاهتمام. فالتضامن بكل صوره وألوانه، وفي جميع مناحيه ومجالاته يعنى تكامل الهبات لتتكافل، وامتزاج المواهب لتتفاعل، وبهذا يحيا الجزء في ضمان الكل، ويعيش الكل ضمن جميع الأجزاء.

ولقاؤنا هذا لا يؤتي ثماره إلا إذا تحقق له وحدة الفهم للمبدأ الذي نحرص على تحقيقه، ونسعىٰ جاهدين لتأصيله وتوثيقه، ونعمل بكل عزم لسيادته وتطبيقه. ولا سبيل لوحدة الفهم إلا وحدة الإفهام، ولا أمل في وحدة الإفهام إلا أن تتضامن جميع الوسائل ومنها وسائل الإعلام، وبهذا التضامن تتساند الجهود ولا تتعاند، وتتوحد ولا تبدد، واصطراع البشرية في معسكراته وتكتلاته واللدادة بين مذاهبها ومعتقداتها، وكل ما تعانيه البشرية من هول ونزاع وتناحر، كل ذلك أثر من آثار ما يفرز الإعلام من شهوات مسلطين، وتزيين أوهام لمضللين.

وإذا كانت وسائل الإعلام في الأمم الإسلامية لم تبلغ مرتبة الوصاية على الإعلام العالمي، فإنها تحرص اليوم على أن تلتزم هي بالدورة في فلك الدين الذي ارتضته أممها، وتميَّزت به شخصياتها. وبهذا يظل الإسلام محور كل وسيلة، وجوهر كل تخطيط، وهدف كل منهج.

والإسلام بعلو مبادئه، وواقعية تشريعاته، واستيعابه لكل أقضية الوجود ومجالات التَّحرُّك، وتغطيته لكل مطالب الحياة الجادة كفيل بقيادة الإنسان ليحقق خلافته في الأرض إعماراً يعين عليه طموح الفكر، وعزم الطاقة في إطار من القيم التي تحمي الحضارة أن تنهار، وتصون المدنية أن تنحرف.

وحتى ينهض الإعلام الإسلامي بذلك الدور، يجب عليه أولاً أن يعرف خط موقعه من التأثير في صياغة الأجيال والجماهير، بما يملك من عديد الأجهزة وألوان التعبير، بالكلمة تقرأ، فتؤثر. أو تسمع فتستميل، وبالرسم يفصح، وبالصورة توضِّح، وبالحركة تُغري، وبالموسيقى تهدهد، وبالغناء يهيج، وسائل لم تدع لعين غمضاً، ولا لأذن سداً، ولا لنفس إعراضاً، ولا لملكة انغلاقاً، وليتها تعفي من لا يملك وسائلها، فقد اقتحمت على الناس مراقدهم، وفشت في الناس أريحية الدوي فلم يرحم الخلي أحزان الشجي.

وسائل بهذه الكثرة، ولها هذا التغلغل تجعل مسؤولية القائمين عليها والعاملين فيها جسيمة، فهم محاسبون على كل ما ينشرون ويبثون، لهم أجر من انفعل بخير ما قدَّموا فاستقام، وعليهم وزر من انفعل بشر ما أعلموا فانحرف.

وهم في خضم هذه المعركة يعملون بكل جهاد، يسألون الله الهداية والتوفيق، ويتلمَّسون طرق العلاج، وهم في اجتهادهم هذا يخطئون ويصيبون وخطؤهم أكثر من صوابهم. ولكن آمالهم في عفو الله تعالى أكبر، وهو يعلم مدى نوايا المخلصين فيهم، وأبعاد المحنة التي هم فيها، وهم في أمس الحاجة إلى التعاون معهم والأخذ بيدهم بدلاً من الإعراض عنهم أو هجرهم، أو التأليب عليهم، أو اتهامهم بما ليس فيهم، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القدوة الحسنة في طريقة توجيه المجتمع بأسلوب يرجح ولا يجرح، وينصح ولا يفضح.

وهم يحرصون على أن يحددوا مهمة الإعلام في إطار إسلاميتهم حتى لا تحمل أوعية الإسلام اسم الإسلام إلا ومعه مسماه، لأنَّ وسائل الإعلام حين تحمل الاسم دون المسمَّى تكون أخطر في الهدم حتى من وسائل الخصم.

وهذه المهمة يجب أن يخطط لها بعمق تخطيطات تتعانق فيه فنون الإعلام بمفهوم الإسلام التقاء خادم بمخدوم، ووسيلة لغاية. وما دمنا مؤمنين بالله تعالى فيجب أن نسلم قيادتنا إليه إسلام الواثق بمن يعلم من خلق، وكما قال أحد الدعاة الإسلاميين:

(الإنسان صنعة الله وصانع الصنعة أولى بوضع قوانين صيانتها)

ولا توجد صنعة من صناعة البشر تضع لنفسها قانون صيانتها، فلماذا لا نتعامل مع الله، كما نتعامل مع صناعاتنا.

تلك أول مهمة يجب أن تؤصلها في النفوس وسائل الإعلام حتى تصبح قضية مسلَّمة، تفتح المدخل لكل قضايا الإسلام، وبهذا تشرح كيف أعز الإسلام الإنسان، فلم يجعل إنساناً يُشرِّع وإنساناً يتَّبع. وحين تنتفي تبعية بشر لبشر تكون العزة، ويصبح الناس بحقٍّ سواسية كأسنان المشط، أكرمهم أتقاهم، وسيدهم أعبدهم.

وتحاول وسائل الإعلام الإسلامية اليوم أن تجنِّد - لشرح قضايا الإسلام - العالمين من المتخصصين الهادين، حتى لا يقف أحد ما ليس له به علم، ولا شك أنها في بعض الأقطار تلقى الكثير من المصاعب قبل أن تنجح في إقناع العلماء المخلصين في التعاون معها لأنها تدرك أن الإسلام حين يعرض بصور صحيحة ترجِّح كفته على سائر ما وضع البشر للبشر، وسيفضح هذا العرض كل المذاهب الوضعية حين تقارن به في كل جانب من جوانب الحياة:

عقيدة: تتسم باليسر لأنها دين الفطرة، وبالوضوح لأنها عقيدة التوحيد.

وسياسية: تجعل الحكم تكليفاً لا تشريفاً، وتبعة لا تسلطاً. والمسلمون كلهم أمة واحدة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، دستورهم القرآن، وقانونهم ما شرع الإسلام، وحاكمهم أول محكوم به، ومهمته تنفيذ لا تشريع، تسعفه الشورى، ويعينه التناصح، ويمده الاجتهاد.

واجتماعية: تسوي بين الناس عبودية لله تعالى، ونسباً إلى آدم، فلا تميز لعنصر ولا سمو للون، ولا فوق لسلالة، ولا سيادة لطبقة، كلهم في الحق سواء، وأمام الواجب أكفاء، يجمعهم نسب الإسلام، وأخوة الإيمان، قويهم ضعيف حتى يُؤخذ منه، وضعيفهم قوي حتى يُؤخذ له، يتفاضلون بالتقوى ويتعاونون على البر، أمر بمعروف ونهي عن منكر، يتكافلون ويتعاطفون، وكلهم جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

واقتصادية: تكفل للناس جميعاً فرصة العمل حتى لا تبقى طاقة معطلة، ولا يوجد احتراف لفقر، تسخى الواجد ليبذل، وترفع همَّة الفقير ليعمل، والمال كله لله أصلاً وللناس استخلافاً، وهو وسيلة ليخدم وليس غاية ليسود، يبقى على الحوافز ليدفع على العمل، ولا يطلقها لتسيطر فتستغل، لا يهدر الفوارق ولا يطغيها بحكم وسائل الكسب ووجوه النشاط، فلا يستنبط المال إلا من حل، فلا ضرر، ولا يثمِّر إلا في مشروع فلا ضرار، ولا يصرف إلا في خير فلا إفساد.

وللفقير في مال الغني حقه المعلوم، واجباً لا منَّة، وفرضاً لا تفضلاً، وفي فضيلة التطوع والإيثار ما يقضي على العدم ولا يبقي على الإقتار.

وتربوية: يجعل العلم فريضة، ويحث عليه من المهد إلى اللحد، تمتزج فيه علوم القيم من دين وخلق بعلوم المادة من تجارب وابتكار حتى يزود النشء بما يسعد حياته من فنون تتطلبها الدنيا وزاد تستلزمه الآخرة، وبذلك يخرج النشء سَوِيّ التكوين متناسق الملَكَات يعرف موقعه من الوجود ومهمته في الحياة.

وبحسن عرض هذه المزايا في الإسلام، تُهزم المذاهب الوضعية وتزداد ثقة المسلم بإسلامه، ويعتز بنعمة إيمانه. وتُربي عنده مناعة إيمانية، وحصانة إسلاميَّة ضد وافدات الشر، ومستوردات الانحراف مهما زيفت شعاراتها وزور طلاؤها، ومها افتنَّتْ وسائل الإعلام في عرضها، وتعددت أسلحة القهر عليها، ولن يطول بالمسلم انتظار فشلها وانتحارها على أيدي دعاتها.

ولا شك أن مسؤولية وسائل الإعلام الإسلامية اليوم أن تؤصِّل في نفوس المسلمين وغيرهم أنَّ الإسلام لم ينزل اليوم ولم يشرع الساعة، بحيث يعوزه تصديق الواقع وشهادة التطبيق.

فالإسلام له واقع سجَّلَه التاريخ، وله تطبيق استوت به حضارة وأسست عليه مدنيَّة، حين كان خصوم الإسلام اليوم في ظلمات حجَرت على الفكر أن ينطلق وكبَّلت الطاقات أن تثب، وظلَّ الإسلام على سيادة العالم قرابة ألف عام حتى التحموا به وعرفوا سرَّ قوته، فأجمعوا عليه أمرهم وأخذوا عنه أسس حضارتهم وفتَّتوا تجمعه في خلافة، وحاولوا فتنة أهله استعماراً وتقطيع أوصاله.

ولما أعيتهم الحيل لجأوا إلى التشكيك في الإسلام كتاباً ورسولاً ومنهجاً، ولم يكفهم مستشرقوهم فاستعانوا بالمستغربين من المسلمين الذين صنعوهم على أيديهم، ومكَّنوا لهم من قيادة أفكار شعوبهم فساسوا أممهم بما رسمه لهم سادتهم، وعزلوا الإسلام عن مجالات الحياة.

ولكن لطف الله حمى مطلع الإسلام من كيدهم، فبقي مهبط الرسالة خالصاً لله يصلح به آخر هذا الأمر كما صلح به أوله.

ولقد شهدت الأحداث الأخيرة أننا بحمد الله حين توحَّدت قلوبنا وتساندت إمكانياتنا استطعنا أن نذل أعناق الجبارين، وأن تهرع إلينا أنفة المتغطرسين حتى أصبحنا موضع عزل الخصوم تشبيب الأعداء.

وفي هذا الدرس ما يقربنا بالمزيد من التآلف والتعاطف والتكاتف.

وإذا كنا قد استطعنا بحمد الله: أن نلفت الدنيا إلينا بحسن استغلالنا لما خصَّنا الله سبحانه به من مادة، فلماذا لا نلفت الدنيا لحسن ما وهبنا الله تعالى من سماوي القيم، فلو أننا أحسنَّا استغلال ما في الإسلام من نفائس وكنوز بحسن العرض وجمال الإعلام، وأكدنا ذلك بواقع تطبيقي ونموذج سلوكي لجَذَبنا الدنيا كلها لتستريح في أحضان هذا الدين من شراسة مسلطين لا يُرضيهم إلا أن يكونوا ظالمين.

يتبع..

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية - الدوحة – محرم 1400هـ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين