تاريخ جيش النبي صلى الله عليه وآله وسلم (1)

-1-

تتلخص سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحياته المباركة في: التوحيد والجهاد.

لقد وحد النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذ مبعثه في مكة المكرمة إلى هجرته إلى المدينة المنورة من أجل الجهاد: وحد الأفكار بالتوحيد، ووحد الصفوف بالتوحيد، ووحد الأهداف بالتوحيد، وجمع الشمل بالتوحيد، وبنى الإنسان بالتوحيد، وأزال نعرات الجاهلية بالتوحيد، وغرس التضحية والفداء بالتوحيد، وجعل المسلمين كافة كالبناء المرصوص بالتوحيد.

لقد كانت حياته المباركة في مكة المكرمة عبارة عن توحيد من أجل الجهاد. وجاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذ هجرته إلى المدينة المنورة من مكة المكرمة إلى أن التحق بالرفيق الأعلى من أجل التوحيد، فكان جهاده لتبليغ الدعوة إلى الناس كافة، ولتكون كلمة الله هي العليا في الأرض.

وكانت همته العالية منصرفة بكل طاقاتها الماديَّة والمعنويَّة، بتأييد من الله تعالى وتوفيقه، إلى غاية سامية واضحة المعالم هي: (بناء الإنسان المسلم)، ليكون قدوة للآخرين في السلم والحرب، أخلاقاً وسلوكاً، ومعاملة ومنهجاً، وأسلوباً للحياة الدنيا والآخرة معاً.

وكان سبيله إلى بناء الإنسان المسلم، هو التوحيد من أجل الجهاد، والجهاد من أجل التوحيد.

بالتوحيد، أشاع الانسجام الفكري لأول مرة بين المسلمين في التاريخ، وهذا الانسجام جعل التعاون الوثيق بينهم ممكناً، إذ لا تعاون وثيقاً مؤثراً بدون انسجام فكري يذيب الاختلافات ويقضي على النزعات ويحمي من الأهواء.

كما أن هذا الانسجام جعل الجهاد ممكناً أيضاً، يقود إلى النصر ويؤدي إلى الظفر، إذ أن التعاون الوثيق والجهاد المقدس الذي تستثيره العقيدة الراسخة الواحدة، جعل من المسلمين قوة لا تقهر أبداً، فوحّد الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام في أيامه شبه الجزيرة العربية كلها تحت لواء الإسلام، ولا نعرف لها وحدة بأي شكل من الأشكال وبأية صورة من الصور قبله أبداً، فكان جيش النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أنشأه وأرسى دعائمه خلال عشر سنوات من عمره المبارك، هو الذي حمل رايات المسلمين شرقاً وغرباً من بعده، وتحمل أعباء الفتح الإسلامي العظيم الذي شمل خلال تسع وثمانين عاما (۱۱ هـ -100 هـ) من الصين شرقاً إلى قلب فرنسا غرباً، ومن سيبيريا شمالاً إلى المحيط جنوباً، فكان هذا الفتح فتحاً مستداماً، إلا عن الأندلس الذي انحسر عنها انحساراً سياسيَّاً وعسكريَّاً، وبقي ثابتاً راسخاً فيها فكريا وثقافيا واجتماعياً حتى اليوم.

-2 -

وتاريخ جيش النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يبدأ من يوم مبعثه عليه الصلاة والسلام، فقد عمل جاهداً في ميدان بناء الإنسان المسلم، الذي هو المجاهد المسلم قائداً وجندياً، ولكن تاريخه في التطبيق العملي للجهاد عشر سنوات فقط بدأت في المدينة المنورة.

وحين هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة وأمر أصحابه بالهجرة إليها، بدأ تنظيم الجيش الإسلامي وتسليحه وتجهيزه وقيادته (عملياً) جيشاً نظامياً له كيان واحد، وهدف واحد، وفكر واحد، وقيادة واحدة.

ومعنى الهجرة إلى المدينة المنورة، من الناحية العسكريَّة، هو حشد المجاهدين في قاعدة أمينة، تمهيداً للنهوض بأعباء الجهاد.

وبادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة، بعد استقراره في المدينة المنورة، إلى اختيار مكان مناسب لبناء مسجده، وبدأ ببنائه باللبِن، وشارك أصحابه في حمل اللبِنات والأحجار على كواهلهم، فتمَّ للمسلمين بناء المسجد فراشه الرمل والحصى، وسقفه الجريد، وأعمدته الجذوع(1).

وتم ببناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة المنورة، بناء: الثكنة الأولى لجيش النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والثكنة الأولى في الإسلام.

وفي مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أخذ بناء الإنسان المسلم يؤتي أكله مرتين: غير القادرين على الجهاد من أولاد المسلمين الصغار ليكونوا جيش المستقبل وجنود الفتح الإسلامي وقادته، والقادرون على الجهاد من شباب المسلمين وكهولهم وشيوخهم أيضاً ليكونوا جيش الحاضر والمستقبل وجنود الفتح الإسلامي وقادته، والقادرون وغير القادرين على الجهاد من المسلمين يحقنون في المسجد النبوي الشريف بمصل الجهاد مادياً ومعنوياً، ليصبح الإنسان المسلم مجاهداً من الطراز الأول بماله ونفسه في سبيل الله تعالى.

ولم يؤذن للمسلمين بالقتال وهو الجهاد الأصغر قبل الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، بالرغم مما تحملوه من تعذيب وتشريد وعناء واضطهاد. وفي مكة المكرمة اجتمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسبعين رجلاً من مسلمي المدينة المنورة ليلا ًفي العقبة(2) في بيعة العقبة الثانية، فاستمع أحد المشركين وهو يتجول بين مضارب الخيام ومنازل الحجيج ما دار في اجتماع (العقبة) من حديث بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأولئك المسلمين القادمين من المدينة المنورة، فصرخ ينذر أهل مكة بأعلى صوته: (إن محمدا والصباء(3) معه، قد اجتمعوا على حربكم).

ولم يكترث مسلمو المدينة من أهل العقبة الثانية بانكشاف أمرهم، بل أرادوا مهاجمة المشركين من قريش وغيرهم بأسيافهم، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم بالتفرق والعودة إلى رحالهم، إذ لم يأذن الله تعالى لهم بعد بالقتال (4).

وبعد الهجرة إلى المدينة المنورة، نزلت أول آية من آيات القتال: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: 39]، ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40] ، فخرج الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام غازياً في شهر (صفر) على رأس اثني عشر شهراً من مقدمة إلى المدينة المنورة، وبذلك بدأ الجهاد الأصغر عمليا في الإسلام(5).

-3-

لقد قضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم اثنتي عشرة سنة من عمره المبارك في مكة المكرمة وسنة واحدة في المدينة المنورة بعد هجرته إليها يعمل جاهداً في ميدان بناء الإنسان المسلم، منفذا رسالة الله في مجال الجهاد الأكبر.

وقضى عشر سنوات في المدينة من عمره المبارك، من بداية الجهاد الأصغر حتى التحق بالرفيق الأعلى منفذاً رسالة الله سبحانه في مجال الجهاد الأكبر وهو بناء الإنسان المسلم، وفي مجال الجهاد الأصغر، وهو الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس لإعلاء كلمة الله تعالى.

وقد بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأربعين من عمره المبارك، والتحق بالرفيق الأعلى عن ثلاث وستين سنة، فكان نبياً ورسولاً، ومعلماً ورائداً وقدوة وأسوة ثلاثاً وعشرين سنة، وكان نبياً ورسولاً ومعلماً ورائداً، وزعيماً وقائداً عشر سنوات، بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة، خلال عمره المبارك من مبعثه إلى وفاته في مجالين حيويين: مجال الجهاد الأصغر، ومجال الجهاد الأكبر، فعلمنا أن الجهاد الأكبر هو الأصل، ولكن هذا الجهاد لا يبلغ غايته ويحقق أهدافه ويصان ويحمي إلا بالجهاد الأصغر، فلا حق بغير قوة، ولا قوة بغير مجاهدين صادقين، يجاهدون أنفسهم أولاً بالعقيدة الراسخة، لينتصروا على أعداء الإسلام بالأنفس الطاهرة ذات الأخلاق المحاربة، لا بضخامة العَدَد والعُدَد، إذ لم ينتصر المسلمون على أعدائهم بالتفوق العَدَدي والعُدَدي في أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا في أيام الفتح الإسلامي العظيم، بل انتصروا بتطبيق تعاليم الدين الحنيف نصاً وروحاً، فلا بدلوا ما بأنفسهم وتغلبت عليهم نفوسهم الأمارة بالسوء، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.، أصبحت انتصاراتهم هزائم، ولم يفلحوا أبداً.

يتبع...

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

(1) انظر التفاصيل في طبقات ابن سعد (1/239 – 240) وسيرة ابن هشام (1/114) والطبري (2/297) وابن الأثير (2/109) والبداية والنهاية (21412) وابن خلدون (2/740 – 741) ومختصر تاريخ البشر (1/127) وعيون الأثر (1/195) وخلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى (146) ومختصر كتاب البلدان لابن الفقيه (24).

(2) العقبة :الجبل الطويل يعرض للطريق فيأخذ فيه وهو طويل صعب إلى صعود الجبل ، وأما العقبة التي بويع فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهي عقبة بين منى ومكة ، بينها وبين مكة نحو ميلين ، وعندها مسجد ومنها ترمى جمرة العقبة انظر التفاصيل في معجم البلدان (6/192 – 193) والمشترك وضعاً والمتفق ضعفاً (311) .

(3) الصباء : جمع صابئ ،وصبأ الرجل ترك دينه ،وكان المشركون يقولون لمن أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصابئ.

(4) انظر التفاصيل في سيرة ابن هشام (2/54 – 57).

(5) سيرة ابن هشام (2/223) والدرر (103) وانظر كتابنا : الرسول القائد (27 – 31).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين