السيرة بلغة الحب والشعر(2)

فصل: في فرضية حبه عليه الصلاة والسلام

أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث من كُن فيه وجد بهن طعم الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبداً لا يحبه الا الله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار).

وأخرج البخاري ومسلم والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده، وولده والناس اجمعين).

وللنسائي في رواية: (حتى أكون أحب إليه من ماله وأهله والناس أجمعين). وأخرج البخاري والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب اليه من ولده ووالده)

وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 24] لاحظ قوله تعالى: ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾.

وأخرج الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه وأحبوني لحب الله إياي... ) أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقال عنه حسن غريب.

من هذه النصوص ندرك أن محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فريضة وأن هذه المحبة ليست محبة عقلية فحسب بل هي محبة عاطفية، فالإنسان يحب ابنه وأهله ووالده ونفسه ليس مجرد حب عقلي بل هناك شيء وراء ذلك، والمسلم مطالب بأن يُحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من ماله وولده وأهله وعشيرته ومسكنه وتجارته ونفسه تلك فريضة من فرائض الله على الإنسان.

فصل: عندما ينقص الحب أو يضعف أو يخمد أو يموت

وفي الصحيح من حديث عبد الله بن هشام: قال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا نفسي فقال: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك. فقال عمر: فأنت الآن والله أحب إليَّ من نفسي. فقال: الآن يا عمر.

من هذا الحديث ندرك أن الإنسان إذا آنس من نفسه ضعف محبة، أو آنس غلبة محبة شيء آخر على حُبِّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعليه أن يداوي نفسه، وإذا كان هذا واجب كل مسلم فإن واجب العلماء والدعاة والمربين أن يفطنوا لهذا الأمر، وأن يعرفوا كيف يربونه ويوجدونه، وأن يوجدوا الأجواء التي تساعد عليه، ولعل أصل الاجتماع على الإنشاد وعلى ذكرى المولد كان الهدف منه مثل ذلك، ولذلك فطن ابن تيمية رحمه الله إلى ما يترتب على الاجتماع على المولد من إثارة لمثل هذه العواطف فاعتبر أهل ذلك من أجل ذلك مأجورين وإن كان أصل الاجتماع على المولد لم يفعله السلف (ولنا عودة إلى هذا الموضوع).

والمهم أن نعرف أن على كل مسلم أن يبذل جهداً لتحقيق هذه الفريضة وأن على الدعاة والمربين والعلماء أن يضعوا هذا نصب أعينهم لتبقى شعلة الحب في القلب متَّقدة.

فالإيمان تصديق يستتبع أشياء كثيرة بعضها الحب.

فصل: في محل الشعر والغناء في تكوين العواطف وما هو الحكم الشرعي في الشعر والغناء

إنه لا شيء يؤثّر في تشكيل العواطف مثل الشعر والغناء، لأنَّ النفس البشرية أكثر تفاعلاً مع الشعر وهي تستقبل الغناء باسترخاء فتدخل اليها المعاني وتتفاعل معها بلا مقاومة.

ومن ثَمَّ وجد الشعر في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ووجد الحداء والانشاد، وفي بعض الحالات سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الغناء من جُوَيْريات وسمع أصحابه كذلك.

وفي مسيرة المسلمين التاريخية فصل بين الغناء والانشاد فأصبح سماع الغناء وخاصَّة الذي يرافقه الموسيقى علماً على أهل المجون، وأصبح سماع الإنشاد علماً على ترخص أهل الفضل. واستعمل الإنشاد في كثير من دوائر الإسلاميين كوسيلة لتربية العواطف الخيِّرة، أو لتهييج عواطف الوجد الراقية.

وقد لخص الشيخ محمد الحامد رحمه الله أقوال الفقهاء في الغناء فقال: (أما ما يحل وما يحرم فإليك خلاصة ما قاله الفقهاء فيه:

يباح الغناء إن كان لبعث الهمة على العمل الثقيل أو الترويح النفس أثناء قطع المفاوز كالإرتجاز، فقد ارتجز النبي وأصحابه صلى الله عليه وآله وسلم في بناء المسجد وحفر الخندق، وكالحداء الذي يحدو به الأعراب إبلهم والشعر السالم من الفحش ووصف الخمر وحاناتها والتشبيب بامرأة حية معينة، والخالي أيضا من هجاء مسلم أو ذمي، فإنَّ الغناء بهذه المحترزات حرام.

فإن كان التشبيب بغير معيَّن جاز فقد أنشد كعب ابن زهير بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

وما سعاد غداة البين اذ رحلوا = إلا أغن غضيض الطرف مكحول

تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت = كأنه منهل بالراح معلول.

وقد سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً قصيدة حسان رضي الله عنه التي أولها:

تبلت فؤادك في المنام خريدة = تسقي الضجيع ببارد بسام

ومن هذا النوع المباح غناء النساء لينام الصغار.

ومنه الغزل البريء مما ذكرناه كالذي يقوله النساء في الأعراس ولا رجال يسمعونهن فقد أذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن يقلن:

أتينا كم أتيناكم= فحيانا وحياكم

ومنه الزهريات المجردة، مما فيه وصف الرياض والرياحين والأزهار والأنهار المطردة، فهذا كله جائز إن لم يقل على آلة لهو محرمة فإن قيل عليها كان محظوراً ولو وعظاً وحكماً لمكان الآلة لا لذات التغني بالمباح.

وإذا كان غناء المتغني في خلوته لدفع الوحشة عن نفسه ففيه اختلاف الفقهاء، أجازه فريق بغير كراهة لأنه ليس على سبيل اللهو احتجاجاً بما روى أنس بن مالك رضي الله عنه أنه دخل على أخيه البراء بن مالك وكان من زهاد الصحابة فوجده يتغنى، وكرهه آخرون وحملوا تغنيه على إنشاد الشعر المباح الذي فيه حكم ومواعظ وليس بمعناه المشهور، فهو كالذي في قوله عليه الصلاة والسلام (ليس منا من لم يتغن بالقرآن).

وقد قسَّم الغزالي السماع إلى محبوب كما اذا غلب على السامع حب الله تعالى ولقائه ليستخرج به أحوالاً من المكاشفات والملاطفات، وإلى مباح كأن كان عنده عشق مباح لزوجته أو لم يغلب عليه حب الله تعالى ولا الهوى، وإلى محرَّم بأن غلب عليه هوى محرم.

وخالفه سلطان العلماء الشيخ عز الدين بن عبد السلام فيمن لم يغلب عليه حب الله تعالى ولا الهوى فحكم بكراهة السماع في حقه.

وهذا التفصيل كله فيما إذا لم يكن الغناء لرجل من امرأة أجنبية إذ يحرم عليه سماعه منها لأن صوتها عورة. وقال بعض الفقهاء ليس بعورة، ولكن لا أثر لهذا الخلاف هنا لاتفاق الكل على وجوب غضه. نعم بحث بعضهم في أنَّه قد يكون له أثر في الصلاة إذا رفعت صوتها فقد تفسد صلاتها في قول القائلين إنَّه عورة، لكن نقل الرافعي في تقريراته على رد المحتار عن السندي إنَّه ليس بعورة على الصحيح وإلا فسدت صلاتهن بالجهر ولا قائل به.

قال رحمه الله (ذكر الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام في الأغاني الفاسقة حرام، أما إنشاد الأقوال الحماسية النافعة في إزكاء روح الدفع عن الدين والكيان

فحميد لا ضير فيه بعد أن يكون رجلاً لا امرأة ولا أمرد جميلاً (وبشرط أن لا تصحبه آلات اللهو المحرمة). اهـ كلام الشيخ الحامد رحمه الله.

يتبع....

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين