فلسفة الإسلام في الصراحة (1)

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

ملخَّص الدِّراسة

تأتي أهمية الحديث عن الصراحة كقيمة عليا من القيم الأخلاقية الاجتماعية التي ينبغي أنْ يتحلّى بها الإنسان أيَّا كان معتقده، وتزداد منزلة هذه القيمة عندما يكون صاحبها مسلما، فبها يكون واضحا جليا في باطنه وظاهره، وقد أدّى تصارع المصالح والارتماء في أحضان الاستهلاك والتوسُّع فيه إلى تراجع هذه القيمة، بل وغيابها مع أنَّ الدِّين الإسلامي عقيدة وفروعا يقوم عليها.

نظرا إلى ما سبق جاءت الدِّراسة تأكيدا على أهميتها العقدية والأخلاقية والاجتماعية، وقد قامت هذه الدِّراسة على الاستقراء الجزئي لنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية ومواقف الصحابة رضي الله عنهم من هذه القيمة.

التعريف اللغوي والاصطلاحي

يرجع مفهوم الصراحة لغويا إلى حروف الصاد والراء والحاء، فإذا اجتمعت هذه الحروف في لسان العرب فإنها تدل على معنيين:

- الأول: ظهور الشيء وبروزه، من ذلك قولهم هذا شيء صريح يعني بارز وواضح.

- والمعنى الثاني: هو الخالص من كل شيء اختلط به، فالصريح من اللبن هو الذي تميز عن الغش ولم يختلط به رغوة أو ماء.

فالمعنى المحوري للصراحة هو انكشاف الشيء وظهوره قويًّا واضحًا لخلوصه مما يغشاه، كالصرح الموصوف لا تحجبه أبنية حوله لطوله في السماء، واللبن الصريح هو الذاهب الرغوة، والصرح هو البناء الطويل في السماء قال الله تعالى حكاية عن طلب فرعون من هامان: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر: 36] يعني بناء عاليا[1].

فالظهور والبروز، والمعنى الآخر عدم الاختلاط؛ متقاربان وموجودان في الكلام الصريح، أوّلا لوضوحه وبروزه، وثانيا لعدم تداخله بغيره من التِواء أو نفاق.

فالصراحة في القول هي: قول الحقيقة كما هي، ورؤية الأمور على طبيعتها بعيدا عن المبالغة في إظهار الشي وتضخيمه أو في ستره وكتمانه. وهذا المعنى قريب من معنى النصح، لأنّ من معاني النصح أو النصيحة في اللغة الشيء الخالص الذي لم يخالطه شيء[2]، وهذا المعنى هو ذاته معنى الصراحة، والنصيحة هي: (تنبيه للمخاطب إلى ما ينفعه ويدفع عنه الضر، وضده الغش)[3].

وتعريف الصريح عند الأصوليين لا يخرج عن هذا المعنى؛ إذ هو: (كل لفظ مكشوف المعنى والمراد، حقيقة كان أو مجازا يقال فلان صرح بكذا أي أظهر ما في قلبه لغيره من محبوب أو مكروه)[4].

الصراحة في القرآن الكريم

لم ترد كلمة الصراحة في القرآن الكريم بهذا اللفظ، ولكن ورد ما يدل عليها في نصوص كثيرة، منها الصراحة في بيان العقيدة والأحكام، والتعامل مع اليهود والنصارى والمشركين وفي بيان عقائدهم، وكذلك الآيات التي فيها عتاب لطيف من الله تعالى لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ومما يؤسف له أنّ بعضنا يتأذى أحيانا من الآخرين ولا يصرح لهم، وهذا ليس صحيحًا، فلنجعل من القرآن قدوة لنا في تعليمنا الصراحة عندما يقتضي الموقف ذلك، وحسبنا من القرآن الكريم فيما يتعلق بهذه المسألة- التي لها بُعد اجتماعي واضح- قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53]، إذ نلحظ في هذه الآية خطابا صريحا لا مجاملة فيه.

من أسباب نزول هذه الآية أنه لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ابنة جحش صنع طعاما بخبز ولحم ودعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلمّا شعر بعضهم بأن النبي يريد منهم القيام ولكن استحى وظهرت علامات على ذلك قام بعضهم وبقي البعض جالسا، فأخذ النبي يدخل ثم يخرج إيماء لهم بالخروج من غير تصريح فنزلت الآيات تأديبا وتعليما لهم[5].

ولنلحظ قوله سبحانه وتعالى: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا} والمعنى: لا تحضروا البيوت للطعام قبل تهيئة الطعام للتناول، فتقعدوا تنتظرون نضجه إلا إنْ أذِن لكم، فإن أذن لكم فادخلوا فإذا أكلتم فلا حاجة لبقائكم وجلوسكم بعد الطعام لأنّ النبي يكون مشغولا وعنده ظروفه الخاصة، وهذه الحال بالنسبة لمجتمعاتنا تتقيد بالعرف، فقد يقتضي العرف ألا يجلس أو يجلس قليلا، وبجميع الأحوال لا ينبغي أن نثقل على صاحب البيت.

وهذا خُلُقٌ عالٍ يتعين علينا أن نتربى عليه، فكثيرا ما تجد اليوم من بعض الناس إذا دخل بيت غيره لطعامٍ أو زيارة مريض؛ ينسى نفسه فيطيل الجلوس حتى يثقل على صاحب البيت، وهو لا يشعر.

الصراحة في السنة النبوية

عاش النبي عليه الصلاة والسلام حياة مملوءة بالوضوح والصراحة في علاقاته مع غيره وفي كلامه وأحكامه، من ذلك أنه جاءت قُرَيْشٌ إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَقَالُوا: (يَا أَبَا طَالِبٍ! إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ يُؤْذِينَا فِي نَادِينَا، وَفِي مَسْجِدِنَا، فَانْهَهُ عَنْ أَذَانَا)، فَقَالَ: يَا عَقِيلُ! (ائْتِنِي بِمُحَمَّدٍ) فَذَهَبْتُ فَأَتَيْتُهُ بِهِ، فَقَالَ: (يَا ابْنَ أَخِي! إِنَّ بَنِي عَمِّكَ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تُؤْذِيهِمْ، فَانْتَهِ عَنْ ذَلِكَ)، قَالَ: فَحَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ. فَقَالَ: ((أَتَرَوْنَ هَذِهِ الشَّمْسَ؟)) قَالُوا: (نَعَمْ). قَالَ: ((مَا أَنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ لَكُمْ ذَلِكَ مِنْ أَنْ تُشْعِلُوا مِنْهَا شُعْلَةً))، قَالَ: فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: (مَا كَذَبَنَا ابْنُ أَخِي. فَارْجِعُوا)[6]، صراحة واضحة لا تعرف المجاملة أو الخوف.

ولكن إذا لم تكن هناك حاجة إلى الصراحة فلا داعي للفضيحة، يعني إذا كان الطرف الآخر يفهم عليك وكان المقصد أنْ ينتفع الناس فلا حاجة للتخصيص والتشهير بين الناس فإنه أذى، وهذا منهج سار عليه النبي عليه الصلاة والسلام فكثيرا ما كان يقول: ((مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا، لَيْسَت فِي كِتَابِ اللَّهِ))[7]،أو ((مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلاَتِهِمْ))[8]، و ((مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً))[9].

لماذا لم يصرح النبي بالأسماء هنا؟ لأنّ ذات الشخص لا تعنيه، فالمسألة ليست تحاكما بين طرفين، وليس فيها ادِّعاء أو شكاية من طرف على طرف آخر، بل المقصود بيان الحكم. فالتصريح يكون فضيحة للشخص المرتكب؛ إذ ربّما يحمله ذلك على عدم قبول النصح، أو ارتكاب ما هو أشدّ من ذلك، فينبغي لمن ينهى عن المنكر أن يسلك مسلك الستر ما أمكن، فإن ذلك أدعى لقبول قوله، والانتفاع بإرشاده، فكثير ممن يتصدّى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسلكون هذا المسلك، فيُفسدون أكثر مما يُصلحون، وقد قال اللَّه تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125][10].

يتبع

المصدر: العدد العاشر من مجلة "مقاربات" الصادرة عن المجلس الإسلامي السوري

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين