العسكرية الإسلامية تاريخ جيش النبي صلى الله عليه وآله وسلم (2)

إنَّ تاريخ جيش النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بدأ من أول نزول الوحي على المصطفى عليه الصلاة والسلام، فأعدَّ جنوده وقادته بالتدريج (أفراداً) في مكة المكرمة ببناء الإنسان المسلم، فلما هاجر إلى المدينة المنورة وشيَّد مسجده فيها، بدأت مرحلة جديدة من مراحل ذلك الجيش هي مرحلة تنظيم (الأفراد) قادة وجنوداً استعداداً للجهاد الأصغر، ولم تمض سنة كاملة على اكمال تشييد المسجد النبوي الشريف، إلا وأصبح جيش النبي صلى الله عليه وآله وسلم متكامل التنظيم، قليل العدد ولكنه كثير المدد، في قاعدة أمينة في المدينة المنورة، يرتكز عليها في جهاده، وينطلق منها لتحقيق أهدافه، ويعود إليها من غزواته، ويحشد فيها الرجال والمعدات.

واتخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مسجده النبوي الشريف مقراً للقيادة: يعد فيه الخطط العسكرية، ويعقد في رحابه مجالس الجهاد، ويهيء فيه المجاهدين الصادقين، ويصدر فيه القرارات والأوامر والوصايا، وينصت فيه إلى آراء أصحابه، لأن أمرهم بينهم شورى.

وكان يحشد أصحابه في المسجد، ليشحنهم بطاقات ماديَّة ومعنويَّة لا ينضب معينها، ويحرِّض المؤمنين على القتال، ويأمرهم بالثبات وينهاهم عن الفرار، ويحذِّرهم الفرقة والنزاع، ويأمرهم بالطاعة والنظام، ويشيع فيهم المحبة والألفة والتآخي.

وكانت الغزوات والسرايا تنطلق من المسجد، وتعقد الرايات والأعلام والبنود للمجاهدين في المسجد، وتوزع فيه الأسلحة والمعدات. وكان أصحابه يجتمعون في المسجد، حين يداهمهم الخطر، ويعود المجاهدون من الغزوات والسرايا إلى المسجد، وتضمد جروح المصابين في المسجد، ويتعلم المسلمون أحكام الجهاد في المسجد.

والفرق بين الغزوات والسرايا، أنَّ الغزوات يقودها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه، والسرايا يقودها قادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أصحابه الغرُّ الميامين.

أخرج الشيخان - واللفظ لمسلم - عن أنس رضي الله عنه، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أجود الناس وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قِبَل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم راجعاً وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة رضي الله عنه، يجري في عنقه السيف، وهو يقول: لم تراعوا.. لم تراعوا...)

سبق النبي صلى الله عليه وآله وسلم جماعة الاستطلاع إلى الصوت، وكان الصحابة رضي الله عنهم قد تحشدوا في المسجد انتظاراً لأوامر الرسول القائد عليه الصلاة والسلام وتوجيهاته.

لقد كان المسجد في أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم (مثابة) للمجاهدين.. قادة وجنوداً، والمثابة في المصطلحات العسكرية، هي: مكان اجتماع القائد برجاله لإصدار الأوامر إليهم ومكان استلام الأوامر، وكان المنادي ينادي حين يتعرض المسلمون لخطر داخلي أو خارجي: الصلاة جامعة.. الصلاة جامعة.. فيتقاطر المجاهدون إلى المسجد زرافات ووحداناً تلبية للنداء، عليهم السلاح كاملاً، ويجهز لهم من وراءهم الخيل والدواب والإبل أو يجهزونها لأنفسهم ويربطونها خارج المسجد، وتُعد لهم الأمتعة اللازمة والتجهيزات، ليصاولوا العدو فوراً ويقضوا على الخطر الداهم، تنفيذاً لخطة قائد واحد، تحقيقاً لغاية واحدة، هي الدفاع عن الإسلام والمسلمين.

-4-

وقد استطاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بناء الإنسان المسلم على ثلاث دعائم: العقيدة الراسخة، والقدوة الحسنة، واختيار الرجل المناسب للعمل المناسب.

أما العقيدة الإسلامية، فهي عقيدة منشئة بنَّاءة، صالحة لكل زمان ومكان، لأنها تهتم بالمادة اهتمامها بالروح، وتُعنى بالحياة الدنيا عنايتها بالدار الآخرة، وتغرس الضبط والنظام في القلوب والنفوس معاً، وتلتزم بالخُلق الكريم والمعاملة الحسنة والمثل العليا الأخرى، وتأمر بالشجاعة والثبات، وتنهى عن الجبن والفرار.

أما القدوة الحسنة، فقد كان خُلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن، وكأن تعاليم الإسلام تمشي على الارض بشراً سوياً، لا يأمر بشيء إلا طبَّقه على نفسه أقوى ما يكون التطبيق، ولا ينهى عن شيء إلا ابتعد عنه أشد البعد، وكان مثالاً عالياً للشجاعة والاقدام، وكان كالقمة العالية في عمله ومعاملته بالنسبة لأصحابه وكلهم قمم عالية، وكان يؤثر رجاله بالخير والأمن ويستأثر دونهم بالخطر والمشقة، وكان مثالاً شخصياً لأصحابه في كل عمل يبتغي به وجه الله والدار الآخرة، فكان قرنه خير القرون، لأن تأثيره المباشر في أصحابه كان عظيماً.

أما اختياره الرجل المناسب للعمل المناسب، فقد كان مثالاً رائعاً حقاً في الالتزام بالعمل الصالح والايمان العميق والخدمة المثمرة والكفاية العالية والماضي الناصع في اختيار قادته وعاله وقضاته وجباته.

وكل من قرأ سير عظاء الأمم في مختلف العصور، وفكر كثيراً في طرق اختيارهم للذين يوكلون إليهم المناصب العامة، لا يمكن أن يجدوهم شيئاً مذكوراً بالنسبة لأسلوب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اختيار الذين يوكل إليهم المناصب العامة عسكرية أو مدنية.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من ولي من أمر المسلمين شيئاً، فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه، فقد خان الله ورسوله) وفي رواية (من قلد رجلا عملاً على عصابة(1) وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين) رواه الحاكم في صحيحه (2).

لقد دلَّت سُنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أن الولاية أمانة يجب أداؤها. قال لأبي ذر الغفاري رضي الله عنه في الامارة: (إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها) رواه مسلم(3).

وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اذا ضُيِّعت الأمانة، فانتظر الساعة، قيل: يا رسول الله وما إضاعتها؟! قال: اذا وُسِّد(4) الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة)(5).

لم يكن عليه الصلاة والسلام يقدم رجلا على رجل إلا بالحق، وكان يختار الرجل المناسب للعمل الذي يناسبه، فولَّى قيادة الجيش صاحب الطبع الموهوب والعلم المكتسب والخبرة العملية، لذلك انتصر قادته في السرايا التي تولوا قيادتها في حياته المباركة، فلما رحل إلى لقاء الله تعالى، أصبح قادته أبرز قادة الفتح الإسلامي لأنهم من خريجي مدرسته في اختيار الرجال.

قال ابن تيمية رضي الله عنه في حق السلطان الذي يخالف عن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اختيار الرجل المناسب للعمل المناسب: فإن عَدَل عن الأحق الأصح إلى غيره، لأجل قرابة بينهما، أو ولاء عتاقة أو صداقة، أو موافقة في بلد أو مذهب أو طريقة أو جنس، كالعربية والفارسية والتركية والرومية، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة، أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن (6) في قلبه على الأحق، أو عداوة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، ودخل فيما نهى عنه في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 27] ثم قال سبحانه: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: 28].

يتبع...

الحلقة السابقة هـــنا

(1) العصابة : الجماعة من الناس .

(2) السياسة الشرعية للإمام ابن تيمية : 10.

(3) السياسة الشرعية 13.

(4) وسد الأمر إلى فلان: أسند إليه القيام بتصريفه.

(5) السياسة الشرعية 13.

(6) ضغن : حقد.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين