الرسالة الإسلاميَّة في مواجهة الفساد قديماً وحديثاً (4)

حتى الراقصون يُفضَّلون:

وطبيعي أن تكون حصيلة هذا التباين بالدرجة الأولى إيغال القابضين على أزمة التوجيه العام في استقطاب الطاقات لصالح الخط الذي ينتهجون، ومنْ ثَمَّ في عزل الآخرين من حفظة التراث الإسلامي عن مراكز التأثير في حركة المجتمع ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.

ولعل أقرب مثال على هذه الوقائع حرمان أصحاب التعليم الإسلامي من أي حق في الخدمات الرسميَّة في معظم بلاد المسلمين، وإن تفاوت مدى هذا الحرمان بين إقليم وآخر.

ففي تركية مثلاً يضطر حامل الإجازة الجامعية في العلوم الشرعيَّة إلى الخدمة في الفنادق ليقي نفسه وأهله شر البطالة، وفي الهند وباكستان - حتى عهد بوتو - لا يجد خريج المعاهد الإسلاميَّة مجالاً للعمل خارج نطاق الوعظ والإرشاد، وتلقين أطفال المسلمين بعض سور القرآن.

وفي ظل الحكومات الإشتراكيَّة مطلقاً لا يختلف وضع الدارس الشرعي عن ذلك، إذ لا حق له في أي وظيفة حكوميَّة، إلا أن يتخلى عن التزامه الديني ليصل إلى عمل ما تحت مظلة الحزب الحاكم.

ولعل الكثيرين سمعوا ذات يوم مراسل صوت أمريكا في القاهرة يعلن في أخبار الفن أن خمسة وأربعين راقصاً قد تخرَّجوا - وتخرجن - في معهد الباليه، فضموا لفورهم إلى الفرق القومية، على حين لا يكاد يجد خريج الأزهر سبيلاً إلى التعيين إلا بعد شياط وهياط وزمان قد يستوعب السنين.

وبين يدي - وأنا أسطر هذه الصفحات - رسائل من مدرسين في بعض أنحاء العالم الإسلامي يذكرون لي أنهم لم يتناولوا أي أجر منذ عدة أشهر. وليس هذا عني بغريب، فقد زرت معاهد إسلاميَّة مكافحة في الفلبين وعلمت أن راتب بعض المدرسين فيها لا يتجاوز سبعة الدولارات في الشهر، وقد تتتابع الأشهر دون أن يحصلوا حتى على هذا القدر الهزيل.

وليس حظ الكثيرين من نظرائهم بخير من ذلك في باكستان والهند، حيث يقف دخل الواحد منهم في الغالب عند حدود روبيات قليلة. ومرد ذلك كله إلى تشابه حالة المدارس الإسلاميَّة من حيث اعتمادها على تبرعات المحسنين غير الثابتة.

مزيد من الزحف:

هذه الأوضاع الرهيبة التي تواجه التعليم الإسلامي في معظم بلاد المسلمين، قد انتهت به إلى مأزق شديد الحرج، إذ بات المقبلون عليه عبارة عن متطوعين لا يأمنون أن تستمر لهم تلك المعونات الشعبية إلى الأبد، وبخاصَّة بعد التطور الكبير الذي مكَّن لربيبي التعليم العلماني من الاستحواذ على سائر المرافق المدنيَّة.

وها نحن أولاء نرى بعض آثار هذا التطور في البيوتات التي توارثت أمانة العلوم الشرعية جيلاً عن جيل، وقد قطعت حتى اليوم شوطاً مديداً في البعد عن منهجها العريق، فهي توجه أبناءها إلى كل مسلك غير المسلك الذي ألفته.

فأبناء كبار الفقهاء أطباء أو مهندسون أو دكاترة في الفلسفة والأدب وحتى في الموسيقى، ونتيجة ذلك بارزة في مصير المكتبات الإسلاميَّة الخاصَّة حيث تعرض للبيع في أسواق المخلفات، لأن ورثتها لا يقيمون لها وزناً، ولا يعيرونها أكثر من نظرهم إلى شيء استنفد أغراضه، ولم يعد بقاؤه مما يتفق مع التقدم التكنولوجي السريع.

ولا أصلح من مثل هذا الجو للمزيد من الزحف على البقية من حصون الإسلام. وهكذا أصبحنا نرى حكاماً يحملون هوية المسلمين، وربما خطت لهم قبور يوسدونها بعد عمر طويل في مساجد المسلمين، ليتخذ منها المصلون مزارات مقدسة، نراهم يعلنون الحرب السافرة على الإسلام، فيرمون نبيَّه بالكذب، وينكرون الوحي الذي أنزله الله تعالى على قلبه من فوق سبع سموات، ويتخذون من ذلك وسيلة للعدوان على بقايا الشريعة الإلهية بإلغاء حدود الميراث، ويشجع عدوانهم آخرين من الأفَّاقين فيزعمون إلغاء الفوارق بين الجنسين، ويعاقبون من اعترض مزاعمهم بإحراقهم أحياء في الساحات العامَّة.

وتتصل ثورة الغرور فإذا بأحدهم يرفع عقيرته اليوم بإلغاء نصف الإسلام إذ أعلن اكتفاءه بالقرآن ورفضه لحديث رسول الله تعالى صلوات الله تعالى وسلامه عليه، بحجة أنَّ في هذا الحديث ما لا يصل إلى فهمه. وقد فاته أنَّه يقحم نفسه في غير ميدانه، وأنَّه بإنكاره الصحيح الثابت من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما يرفض كتاب الله تعالى نفسه، الذي يشهد لنبيه بأنَّه: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ [النجم: 3] ، وأن متابعته صلوات الله تعالى عليه وسلامه شرط في مرضاة الله تعالى الذي يقول في كتابه الحكيم: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: 31] ولا سبيل لاتباعه صلى الله عليه وآله وسلم إلا بالاستمساك بسنته قولاً وعملاً وتقريراً، ولو أمكن ضياع سنته صلى الله عليه وآله وسلم لانتفى إمكان اتباعه، ولانتفى بالتالي توافر البيان الذي لا مندوحة عنه لمراد الله تعالى الذي يقول لرسوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44].

وترتفع في هذا الجو المحموم صيحات العملاء من هنا وهناك. فمسؤول كبير في إحدى دول الإسلام الكبرى يصرِّح بأنَّ تطبيق الشريعة الإسلاميَّة يمزِّق الوحدة الوطنية. وهو ترديد لذلك الصوت الآخر الذي يعلن في كل مناسبة أن بلاده مفتوحة لكل فكر إلا أن يكون هذا الفكر دعوة لإحلال أحكام الله تعالى مكان القوانين التي أعلنت إفلاسها بألسنة قضاتها أنفسهم.

وحسب أمته التي تطالبه في كل مناسبة بتحكيم شريعة الله تعالى، إنَّه يترك لها حرية العبادة - على الطريقة الماركسية التي تحبس الإسلام في نطاق المسجد - والويل للمتطلعين إلى ما وراء ذلك، فسيكون نصيبهم الفرم.

وفي هذه الغمرات المائجة تنطلق صرخات الناعقين بتحرير المرأة من روابط الأسرة، وتغريها بالتمرُّد على قوانين الطبيعة، لتقذف بها إلى الهاوية التي ابتلعت من قبلها المرأة الغربية، فسلختها من أنوثتها وأحالتها كنَّاسة تجمع القامة من الشوارع العامَّة، أو وقَّادة في الأفران العالية، أو سكرتيرة توفر المتعة والخدمة لسيد المكتب أو لصاحب العمل، أو (فنَّانة) تثير شهوات الفارغين في السهرات الحمراء، مقابل تصفيق الأوشاب وكلات الإعجاب.

ماذا وراء تحرير المرأة:

وربما تطوَّر عبث هؤلاء بالمرأة وبالمجتمع المسلم المخنوق المسحوق إلى حدّ تسخيرها لإفساد الوسط التعليمي، بحلولها مكان المعلم في مختلف مراحل التعليم ولا يحتاج المفكر إلى كبير ذكاء كي يدرك ما وراء هذا الاتجاه من تخطيط يراد به القضاء نهائياً على بقية الرجولة في الجيل القادم.. وذلك عن طريق إزالة الضوابط الباقية من فضيلة الحياء في صدور الجنسين.

والغريب أنَّ هؤلاء يقدمون على هذه التجربة بعد أن ثبت خطرها المدمر في أمريكا وروسيا، حيث يحاولون التخلص من إسارها بكل الوسائل المتاحة لهم.

والحق أنَّ أصحاب هذا التخطيط قد أثبتوا تفوَّقهم على سائر إخوانهم أولئك فهم لم يجاهروا بالحملة على أصول الدين، وفق ما ذهبوا إليه من الهجوم المكشوف بل عمدوا إلى الوسيلة التي تحقق لهم كل ما يريدون دونما ضجة ولا تبجح.

ولنتذكر هنا أن كل المحن التي نزلت بالعالم الإسلامي من قبل على أيدي المتفلسفة والفرق المنسلخة عن جسم الإسلام، وعن طريق الزحف المغولي والصليبي الذي فتك بالملايين، ومحا المدن، وأخرج الإسلام من الأندلس بعد الاستقرار ثمانية قرون.

هذه المحن كلها عجزت عن تدمير البيت المسلم لأنها عجزت عن استجرار المرأة المسلمة إلى مفارقة القيم التي اؤتمنت عليها. ولذلك استطاع هذا البيت فيما بعد أن يحرك الطاقات النائمة، فتنطلق من جديد لمواجهة الغزوات الاستعمارية ولإحياء روح الجهاد في أعماق الشباب ومنْ ثَمَّ تتابعت قوافل الشهداء حتى حقَّق الله تعالى النصر الموعود بطرد العدو اللدود. ولنقارن ذلك بالأخطار التي نحن مُهدَّدون بها عندما تنجح جهود المغرِّرين بالمرأة في الإجهاز على البيت المسلم.

أول البلاء الذي يَنتظر المجتمع الإسلامي في ظلال هذا التخطيط الرهيب هو انسلاخه من القيم التي ساعدت على بقاء الإسلام حتى اليوم. وحين يتجرَّد البيت المسلم من قيم الإسلام فسيكون مزرعة غير مباركة لإنتاج الجيل المشوه، جيل الخنافس والإمعات الذي لا يشعر بالإنتماء إلى هذه الأمة، بل سيكون ولاؤه كله لشهواته ولصانعي المغريات من الأعداء الذين ما برحوا يزرعون الألغام في طريق الحضارة الربانية، منذ بعث الله تعالى محمداً لإخراج العرب، ثم لإخراج العالم بالعرب، من الظلمات إلى النور.

وما أحسب قوة تستطيع أن تحقق لإسرائيل الحماية الآمنة والبقاء الدائم، والتوسع الموصل إلى أهدافها القصيَّة، مثل ما يفعله لها هذا الجيل الذي فقد هويته الإسلاميَّة، وأصبح على أتم الاستعداد للسير خلف كل ناعق. ويومئذ لن نجد، والعياذ بالله، حاجة للكلام عن حضارة للإسلام، لأنه لن يكون هناك أنموذج يسعه أن يمثل بعض ملامح الإسلام.

شبابنا وقضيَّة الحضارة:

وهذا يعني أنَّ للمسلم الحق دوره الفعَّال في قضية الحضارة، وله موقفه المعين من مضامينها سلباً وإيجاباً، لأنه بحكم عقيدته وسلوكه شهيد على الناس وله صلاحية الحكم على تصرفاتهم، لبيان مدى موافقتها أو مخالفتها لميزان العدالة والصحة، فإذا هو تخلى عن صفته هذه، واندمج في القطيع التائه، فَقَد أهليته للحكم والشهادة وعاد جزءًا من الآلة الكبيرة التي تدور بالناس على غير هدى.

وبتعبير موجز: إنَّ موقف المسلم من الحضارة المعاصرة هو موقف الناقد البصير الذي يحدد القيمة ويشير إلى مواطن الخطأ، ويدعو إلى التصحيح، كمثل الطبيب الحاذق الأمين يشخِّص حالة المرض ثم يواجهه بالعلاج الناجح، وإذا وجد في الإصابة ما ينذر بسريان العدوى بذل جهده لحجر المصاب، حماية للمجتمع من انتشار الوباء. يستوي في ذلك الفرد المسلم والجماعة المسلمة والدولة المسلمة.

وسواء كان الفرد شاباً أو شيخاً أو امرأة. لأن الإسلام أوجب المسؤولية على الجميع دون استثناء فكلهم راعٍ وكلهم مسؤول عن رعيته. ولأنَّ المسلم مزوَّد بالوعي السليم لكل الحقائق، فبفطرته والتزامه روح الإسلام يحسُّ كل شذوذ عن جوهر الحق والخير فينفر منه، ويعلن إنكاره إياه بالحكمة والموعظة الحسنة.

على أنَّ للشباب المسلم مزيداً من هذه المسؤولية المشتركة، فهو ما ينطوي عليه من الطاقات النفسية والجسديَّة أقدر على التحمل من غيره، وأسرع إلى الاستجابة، وإذا داخله الاقتناع بحقيقة ما بذل لها من ذات نفسه ما تقتضيه من الجهد دونما إحجام أو تردُّد.

وفي قصة أصحاب الكهف من القرآن العظيم درس أي درس عن أهميَّة الشباب وإقدامه على التضحية مهما كبرت، في سبيل الحقيقة التي انشرح لها صدره.

هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى، قد رفضت فطرتهم السليمة ضلال قومهم، فتنادوا لحماية وجودهم من لوثات الوثنية، وتميَّزوا عن المجتمع الزائغ بالمسلك النقي وبذلك خسروا مناصبهم الرفيعة، بين ظهرانية، مؤثرين الفقر على الغنى، والتراب الخشن على الأثاث الوثير. ولكنهم ربحوا راحة الضمير، وخلود الذكر. إذ جعلهم ربهم مثلا صالحاً للأجيال، يتعلمون منهم كيف يؤثرون الحق على مرضاة الخلق بل على كل شيء.

وما كان شباب الرعيل الأول من صدر الإسلام سوى النماذج المثلى لهذا الطراز المميز بالخيرية على سائر الخليقة. لقد احتوتهم الجاهلية في ظلماتها أولاً، فاتخذت منهم وقوداً للفتن، وأدوات لنصرة الطغيان، وعاشوا كأسلافهم الضائعين خارج حدود التاريخ حتى أظلهم فجر النبوة، فإذا هم خلال اليسير من السنين أئمة الهدى وقادة البشريَّة ينطلقون في جنبات الأرض مبشرين المظلومين بالخلاص

(من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام).

الحلقة السابقة هــنا

يتبع

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية، الدوحة، محرم 1400هـ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين