فلسفة الإسلام في الصراحة (2)

الصراحة منهج الصحابة رضوان الله عليهم رجالا ونساء

لقد ربّى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على الصراحة إلى حدَّ الجُرأة وقد كان هذا واضحا عند جميع الصحابة، وخاصّة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث لم يدع في نفسه شيئا إلا وأظهره وهذه شجاعة قلَّما توجد في أحد، وكان أكثر ما أظهرها على المنافقين، فمن ذلك مواقفه من عبد الله بني أبي بن سلول وكان زعيما للمنافقين وخاصة يوم موته، قال عمر: (دُعِيَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا: كَذَا وَكَذَا؟ أُعَدِّدُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ» فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ، قَالَ: «إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ...قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمْ يَمْكُثْ إِلَّا يَسِيرًا، حَتَّى نَزَلَتِ الآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَة: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] إِلَى قَوْلِهِ {وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84] قَالَ: فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ)[11].

فمع يقين عمر رضي الله عنه المطلق بصواب رأي النبي عليه الصلاة والسلام فيما يفعل، وأنه إنْ لم يوفَّق للصواب صحّح الوحي له توجهه، لم يتردد في إظهار ما في خاطره.

وعادة تكون المرأة أقلَّ جرأة من الرجل لِما جُبلت عليه من رقِّة وغلبة حياء، لقلة المخالطة المطلوبة شرعا إلا في حالات الضرورة، ومع هذا نرى عند الصحابيات الجليلات حالات من الصرَّاحة غير المعهودة في واقعنا، من ذلك أنه (جاءت امرأة رفاعة القرظي النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: كنت عند رفاعة، فطلقني، فأبتَّ طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فقال: ((أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك))[12]. ولنقف على قولها (مثل الهدبة) أي كالهدبة ضعفا واسترخاء، أرادت بذلك الضعف الجنسي الذي كان عنده، وهي بذلك تشير إلى أنَّ الاستمتاع هو حقٌّ من حقوقها، والمرأة عادة لا تقول مثل هذا الكلام إلا في مجتمع سليم نظيف اعتاد الصراحة لا يحمل كلامها الصريح على غير محمله، فلو أنَّ هذه المرأة كانت في بعض مجتمعاتنا المسلمة لاتُّهمت من قِبَل البعض من رجالٍ أو نساء بقلة الحياء ولَصَار حديثها على الألسن. فهي رضي الله عنها تعلم ما تقول وتقصده.

وكلُّ هذا مرتبط بالصدق في القول وعدم الافتراء وكثيرا ما نسمع في مجتمعاتنا - وخاصَّة في دوائر القضاء - حينما يكون هناك فراق بين الزوجين؛ افتراءات عجيبة بين الطرفين قد تصل أحيانا إلى اتِّهام المرأة بعرضها قصد التَّخلُّص منها والوصول إلى كامل المهر الذي دفعه الزوج.

ليست هذه الحالة الوحيدة التي كانت سائدة في مجتمع النبي الذي علَّم أصحابه على النقاء والطهر والصراحة، إذ كانت المرأة تأتي إلى النبي تسأله عن تفاصيل دقيقة متعلقة بالحيض، أو ما تراه في منامها، وفي هذا تقول السيدة عائشة رضوان الله عليها: (رَحِمَ اللَّهُ نِسَاءَ الْأَنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَسْأَلْنَ عَنْ أَمْرِ دِينِهِنَّ)[13].

بالبناء على ما سبق نرى أنه من الواجب علينا أنْ نعلِّم أنفسنا الصراحة ونعتاد قبولها من الناس، وقد رأيتُ في بعض مجتمعاتنا شيئا من الغمز بمن يُصرِّح أو يُفهم منه ذلك عندما تخالف صراحته اختياراتنا وآراءنا، ومن ذلك موقف المجتمع من المرأة التي تُوفي عنها زوجها وترغب بالزواج، فالبعض في مجتمعاتنا وخاصة من أقرباء الأرملة، يرى بأنَّ عليها ألا تتزوج أو تومئ بذلك. وكأنَّ عليها أنْ تموت وتُميت مشاعرها وغرائزها مع موت زوجها، وستجد هذا الأمر غريبا كُلَّ الغرابة عندما تُقارن نظرة المجتمع إلى الأرملة؛ بحال الرجل الأرمل الذي تُتَوفَّى امرأته، فلا تمضي بضعة أيام حتى تجد من أقاربه من يخطب له، ولم يجفَّ بعد التراب فوق قبرها، وهذا الذي يخطب له قد يعتقد أن من العار أنْ تتزوج أخته أو قريبته بعد بضع سنوات من وفاة زوجها.

يتبع

المصدر: العدد العاشر من مجلة "مقاربات" الصادرة عن المجلس الإسلامي السوري

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين