الرسالة الإسلاميَّة في مواجهة الفساد قديماً وحديثاً (5)

نماذج من شباب الإسلام:

وهل نحن في حاجة إلى عرض الأمثلة من أولئك العمالقة، وكلهم في العظمة والتفوق سواء. فمن تختار منهم، ومن نذكر من ذلك الجيل الخالد، وليس منهم رجل أو امرأة إلا وهو كما قلت في آثار المدينة المنورة:

تروى الأعاجيب من أنباء مدرسة ** فيها الأمينان جبريل وخير نبي

ربَّى بها الوحي جيلاً لا كفاء له ** على البسيطة من عجم ومن عرب

عندما أحدق شباب محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأسوار الإسكندرية بعث المقوقس إلى قائدهم يدعوه لإرسال وفد يحاوره ففعل، وكان على رأس الوفد المؤمن الصحابي الجليل الأسود البشرة: عبادة بن الصامت، فاستكبر ممثل الطاغوت الرومي أن يحاور (ملوناً) ولما اضطر إلى ذلك جعل يساومه على فك الارتباط والوعيد.

فما كان جواب عبادة إلا أن قال له: أبالدنيا تغرينا. وإن أحدنا ليكتفي منها بحفنة من سويق؟ أم بالموت تخوفنا. والله ما منا أحد خرج من بيته إلا وهو يدعو الله تعالى أن يرزقه الشهادة في سبيله!.

وكان ذلك كافياً ليعلم المقوقس إنَّه تلقاء طِرَاز من الخلق لا تعرف له رومة أو أثينا ولا الدنيا كلها من قبل ذلك مثيلاً.

وفي مشهد مماثل دخل وفد المسلمين بقيادة المغيرة ابن شعبة على رستم قائد جيوش الإمبراطوريَّة الفارسيَّة، فلم يكتفِ المغيرة بالكلام، بل عمد إلى الفعل المثير فزاحم رستماً على سريره. ولما نازعه حرسه في ذلك أجابهم: ويحكم، أيتخذ بعضكم بعضاً أرباباً؟ أمَّا نحن فليس لقائدنا على أحد من ميزة بل كلنا في الكرامة سواء. وما دمتم على هذه الحال فلابدَّ أن هلاككم على أيدينا إن شاء الله.

وكانت قذيفة محكمة لم تلبث أن عملت عملها في صدور القوم، إذ عرَّفتهم لأول مرة فساد النظام الذي يحكمهم، وسمو الدين الذي صنع من هؤلاء الفقراء القوة التي لا تقهر.

وسأل هرقل قيصر الروم قواده عن أسباب هزائمهم الدائمة أمام مقاتلة المسلمين. فقال أحدهم: ما منا رجل إذا لقيناهم إلا وهو يتمنى أن يقتل أخوه قبله، وليس منهم واحد إلا وهو يحب أن يقتل قبل أخيه.

فهتف هرقل: لئن صدقتني الوصف ليملكن ما تحت قدمي هاتين.

وسمع الفاروق رضي الله تعالى عنه وهو يجول خلال أزقة المسلمين بين أم وابنة لها.

تقول الام: امزجي اللبن ببعض الماء يرتفع محصوله، وتقول البنت: ولكن أمير المؤمنين ينهى عن الغش؛ وترد الأم: وهل يرانا أمير المؤمنين ؟؛ وتجيب البنت: ولكن الله تعالى يرانا يا أمَّاه.

ويمثل وفد سمرقند بين يدي حفيد الفاروق، المتحدر من هذه الفتاة العظيمة، أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، يشكو إليه قائد المسلمين محمد بن القاسم، مدعياً أنَّه اقتحم حاضرته دون إنذار سابق، فلم يتمالك إلا أن كتب إلى قاضي الجيش الإسلامي يأمره بالتحقيق في هذه الشكوى،، حتى إذا صحت كان عليه أن يأمر المسلمين بمغادرة المدينة خضوعاً لأمر الله تعالى الذي حرَّم على المؤمنين أن يفجأوا عدواً بقتال قبل أن ينبذوا إليه على سواء.

حضارة الإيمان وحضارة المادة:

وهل أمضي مع هذه النماذج خلال التاريخ، فأردفها بواحد من عهد صلاح الدين وأعززها بآخر من أيام يوسف ابن تاشفين، وثالث من مآثر العثمانيين. وما لا أحصي من الروائع الممثلة لجلال هذا الدين. ولعمر الحق إنَّ في كل منها لصورة واضحة الملامح تنطق بأجلى بيان بأن هاهنا حضارة ربانية تهيمن بخصائصها المتفرِّدة على تصرفات الأفراد والجماعات، فتؤلف منهم المجتمع النموذجي الذي كونته التربية النبويَّة على منهج السماء ليقود الإنسانيَّة إلى الجادة، التي عدَّها رسل الله تعالى منذ آدم إلى خاتم الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين.

ثم إنَّ في كل منها لتشخيصاً بارزاً لمهمة الشباب المسلم بالنسبة إلى مشكلة الحضارة، إنها مهمة الإنسان الذي يملؤه اليقين بالمسؤولية نحو خالقه ثم نحو نفسه وأهله والخليقة كلها، وعلى اختلاف أشكالها وأجناسها.

وعندما نتصوَّر المرحلة الرهيبة التي تجتازها الإنسانيَّة أيامنا هذه، تحت أعباء الأخطاء المتراكمة، والأهوال المتوقعة، لا تتردَّد في القول بأنها مهمة المنقذ الذي بيده صور النجاة لهذه الإنسانيَّة المعذبة، بعد أن أوغلت في تخريبها تلك الحضارة التي ينسبونها ظلماً إلى المسيحية، وهي التي أعلنت الحرب على المسيحية منذ فرضت عليها الدولة الرومانية سلطانها الغشوم، فاتخذت منها معرضاً لكل مواريثها الوثنية، حتى انتهى بها الأمر أخيراً إلى العزلة التامَّة عن حياة المجتمع، فهي تتطلع إليه من بعيد يتخبط في وحول التحلل دون أن تملك له ضراً أو نفعاً.

وإلا فأين أثر الكنيسة الغربية وهي ترى القوانين الوضعية تبيح نكاح الأخوات، وإجهاض الحاملات، واتخاذ الخليلات، وتبادل الزوجات؛ وما إلى ذلك من الموبقات المنذرات بنهاية الأديان والحضارات.

بلى والله إن كل شيء ليهيب اليوم بالمسلم: أنْ أقْدِمْ، فلم يبقَ للإنسانيَّة من منقذ سواك، والويل لك ولأمم الأرض معك إذا أغفلت مهمتك، وظللت في إحجامك وترددك.

بَيْد أنَّ هذه المهمَّة تتطلب من الشباب المرشَّح لها أن يَرْتفع إلى مستوى المسؤولية التي تقتضيها. ورأس الأمر وعموده أن يلتزم خط السلف الذي اعتصم بحبل الله تعالى فأعزَّه الله، وأن يتجنب الهبوط إلى مُنحدرات الإمَّعات، الذين ضاقت بهم مسارب الحياة. وذلك هو أول الطريق إلى استرداد مكانته السليبة في قيادة الفكر البشريّ الحائر إلى منهج القرآن، الذي شهد الله تعالى والملائكة وأولو العلم، أنَّه الهادي أبداً للتي هي أقوم.

لقد كثر حديث العارفين عن جمال الحضارة الإسلاميَّة وإمكاناتها التي لانفاد لها، فأعادوا وأبدأوا وأجملوا وفصَّلوا. واشرأبَّت أعناقُ التائهين والمظلومين تتطلَّع في لهفة لعلها تقعُ على بعض هاتيك البشريَّات مجسَّمة على أرض الواقع. وكادت تيأس وتعتبر ذلك الحديث لا يعدو أن يكون لوناً من أحلام اليقظة، لولا خيوط من النور لا تزال تنطلق في العتبات من سلوك الطائفة الثابتة على عهد الله تعالى، والصادعة بالدعوة إلى الله سبحانه لا يضرها من خالفها ولا يصدها عن أداء واجبها نحوها إرهاب الظالمين، ومُفتريات الكاذبين. ولكنها تظل خيوطاً مبعثرة يرسلها أفراد، على حين تتلهف الشعوب المضللة إلى نماذج تؤلف المجتمعات.

الإسلام السجين وكيف السبيل إلى إطلاقه:

ونتساءل، ويتساءل معنا الضمير الإنساني في كل مكان، هذا المفهوم المثالي للحضارة. ما السبيل لإخراجه إلى حيز التطبيق، في مواجهة الواقع الرهيب الذي يحدق بالفكر الإسلامي، وبخاصَّة في ديار الإسلام؟

لقد زاحمت قوانين الإنسان المغرور شريعة الله تعالى، حتى أزاحتها نهائياً عن سياسة المجتمع الإسلامي. وهي تريد اليوم أن تقضي على ما بقي من أحكامها حتى في نطاق الأسرة.

واستبعد الإسلام عن مناهج التعليم، حتى أوشك أن ينحصر في ما يسمونه بالتوجيه الخلقي، أو التربوي، وطورد النظام الإسلامي في مجالات الحكم، حتى لم يبقَ له عند معظم حكام المسلمين سوى ظهورهم في مساجد المسلمين مرتين في كل عام لأداء مراسم العيدين.

وحوصرت الكلمة المؤمنة حتى لم يعد يسمح لها بالدفاع عن نفسها أمام الهجوم الذي ينصبُّ عليها من دعاة الفجور والبهتان بكل وسائل الإعلام. هذا الحصار المحكم حول الإسلام السجين. كيف السبيل إلى اختراقه، لإعطاء الإسلام حق الاتصال بالعالم، بل بأبناء الإسلام؟.

الحق أنني واحد من هؤلاء المتسائلين، غارق في مثل حيرتهم، لا أكاد ألمح بصيصاً من الضوء يدلني على المخرج، أو يقدم لي جواباً على أي من هذه التساؤلات، ولعل أعضاء هذا المؤتمر المبارك يشاركوننا نحن الحيارى في موقفنا الأسيف المغلق هذا.

العودة إلى المسجد:

على أنني لا أكاد أواجه هذا الانغلاق الموئس حتى يتوهج في قلبي قول ربي:

﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214].

وأتذكر قوله تعالى لرسوله ومن معه من المؤمنين يوم الأحزاب: ﴿إِذۡ جَآءُوكُم مِّن فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠١٠ هُنَالِكَ ٱبۡتُلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَزُلۡزِلُواْ زِلۡزَالٗا شَدِيدٗا١١﴾.

فيلوح لي الفرج قاب قوسين أو أدنى، وإن كنت أجهل كيف وأين ومن أين، ولكني أدرك بملء وجودي أن النصر المنشود في مثل هذه الحال موقوف على أمرين:

أولها: انقطاع الأمل من كل أنواع الحيل، بحيث لا يبقى أمام المؤمنين إلا إمداد الله سبحانه.

وثانيها: تصفية القلوب من لوثات الذنوب بتوبة نصوح تشد الأعين نحو علام الغيوب وحده.

ولقد والله تلاشت الآمال حتى اليأس.

وبدأت الضراعات الصادقة ترتفع من كل نفس.

ونظرة إلى ردود الفعل الواسعة في أوساط المسلمين، الذين يعيشون تحت كابوس الرعب، تؤكد أن وراءه عملية تطهير ربانيَّة تخض ضمائر الغافلين لتردهم إلى هويتهم التي نسوها في زحمة الأحداث والأهواء، فإذا هم اليوم يملأون المساجد في كل مكان، ويعاودون الاتصال بالمنابع التي شحنت قلوب أسلافهم بالطاقات التي فتحوا بها الأرض لدعوة الله تعالى، والغريب في هذه (الرجعة) أنها لم تقتصر على جماهير العامَّة وطلبة العلم الشرعي فحسب، بل لعل هؤلاء كانوا أقل الثائبين إلى الوعي نسبة، ولكنها استقطبت العديد ممن كانوا حتى أمس القريب، من أشد المناوئين للدعوة الإسلاميَّة حرباً لها ولأهلها، وتكاد تستولي على أزمة الفكر العالمي في أوساط الكليات العلمية بوجه أخص.

الحلقة السابقة هـــنا

يتبع ..

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية، الدوحة، محرم 1400هـ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين