الرسالة الإسلاميَّة في مواجهة الفساد قديماً وحديثاً (3)

معركة تتجدد:

مع مطلع الهجمة الاستعماريَّة، قبل قرن ونصف وأكثر، تجدَّدت المعركة بين هذه التيارات الوافدة وبقايا القيم، التي استطاع العالم الإسلامي الاحتفاظ بها، على الرغم من مئات الكوارث والهزائم والزلازل.

وقد تفاوت أثر هذه الهجمة قوة وضعفاً وقرباً وعمقاً في أبعاد الشخصيَّة الإسلاميَّة. فمن ذهول أخلَّ بموازين التفكير لفترة طالت في بعض الأنحاء، وقَصُرَت في بعضها الآخر، إلى إفاقة ردَّت إليها بعض الوعي، فجعلت تقارن بين ما ترى وما تحسُّ، إلى يقظة توشك أن تثبت وجودها تلقاء الهجمات الجديدة التي يشنها عليها فريق من الشباب المضيع، يتكلم لغة المسلمين، وينتسب إلى معدنهم، ولكن التربية الغربية، التي نشأ عليها في محاضن أعداء الإسلام، قد جعلته يمرق منه كما يمرق السهم من الرمية، فهو يؤمن بكل ما هو مخالف لتراث أمته، ويسخر بكل عريق من فضائلها، وينكر عليها كل حق في أي من ميادين الحياة. وقد وزعه موجهوه على مختلف الجبهات من حلبات المعركة ودفعوا به إلى قمم الحكم، حتى بات هو الذي يوجِّه دفَّة الحياة في عالم الإسلام، فلا يقبل منه ما دون التخلي عن قيمة الربانيَّة جميعاً.

وقد وصفت هذه المعركة بالتجدُّد لا البدء، لأن الغزو الفكري للعقل الإسلامي قد بدأ فعلاً منذ مطلع النصف الثاني من القرن الهجري الأول، وكان ذلك عن طريق الدعوة السبئية، التي دسَّت في أخلاد الغوغاء فكرة تأليه الإنسان ممثلاً في شخص الخليفة الرابع، الذي قابل هذه الثائرة بما تستحقه من القسوة.

ثم ما لبث الفتح الإسلامي لبلاد فارس أن أطلق شرارة الاحتكاك بالأفكار المجوسية الفارسيَّة، وما اتصل بها من مؤثرات الوثنيَّة الهنديَّة، فإذا هناك أفَّاكون لم يرضهم بقاء الوحي على صفائه، فشرعوا في محاولاتهم تعكيره بما أثاروه من شبهات في قلوب الجهلة من الأعراب وأشباه الأعراب. وسرعان ما اتسع هذا الفتق إذ وجد من يقول بالرجعة ويستبدل بفكرة البعث إيماناً بالتناسخ الذي تزعمه الوثنيات الهندية.

ثم مضت الفتن في طريقها يؤجِّجُها الحقد اليهودي والدسائس المجوسيَّة، وتعمل عملها الخفي في تمزيق الصفوف بتمزيق الأفكار، التي جعلت تخضع المجتمع الإسلامي المركب من عشرات الألوان والمواريث.

وأخيراً جاءت الروافد الفلسفية من تراث يونان لتعمق الهوَّة، فتصعد الحوار إلى ضرب من الصراع الذي انتهى إلى العديد من المآسي. حتى بلغت الفتنة ذروتها على يد المعتزلة التي أرادت إخضاع الوحي للعقل، وحاولت إكراه المخالفين على الذوبان في نحلتها بكل الوسائل التي تملكها القوة المستبدّة، ولولا الهمم الخارقة التي جوبهت بها من قبل أولي العزم من أئمة المسلمين، لانتهى الإسلام إلى المصير نفسه الذي صارت إليه اليهودية على أيدي مؤلفي التلمود، والنصرانية بأيدي بولس وأشياعه من تلامذة الفلسفة الأفلوطينية من بعد.

على أنَّ هذا المسلسل من الصراع المستمر بين الإسلام والتيارات الغريبة قد سجَّل أكبر أحداثه منذ مطالع القرن الجاري وحتى اليوم، إذ ترك من الندوب والجراحات في كيان الإسلام ما يوازي جماع آثاره الماضية بل أكثر، وكان للتقدم التكنولوجي في الغرب ثقله في ذلك، لأن الغزاة قد استغلوا كل منجزاته المادية في حرب الإسلام، على حين لم يستطع العالم الإسلامي على امتداده النهوض على قدميه بعد في هذا الميدان فكان لتخلفه، وحاجته المستمرة إلى صناعة الغرب وعلومه المدنيَّة، أكبر الأثر في كل انتصار حققه الزحف الغربي خلال دياره.

النشء الضائع:

لقد أناخ الاستعمار الصليبي على صدر العالم الإسلامي عشرات بل مئات السنين، استطاع أثناءها تحطيم الكثير من طاقاته، واستلاب الكثير من خيراته، وزلزل الكثير من إمكاناته، ولكنه عجز عن إلحاق الهزيمة الحاسمة بمقوماته الروحيَّة، حتى إذا اضطرَّ إلى إخلاء مواقعه للمقاومة الإسلاميَّة، التي لم تخمد جذوتها قط غادرها بعد أن زرع أرجاءها ألغاماً لم تلبث أن شرعت تتفجر فتنسف وتدمر، وتعمل خلال جيل واحد ما لم يستطعه هذا الاستعمار خلال أجيال.

لقد أدرك أساطين الغزو الصليبي، ومن ورائه اليهوديَّة أنهم لابدَّ تاركون هذه المواقع ذات يوم، وأن إخلاءهم أرض الإسلام من وجودهم، أيَّاً كان هذا الوجود سيعطي الإسلام فرصة العودة إلى التاريخ كرَّة أخرى. فكان عليهم أن يتداركوا هذا الخطر من داخله بما يحول دون انطلاقه. وقد تمَّ لهم ما أرادوا إذ لم يزايلوا مراكزهم في قلب العالم الإسلامي إلا بعد أن أنشأوا على أعينهم ذلك الجيل الذي يريدون منه أن يتولى عنهم مهمة تثبت وجودهم إلى الأبد.

بدأ هذا النشء محدود العدد، ولكنه يملك من الإمكانات مثل الذي يملكه قاطع الطريق المسلح بالرشاشات والقذائف، فيها ما يستطيع السطو على القوافل الكبيرة، وإلقاء الرعب في الجموع الكثيرة.

فأبناء (ذوات) استطاعوا استهواءهم بالمناصب البراقة، ثم استجروا أبناءهم للتعلم في مدارسهم التي أعدت للهدف البعيد، ومنْ ثَمَّ ساقوهم إلى ديارهم، حيث أسلموهم إلى شياطين عرفوا كيف يغسلون أدمغتهم من معاني دينهم، ويشحنونها بما طاب لهم من سمومهم. فلما عادوا إلى بلادهم وجدوا الطريق مُعبَّدة لتسنُّم القيادة في خدمة أولئك السادة. حتى إذا حان موعد جلاء هؤلاء الدخلاء كان كل شيء مُعداً لمواصلة المسيرة الشيطانية في الطريق المرسوم.

وإلى جانب أولئك المنظمين آخرون اختارهم العدو لدعم سيطرته عن طريق القوات المسلحة، فما زالوا يتقلبون في ظلاله حتى انتهَوا إلى المراكز العلى، فلما كانت ساعة الصفر لم يجدوا صعوبة في الاستيلاء على كل شيء.

وعلى أيدي هؤلاء وأولئك انطلق الروح الشيطاني يمارس عملية التحويل والتغيير، التي تناولت كل مرفق من مرافق الحياة العامَّة، على صورة لم يُعهد مثلها من قبل. وها هو ذا العالم الإسلامي دون استثناء أي جزء منه، يواجه هذه العملية الشاملة، كما يواجه الإنسان الحريق يلتهم داره وفيها كلُّ عزيزٍ عليه.

لقد ألِف المسلمون طلائع هذه المحنة من قبل، أيام كان أحفاد الصليبية يجتاحون ديارهم بعد أن تحطَّم في أيديهم السلاح، ولكنهم لا ينسون أن أولئك كانوا ينفذون خطتهم في كثير من الأناة والحذر والتدرُّج، فلا ينزلون ضرباتهم في المواطن الشديدة الحساسية بطريقة مباشرة، بل يداورون ويحاورون حتى يتمكنوا من ضعضعة البناء قبل الانقضاض عليه.

أما وقد غاب وجههم وتوارى شخصهم فلا مانع أن يعدلوا أسلوبهم ويسلكوا إلى غايتهم كل سبيل دون تحفُّظ، ما دامت الأيدي التي أعدوها لهذه المهمة هي التي تتولى ذلك عنهم.

بالأمس كان الهجوم على الإسلام عن طريق التعليم الذي فرضه المستعمر بلغته، وعن طريق النماذج التي يضخمها من أبطاله القوميين، دون أن يتعرض للقيم الإسلاميَّة أو يسيء إلى رجال الإسلام، إلا في حدود ضيِّقة. وقد ترك للمسلمين أن يتعهَّدوا أجيالهم بالتوجيه الروحي والثقافي الذي يحفظ عليها أصالتها.

وعلى الرغم من إعماله قوانينه الوضعيَّة في سياسة بلادهم لم يمس كيانهم الاجتماعي في نطاق الأسرة، فتُرك لهم أن يتحاكموا إلى شريعة القرآن في كل ما يتصل بهذا الجانب، وهكذا ظلَّ البيت المسلم محافظاً على قواعده ومقوماته وشخصيته، ومن هذا البيت انطلق شباب الإسلام يناجزون العدو، ويواجهون أسلحته بصدورهم حتى أدركهم الله تعالى بالنصر الموعود، فطهَّروا أوطانهم من جنوده، بعد أن سقوا هذه الأوطان بالسيول من دماء الشهداء.

كذلك كان الأمر من قبل. أما بعد جلاء جيوش الاحتلال عن أرض الإسلام، فقد أوشك التعليم أن يستحيل إلى تجهيل، وقد طغت تيارات الفكر الدخيل على كل شيء حتى باتت هي المعيار الذي تعرف به الأقدار. والأسرة التي صمدت طويلاً في وجه الأعاصير قد شرعت تتداعى تحت وطأة الهجوم الذي تشنُّه وسائل الإعلام في الشارع والمدرسة والأندية، وتقتحم على الناس حتى مهاجعهم، لتجردهم من بقيَّة المقومات التي تعهدت صيانتهم من الذوبان في مراحل الحدثان كل هذه الأزمان.

لقد أوشكت معايير الإسلام أن تختفي في الكثير من جوانب المجتمع الإسلامي أمام هذا الغزو الكاسح، حتى إن البيت المحافظ ليفتح صدره في رضى لأزياء الأعداء وطرائقهم في المسكن والمعيشة والتبذل. وكأن هؤلاء المسلمين لا علاقة لهم بتحذير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين من مجاورة الكافرين ومخالطتهم لئلا تتسرب إليهم بعض أخلاقهم، حتى ليقول: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين) [أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي /15/].

وكأني بهم لا يقرؤون قول ربهم في تعليل ذلك التحذير ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 27].

قيمنا في خطر:

والتعليم والبيت والإعلام هي الأركان الثلاثة التي عليها ينهض بنيان الحضارة. ولا سبيل لبقاء حضارة فقدت أحد هذه الثلاثة. ولا شيء أكثر تعرضاً للفساد والخلل من هذه الثلاثة.

وقد رأيت فيما أسلفنا - مكانة البيت في معيار الغرب، حيث لا يتجاوز معنى الحظيرة يلتقي فيه الأفراد كما يلتقي القطيع على العلف والاستجمام، ليستأنف الكدح من بعد وهو أوفر قوة وأكثر إنتاجاً، حتى إذا استوفى الصغير منه سن الاستقلال غادر ذلك البيت إلى غير رجعة. وإذا استهلكت الشيخوخة قدرة الكبير نفي منه إلى المكان الذي يهيئه للقبر، على حين لا ينفك البيت المسلم - ولله الفضل والمنة - تلك الواحة الظليلة التي يجد فيها المسلم السكن، ويمارس في كنفها أفانين المودة والرحمة، فمنها يتلقى أول دروس الفضائل، وفيها يتدرب على أطهر وأنظف أساليب الحياة.

وكذلك لاحظت هناك الفرق بين عمليتي التعليم في معاييرنا ومعاييرهم. فبينا هو - في أسمى تصوراتهم - وسيلة الإنسان إلى إدراك ما حوله، وتحقيق رغباته في متاع الدنيا، يحتلُّ في قلب المسلم مكان القداسة، لأنه سبيله إلى التعامل النظيف مع الحياة والناس والأشياء، حتى يحقق في نفسه النموذج الأمثل للعدالة الممثلة في التوجيه الإلهي ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء: 135].

والبيت النظيف مدعوماً بالتعليم الدافق من منابع الوحي، لابدَّ أن يزوِّد المسلم بالحوافظ العاصمة من مختلف القواصم، فيكون طبقاً لما وصفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (كمثل النحلة أكلت طيباً ووضعت طيباً ووقعت فلم تكسر ولم تفسد) [من حديث طويل رواه الإمام أحمد ج 2 ص 199 عن عبد الله بن عمرو].

فهو صورة حية من قيم دينه، إذا تكلم أو علم أو كتب، فأمر بمعروف، ونهي عن منكر، ودعوة إلى حق، وإذا سمع اللغو أعرض عنه تنزها عن مجاراة السفهاء، وإذا أخذ في عمل أدَّى له حقَّه من الإتقان الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأبى في ذلك كله أن يتقبل فساداً، أو يكون سبباً إلى فساد.

على أنَّ هذه الصور المشرقة، وإن بقي الكثير من آثارها هنا وهناك، فلا مندوحة عن الإقرار بما اعتراها من تخلخل خلال المرحلة الراهنة من تاريخ الإسلام.

لقد بدأ هذا التخلخل أول الأمر في مناهج التعليم، إذ تولى أمرها أولئك الذين كفروا بالقيم الأصيلة فراحوا يتبنون كل نظرية عمل لها العدو أو دعا إليها، حتى ولو ثبت فسادها بشهادة أهلها.

وكانت الخطوة الأولى في هذه السبيل إقامة ضرب من التعليم الجديد منفصل عن تراثنا التعليمي المستمد من منابع الكتاب والسنة وتجارب السلف، وهكذا وجدت الأمة نفسها فجأة تلقاء هذه الثنائية المتباينة، مناهج تعد الفرد المناسب للخدمة الرسميَّة مقابل الرواتب المغرية، وأخرى مقطوعة عن الحياة العامَّة، تهيء للمجتمع متطوعة يُلقِّنون الناس المعلومات التي تصح بها عبادتهم دون أن يكون لهم حظ في راتب حكومي. وسرعان ما أثمر هذا الازدواج تمزقاً جديداً في وحدة الأمة تبعاً للتباين الفكري الذي يمثله كل من الفريقين.

الحلقة السابقة هـــنا

يتبع..

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية، الدوحة، محرم 1400هـ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين