أحاديث الصيام شرحها، وفقهها -2-

5-الإخلاص في الصوم:

أ-الصيام إيماناً واحتساباً:

-عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ قام ليلةَ القَدْرِ إيماناً واحْتِسَاباً غُفِرَ له ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، ومَنْ صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (1). زاد أحمد عن أبي سَلَمَةَ: «وما تأخّرَ».

لقد اشترط النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في قيام الليل وصيام النهار الإيمان والاحتساب، والإيمان هو التصديق بما وعد الله له من الثواب، والاحتساب أن يكون مقبلا عليه خاشعاً لله تعالى، فإذا أراد العبد أن ينال الثواب والفضائل التي ذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فينبغي أن يعرف حرمة الشهر ويحفظ فيه لسانه من الكذب والغيبة والفصول، ويحفظ جوارحه عن الخطايا والزلل، ويحفظ قلبه عن الحسد وعداوة المسلمين، فإذا فعل ذلك فينبغي أن يكون خائفا أن الله يقبل منه أو لا يقبل.

وقد ذُكِرَ عن بعض الحكماء أنه كان يقول: إلهي قد ضَمِنتَ لصاحب المصيبة في الدنيا الأجر وفي الآخرة الثواب، إلهي إن رددتَ علينا هذا الصَّوم فلا تحرمنا أجر المصيبة يا معروفاً بالمعروف".

ب-والنِّيَّةُ: شَرطٌ في وقوعهِ قربةً. والمراد بالإيمان: الاعتقاد بِحَقِّ فرضيّة صومه، وبالاحتساب: طلب الثّواب من الله تعالى.

وقال الخَطّابيّ: احتساباً أي عزيمة، وهو أن يصومَه على معنى الرّغبة في ثوابه طَيِّبَةً نفسُهُ بذلك غير مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيّامه.

ج-من مظاهر الإخلاص

1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:” قال اللهُ: كلُّ عملِ ابنِ آدمَ لهُ إلا الصيامَ، فإنَّه لي وأنا أُجْزي بهِ “رواه البخاري «يترُكُ طعامَه وشَرَابَه وشَهْوَته مِنْ أَجْلِي» (2)

ووَقع في الموطأ: «وإنّما يَذَرُ شَهْوَتَه...» ولم يصرِّح بنسبته إلى الله للعلم به وعدم الإشكال فيه. وقد روى أحمد هذا الحديث بعد قوله من ريح المسك: «يقول الله عزّ وجلّ: إنّما يَدَعُ شهوَتَه... إلخ».

وقد يُفْهَم من الإتيان بصيغة الحصر في قوله: «إنّما يَذَرُ... إلخ» التّنبيه على الجهة التي بها يستحقّ الصّائم ذلك وهو الإخلاص الخاصّ به، حتّى لو كان ترك المذكورات لغرضٍ آخَر كالتُّخَمَةِ لا يَحْصُل للصّائم الفضل المذكور.

لكنّ المدار في هذه الأشياء على الدّاعي القويّ الذي يدور معه الفعل وُجُوداً وعَدَماً، ولا شكّ أنّ مَنْ لم يعرض في خاطره شهوة شيء من الأشياء طول نهاره إلى أن أَفطر ليس هو في الفضل كمن عرض له ذلك فجاهد نفسه في تركه.

والمراد بالشّهوة في الحديث شهوة الجماع لعطفها على الطّعام والشّراب، ويُحتَمَل أن يكون من العام بعد الخاص. وفي رواية ابن خزيمة من طريق سهيل عن أبي صالح عن أبيه: «يَدَعُ الطّعامَ والشّراب مِنْ أجلي، ويَدَعُ لذّته مِنْ أجلي». وفي رواية أبي قُرَّة من هذا الوجه: «يَدَعُ امرأته وشهوته وطعامه وشرابه من أجلي». وأَصْرَحُ من ذلك ما وقع عند الحافظ سَمُّويَةَ في فوائده من طريق المُسَيِّب بن رافع عن أبي صالح: «يترُكُ شهوته من الطّعام والشّراب والجماع من أجلي» (3)

ب- «الصِّيام لي وأنا أجزي به»

وقد اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: «الصّيام لي وأنا أجزي به» مع أنّ الأعمال كلّها له وهو الذي يجزي بها على أقوال:

أحدها: أنّ الصّوم لا يقع فيه الرِّياء كما يقع في غيره، حكاهُ المازِرِيّ ونقله عياض عن أبي عُبَيْد، ولفظ أبي عُبَيْد في غريبه: قد علمنا أنّ أعمال البرّ كُلّها لله وهو الذي يجزي بها، فنرى والله أعلم أنّه إنّما خَصَّ الصّيام لأنّه ليس يظهر من ابن آدم بفعله وإنّما هو شيء في القلب.

ويؤيِّد هذا التّأويل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ليس في الصّيام رياء» (4)

عن الزُّهريِّ مرسلاً قال: وذلك لأنّ الأعمال لا تكون إلّا بالحركاتِ، إلّا الصّوم فإنّما هو بالنيّة التي تخفَى عن النّاس.

وقال القرطبيّ: لَمّا كانتْ الأعمال يَدْخُلها الرِّياء والصَّوم لا يطّلع عليه بمجرّد فعله إلّا الله فأضافه الله إلى نفسه، ولهذا قال في الحديث: «يَدَعُ شَهْوَتَه من أَجلي».

وقال ابن الجوزيّ: جميع العبادات تظهر بفعلها وقلّ أن يسلم ما يظهر مِن شَوْبٍ، بخلاف الصّوم. وارتضى هذا الجواب المازِرِيّ وقرّره القرطُبيّ بأنّ أعمال بني آدم لَما أمكن دخول الرِّياء فيها أُضيفَتْ إليهم، بخلاف الصّوم فإنّ حال المُمْسِك شِبَعاً مثل حالِ المُمْسِك تَقَرُّباً يعني في الصُّورة الظّاهرة.

مَعنى النَّفِي في قوله: «لا رِياء في الصّوم» أنّه لا يدخلهُ الرِّياء بفعلهِ، وإنْ كان قد يدخُلُهُ الرِّياء بالقول كمَن يصوم ثمّ يُخبر بأنّه صَائم فقد يدخله الرِّياء من هذه الحيثيّة، فدخول الرِّياء في الصّوم إنَّما يقع من جهة الإخبار، بخلاف بقيّة الأعمال فإنّ الرِّياء قد يدخُلُها بمجرّد فعلها.

وقد حاوَل بعضُ الأئمّة إلحاق شيءٍ من العبادات البدنيّة بالصّوم فقال: إنّ الذِّكر بلا إله إلّا الله يمكن أن لا يدخله الرِّياء، لأنّه بحركة اللّسان خاصّة دون غيره من أعضاء الفم، فيمكن للذّاكر أن يقولها بحضرة النّاس ولا يشعرون منه بذلك.

ثانيها: أنّ المراد بقوله: «وأنا أجزي به» أنّي أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته. وأمّا غيره من العبادات فقد اطّلع عليها بعض النّاس.

قال القرطُبيّ: معناهُ أنّ الأعمال قد كشفتْ مقادير ثوابها للنّاس وأنّها تُضاعَف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله، إلّا الصِّيام فإنّ الله يُثيب عليه بغير تقدير. ويشهد لهذا السِّياق الرِّواية الأخرى يعني رواية الموطّأ.

وكذلك رواية مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي

لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ "(5)

«أي أُجازي عليه جَزاءً كثيراً من غير تعيين لمقداره، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزُّمَر:10] انتهى.

والصّابِرون: الصّائِمون في أكثر الأَقوال.

قال أبو عبيد في غريبه فقال: بَلَغَني عن ابن عُيَينةَ أنّه قال ذلك، واستَدَلّ له بأنّ الصّوم هو الصّبر؛ لأنّ الصّائم يُصَبِّر نفسَه عن الشّهوات، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزُّمَر:10] انتهى.

وأمّا مقدار ثواب ذلك فلا يعلمه إلّا الله تعالى. ويؤيّده أيضاً العرف المستفاد من قوله: «أنا أجزي به»؛ لأنّ الكريم إذا قال: أنا أتولّى الإعطاء بنفسي كان في ذلك إشارة إلى تعظيم ذلك العطاء وتفخيمه.

ثالثها: معنى قوله «الصّوم لي»، أي: أنّه أحبّ العبادات إليّ والمقدّم عندي،

قال ابن عبد البرّ: كفى بقوله: «الصّوم لي» فضلاً للصّيام على سائر العبادات. وروى النّسائيُّ وغيره من حديث أبي أُمامة مرفوعاً: «عليك بالصّوم فإنّه لا مثل له».

رابعها: الإضافةُ إضافةُ تشريفٍ وتعظيم كما يقال: بيتُ الله، وإن كانت البيوت كُلّها لله.

قال الزّين بن المنير: التّخصيص في موضع التّعميم في مثل هذا السِّياق لا يُفْهَم منه إلّا التّعظيم والتّشريف.

خامسها: أنّ الاستغناء عن الطّعام وغيره من الشّهوات من صفات الرّبّ جلّ جلاله، فلمّا تَقَرَّبَ الصّائم إليه بما يُوافق صفاته أضافه إليه.

وقال القرطبيّ: معناهُ أنّ أعمال العباد مناسبة لأحوالهم إلّا الصّيام فإنّه مناسبٌ لصفةٍ من صفاتِ الحقّ، كأنّه يقول إنّ الصّائم يتقرّب إليّ بأمر هو متعلِّق بصفةٍ من صِفاتي.

سادسها: أنّ المعنى كذلك، لكنْ بالنِّسبة إلى الملائكة لأنّ ذلك من صفاتهم.

سابعها: أنّه خالصٌ لله وليس للعبد فيه حظٌّ، قاله الخطّابيّ، هكذا نقله عِيَاض وغيره، فإن أراد بالحظِّ ما يحصل من الثّناء عليه لأجل العبادة رجع إلى المعنى الأوّل، وقد أفصح بذلك ابن الجوزيّ فقال: المعنى ليس لنفس الصّائم فيه حظٌّ بخلاف غيره فإنّ له فيه حظّاً لثناء النّاس عليه لعبادته.

ثامنها: سبب الإضافة إلى الله أنّ الصِّيام لم يُعْبَد به غير الله، بخلافِ الصّلاة والصَّدَقَة والطّواف ونحو ذلك.

تاسعها: أنّ جميع العبادات تُوفّى منها مظالم العباد إلّا الصِّيام.

روى ذلك البيهقيُّ عن ابن عُيَيْنَةَ قال: إذا كان يوم القيامة يُحاسِب اللهُ عَبْدَه ويؤدِّي ما عليه من المَظالم من عمله حتّى لا يبقى له إلّا الصّوم، فَيَتَحَمَّل الله ما بقي عليه من المظالم ويدخله بالصّوم الجنّة.

قال القرطُبيّ: قد كنتُ استحسَنْتُ هذا الجواب إلى أن فكّرت في حديث المقاصّة فوجدْتُ فيه ذكر الصّوم في جُملة الأعمال حيث قال: «المُفْلِس الذي يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصَدَقَةٍ وصيامٍ،

ويأتي وقد شَتَمَ هذا وضَرَبَ هذا وأكَلَ مالَ هذا»... الحديث.

وفيه: «فيؤخذ لهذا من حسناتِه ولهذا من حَسَنَاتِه، فإذا فَنِيَتْ حسناتُه قبلَ أن يَقْضِيَ ما عليه أُخِذَ مِنْ سيِّئاتِهمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النّار» (6).

فظاهرهُ أنّ الصّيام مشتركٌ مع بقيّة الأعمال في ذلك.

قلتُ (الحافظ ابن حجر): إنْ ثَبَتَ قول ابنِ عُيَيْنَةَ أَمكَنَ تَخْصِيص الصِّيام من ذلك، فقد يُسْتَدَلّ له بما رواه أحمد عن أبي هريرة رفعه: «كُلّ العَمَلِ كفّارَةٌ إلّا الصّومَ، الصّومُ لي وأنا أجزي به» (7).

عاشِرُها: أنّ الصّوم لا يَظْهَر فتكتبه الحفظة كما تكتِبُ سائرَ الأعمال (8).

6-حقيقةُ الصيامِ وأقسامِهِ:

أ-والمراد بالصّيام هنا صيامُ مَنْ سَلِمَ صيامُه من المعاصي قولاً وفعلاً.

قال البيضاوِيّ: والمعنى أنّ الحسناتِ يضاعَفُ جزاؤُها من عشرةِ أمثالها إلى سبعمائةِ ضِعْفٍ إلّا الصَّوْم فلا يُضاعَفْ إلى هذا القدر بل ثوابه لا يُقَدِّرُ قَدْرَه ولا يُحْصِيه إلّا الله تعالى، ولذلك يتولّى اللهُ جزاءَهُ بنفسه ولا يَكِلُهُ إلى غيره. (9)

ب-الصّوم كفّارةٌ:

وهو كون الصّوم يُحمَلُ على كفّارةِ شيءٍ مخصوص وفي النّفي على كفّارة شيء آخر، وقد حمله المصنِّف-ابن حجر- في موضعٍ آخر على تكفيرِ مُطلق الخطيئة فقال في الزّكاة: "باب الصّدقة تُكفِّرُ الخطيئةَ" ثُمَّ أوردَ هذا الحديثَ بعينه.

1 ـ ويؤيِّد الإطلاق ما ثَبَتَ عند مسلمٍ من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه أيضاً مرفوعاً: «الصَّلواتُ الخَمْسُ ورمضانُ إلى رمضانِ مُكَفِّرَاتٍ لما بينَهُنَّ ما اجْتُنِبَتِ الكبائِرُ» (10).

2ـ ولابن حِبّان في صحيحه مِنْ حديث أبي سعيدرضي الله عنه  مرفوعاً: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، وَعَرَفَ حُدُودَهُ، وَتَحَفَّظَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَفَّظَ، كَفَّرَ مَا قَبْلَهُ» (11).

وعلى هذا فقولُه: «كُلّ العَمَلِ كَفَّارَةٌ إلّا الصِّيامُ» يُحتَمَلُ أنْ يكونَ المُرادُ إلّا الصِّيام فإنّهُ كَفَّارَةٌ وزيادةُ ثوابٍ على الكفّارَةِ، ويكون المُراد بالصِّيامِ الذي هذا شأنُه ما وَقَعَ خالِصاً سالِماً مِنَ الرِّياء والشَّوائبِ كما تَقَدَّمَ شَرْحُهُ، واللهُ أعلم. (12)

7- أبواب الجنة

أ- باب الرَّيّانُ للصّائمين

عن سهل رضي الله عنه عن النّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنّ في الجنّةِ باباً يقالُ له الرَّيَّانُ، يَدخُلُ منه الصّائمون يومَ القيامَةِ لا يَدْخُلُ منه أحَدٌ غَيْرُهُمْ، يقالُ: أينَ الصَّائِمُونَ؟ فيقُومُونَ لا يَدْخُلُ منه أحَدٌ غَيْرُهُمْ، فإذا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ منه أحَدٌ» (13). (الرَّيَّان) بِفتحِ الرَّاء وتشديد التّحتانيّة وزن فَعْلان مِنَ الرِّيّ: اسمُ عَلَمٍ على بابٍ من أبواب الجنّة يخْتَصّ بدخولِ الصَّائمين منه، وهو ممّا وقعتِ المناسبة فيه بين لفظه ومعناهُ؛ لأنّه مُشْتَقٌّ من الرِّيّ وهو مناسب لحالِ الصّائمينَ وسيأتي أنّ مَنْ دخله لم يظمأ.

قال القرطُبيّ: اكْتُفِيَ بذكرِ الرِّيِّ عن الشِّبَعِ لأنّهُ يَدُلّ عليه من حيث أنّهُ يستلزِمه،

قلت: أو لكونه أشَقّ على الصّائم من الجوع.

قال الزَّيْنُ بنُ المُنيرِ: إنّما قال في الجنّة ولم يَقُلْ للجنّةِ؛ لِيُشْعِرَ بأنّ في الباب المذكور من النّعِيم والرّاحة في الجنّة، فيكون أبلَغَ في التّشَوُّق إليه.

ب-عدد أبواب الجنة

- عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: إِنَّ لِلْجَنَّةِ ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ مِنْهَا بَابٌ يُسَمَّى الرَّيَّانُ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا الصَّائِمُونَ "(14). ورَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ.

وقال: «في الجنّة ثمانيةِ أبوابٍ». قوله: «فإذا دَخَلُوا أُغْلِقَ فلم يَدْخُلْ منه أحدٌ». وعند مسلم: «فإذا دخل آخِرُهمْ أُغْلِقَ»، هكذا في بعض نُسَخ مُسْلِم.

ج-أبواب الجنة: والأعمال الموصلة لها

عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ في سَبِيلِ الله نُودِيَ مِنْ أبوابِ الجنّةِ يا عبدَ الله هذا خَيْرٌ، فَمَنْ كان مِنْ أهلِ الصّلاةِ دُعِيَ مِنْ بابِ الصّلاةِ، ومَنْ كان مِنْ أهلِ الجهادِ دُعِيَ مِنْ بابِ الجهادِ، ومن كان مِنْ أهلِ الصِّيامِ دُعِيَ من بابِ الريّانِ، ومَنْ كان مِنْ أهلِ الصّدقةِ دُعِيَ مِنْ بابِ الصّدقةِ». فقال أبو بكرٍ رضي الله عنه  بأبي أنتَ وأمِّي يا رسولَ الله، ما على مَنْ دُعِيَ مِنْ تلك الأبوابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدعَى أحدٌ مِنْ تلك الأبوابِ كُلِّها؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: «نَعَمْ، وأرجُو أنْ تكون منهم» (15).

شرح الحديث

أ- «مَنْ أنفَقَ زوجين في سبيلِ الله»

المراد بقولِهِ: «في سبيل الله» فقيلَ أرادَ الجهاد، وقيلَ ما هو أعمّ منه، والمراد بالزّوجين إنفاق شيئين من أيّ صِنْفٍ مِنْ أصناف المال مِنْ نَوْعٍ واحدٍ.

ب- «هذا خيرٌ»

المعنى هذا خيرٌ من الخيرات، والتّنوين فيه للتّعظيمِ وبه تظهر الفائدة.

ج- بابِ الريّان

«ومَنْ كان مِنْ أهل الصِّيام دُعِيَ مِنْ بابِ الريّان»

في رواية عن الزّهريِّ عند أحمد: «لكلِّ أهلِ عَمَلٍ بابٌ يُدعَون منه بذلك العملِ، فلأهلِ الصِّيام بابٌ يُدْعَوْنَ منه يقال له الريّان» (16)

8ـ فرحتان للصائم:

أخرج الإمام مسلم من حديث أبى هريرة ــ رضي الله عنه ــ أنَ النبي صلى الله عليه وسلم قال: للصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه.

وفى رواية: وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه.

قال الحافظ ابن رجب ــ رحمه الله: - أما فرحة الصائم عند فطره: فإن النفوس مجبولة على الميل إلى ما يلائمها من مطعم ومشرب ومنكح، فإذا منعت من ذلك في وقت من الأوقات، ثم أبيح لها في وقت آخر فرحت بإباحة ما منعت منه، خصوصا عند اشتداد الحاجة إليه، فإن النفوس تفرح بذلك طبعاً.

-وأما فرحه عند لقاء ربه: فيما يجده عند الله من ثواب الصيام مدخراً، فيجده أحوج ما كان إليه، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَِنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجرَاً ﴾ [ المزمل: 20]، وقوله تعالى: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا ﴾ [ آل عمران: 30 ]، وقوله تعالى: ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [ الزلزلة: 7 ]17)) فهذا فرح الصائم عند فطره، فكيف فرحه بصومه عند لقاء ربه..!عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «للصائمِ فرحتان: فرحةٌ عند فطرِهِ، وفرحةٌ عند لقاءِ ربّه»(18).

9-تسلسلُ الشياطين في رمضان:

عن أبي هريرة رضي الله عنه  قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا دخلَ شَهْرُ رمضانَ فُتِّحَتْ أبوابُ السَّماءِ، وغُلِّقَتْ أبوابُ جَهَنَّمَ، وسُلْسِلَتِ الشَّياطينُ» (19).

أ-قال الحَلِيميُّ: يحتمِلُ أنْ يكون المرادَ مِنَ الشَّياطينِ مُسْتَرِقُو السّمع منهم، وأنّ تسلسلهم يقع في ليالي رمضان دون أيّامه؛ لأنّهم كانوا منعوا في زمن نزول القرآن من استراقِ السّمع فزيدوا التّسلسلَ مبالغةً في الحفظ.

ب-ويُحتملُ أن يكون المراد أنّ الشّياطين لا يخلصونَ من افتتان المسلمين إلى ما يخلصونَ إليه في غيرهِ لاشتغالهم بالصّيام الذي فيهِ قمعُ الشّهوات وبقراءة القرآن والذِّكر.

ج ـ وقال غيره: المرادُ بالشّياطين بعضهم وهم المرَدَةُ منهم.

وترجم لذلك ابن خزيمة في صحيحه وأورد ما أخرجه هو والترمذي والنّسائي وابن ماجه والحاكم من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: «إذا كان أوّل ليلة مِنْ شَهْر رمضان صُفِّدَتِ الشّياطين ومَرَدَةُ الجنّ» (20).

د-زاد أبو صالح في روايته: «وغُلِّقَتْ أبوابُ النّارِ فلم يُفتَحْ منها بابٌ، وفُتِحَتْ أبوابُ الجنّةِ فلم يُغلَقْ منها بابٌ، ونادى مُنادٍ: يا باغِيَ الخير أقبِلْ، ويا باغِيَ الشرِّ أقصِرْ، ولله عُتَقاءٌ مِنَ النَّارِ وذلك كلَّ ليلةٍ». لفظ ابن خُزَيْمَةَ.

وقوله: «صُفِّدَتْ» بالمهملة المضمومةِ بعدها فاء ثقيلة مكسورة، أي: شُدَّتْ بالأصفادِ وهي الأغلالُ، وهو بمعنى سُلْسِلَتْ.

ونحوه للبيهقيِّ مِنْ حديثِ ابن مسعود، وقال فيه: «فُتِحَتْ أبوابُ الجنّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ منها بابٌ الشّهرَ كلّه».

قال عِيَاض: يحتمل أنّه على ظاهره وحقيقته وأنّ ذلك كلّه علامة للملائكة لدخولِ الشّهر وتعظيم حرمته ولمنعِ الشّياطين من أذى المؤمنين.

ويحتمل أن يكون إشارةً إلى كثرة الثواب والعفو، وأنّ الشّياطين يقلُّ إغواؤهم فيصيرون كالمصفَّدِين.

قال: ويؤيِّدُ هذا الاحتمال الثّاني قوله في رواية يُونُسَ عن ابن شهابٍ عند مسلم: «فُتِحَتْ أبوابُ الرّحمة».

قال: ويحتمل أن يكون فتح أبوابِ الجنّةِ عبارة عمّا يَفْتَحُهُ الله لعباده من الطّاعات وذلك أسباب لدخول الجنّة.

غَلْقُ أبواب النّارِ عبارة عن صرفِ الهمم عن المعاصي الآيلة بأصحابها إلى النّار.

وتصفيد الشّياطين عبارة عن تعجيزهم عن الإغواء وتزيين الشّهوات.

وقال الطِّيبِيّ: فائدة فتح أبوابِ السَّماءِ توقيف الملائكة على استحماد فعل الصّائمين وأنّه من الله بمنزلةٍ عظيمةٍ، وفيه إذا علم المكلّف ذلك بإخبار الصّادق ما يزيدُ في نشاطه ويتلقّاهُ بأريحيّة.

*كيف تقع الشرور مع تصفيد الشياطين؟

وقال القرطبيّ بعد أن رجّح حمله على ظاهره: فإنْ قيل كيف نرى الشُّرورَ والمعاصيَ واقعةً في رمضان كثيراً فلو صُفِّدَتِ الشّياطين لم يقع ذلك؟

فالجواب: أنّها إنّما تَقِلُّ عن الصّائمين الصّوم الذي حُوفِظَ على شُرُوطِهِ ورُوعِيَتْ آدابُهُ، أو المصَفّد بعضُ الشّياطين وهم المرَدَةُ، لا كلّهم كما تقدّم في بعض الرِّوايات، أو المقصود تقليلُ الشّرور فيه، وهذا أمرٌ محسوس؛ فإنّ وقوع ذلك فيه أقلّ من غيره، إذ لا يلزم من تصفيد جميعهم أن لا يقع شرٌّ ولا معصية؛ لأنّ لذلك أسباباً غير الشّياطين كالنُّفُوسِ الخبيثةِ، والعادات القبيحة، والشّياطين الإنسيّة.

وقال غيره: في تصفيد الشّياطين في رمضان إشارة إلى رفع عذرِ المكلّف كأنّه يقال له: قد كُفَّتِ الشّياطينُ عنك فلا تعتلّ بهم في ترك الطّاعة ولا فعلِ المعصية.

وفي رواية: «إذا دخلَ رمضانُ» فيه دليل للمذهبِ الصّحِيح المختار الذي ذهبَ إليه البخارِيّ والمحقِّقُونَ أنّه يجوز أن يقال: «رمضان» من غير ذكر الشّهر بلا كراهة.

10-السِّواكُ للصائم:

أولاً:«خُلُوفُ فم الصائم وريح المسك» روى البخاري عن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال (وَالّذِى ‏نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطيَبُ عِندَ اللَّهِ مِن رِيحِ المِسكِ، 1- ُخلُوف:بضمِّ المعجمة واللّام وسكون الواو بعدها فاء. قال القاضي عِيَاض: هذه الرِّواية الصّحيحة، وبعض الشّيوخ يقوله بفتح الخاء, واتّفقوا على أنّ المراد به تَغَيُّر رائحة فم الصّائم بسبب الصّيام.

2- «فَمِ الصّائمِ» فيه رَدٌّ على من قال: لا تثبت الميم في الفم عند الإضافة إلّا في ضرورة الشّعر لثبوته في هذا الحديث الصّحيح وغيره.

3- «أَطيبُ عند الله من ريح المسك»

اختلف في كون الخلوف أطيب عند الله من ريح المسك ـ مع أنّه سبحَانه وتعالى مُنزّهٌ عن استطابة الرّوائح، إذ ذاك من صفات الحيوان[البَشَر]، ومع أنّه يعلم الشّيء على ما هو عليه ـ على أوجه:

أـ قال المازريّ: هو مجاز لأنّهُ جرتْ العادة بتقريب الرّوائح الطيِّبة منّا فاستُعِيرَ ذلك للصّوم لتقريبه من الله، فالمعنى: أنّه أطيب عند الله من ريح المسك عندَكُم، أي يُقَرَّب إليه أكثر من تقريب المسك إليكم.

ب ـ وقيل المراد أنّ ذلك في حقّ الملائكة وأنّهم يستطيبون ريح الخلوف أكثر ممّا يستطيبون ريح المسك.

ج ـ وقيل المراد أنّ الله تعالى يجزيه في الآخرة فتكون نكهته أطيب من ريح المسك كما يأتي المكلوم وريح جُرحه تفوح مسكاً.

-ويؤخذ من قوله: «أطيب من ريح المسك» أنّ الخُلُوف أعظم من دم الشّهادة؛ لأنّه شَبَّهَ رِيحَ دَمِ الشّهيد بريحِ المِسْك، والخُلُوف وُصِفَ بأنّه أطيب، ولا يلزمُ من ذلك أن يكون الصّيام أفضل من الشّهادة لما لا يخفى، ولعلّ سبب ذلك النّظَر إلى أصل كُلٍّ منهما فإنّ أصل الخُلُوف طاهِرٌ وأصلُ الدّم بخلافه فكان ما أصلهُ طاهر أطيبُ ريحاً.

وحاصلهُ: حمل معنى الطِّيب على القبول والرِّضا.

وقد نقل القاضي حسين في تعليقه أنّ للطّاعات يوم القيامة ريحاً تفوح.

قال: فرائحة الصّيام فيها بين العبادات كالمسك،

ويُؤيِّد الثّلاثة الأخيرة قوله في رواية مسلم وأحمد والنّسائيّ من طريق عطاء عن أبي صالح: «أطيَبُ عندَ الله يومَ القيامَةِ».

قال الخطّابيُّ: طِيبهُ عند الله رضاهُ به وثناؤهُ عليه.

وقال البغوِيُّ: معناه الثّناء على الصّائم والرِّضا بفعله، وبنحو ذلك قال القدوريّ من الحنفيّة والدّاوديّ وابن العربيّ من المالكِيّة وأبو عثمان الصّابونيّ وأبو بكر بن السّمعانيّ وغيرهم من الشّافعِيّة، جَزَمُوا كُلّهم بأنّه عبارة عن الرِّضا والقبول.

وأمّا ذِكْر يوم القيامة في تلك الرِّواية فلأنّه يوم الجزاء وفيه يظهر رُجحان الخُلُوف في الميزان على المسك المستعمل لدفع الرّائحة الكريهة طلباً لرضا الله تعالى حيث يُؤمر باجتنابها، فقيّده بيوم القيامة في رواية وأطلق في باقي الرِّوايات نظراً إلى أنّ أصل أفضليّته ثابت في الدّارين، وهو كقوله:{ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) } [العاديات:11] وهو خبير بهم في كُلّ يوم، انتهى.

ثانياً:حكم السِّواكُ للصائم:

ويترتّب على هذا الخلاف المشهور في كراهة إزالة هذا الخلوف بالسِّواك سواكِ الرَّطْبِ واليابسِ للصّائمِ: ويذكرُ عن عامِرِ بن ربيعةَ قال: رأيتُ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يستاكُ وهو صائمٌ ما لا أُحصي(21).

وأشار بهذه التّرجمة إلى الردِّ على من كره للصّائم الاستياك بالسِّواكِ الرَّطبِ كالمالكيّة والشَّعبِيِّ. وقد قاسَ ابن سيرين السِّواك الرّطب على الماء الذي يُتمَضمضُ به.

وكره الشافعي السواك بعد الزوال.

الحلقة السابقة هــنا

 

(1) أخرجه البخاري (1802).

(2) - رواه البخاري (5927)، ومسلم (1151) واللفظ له

-(3) فتح الباري شرح صحيح البخاري،الحافظ: أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني:4/107

(4)- شعب الإيمان للبيهقي (3593).

(5) -صحيح مسلم (2/ 807)164 - (1151)

(6) رواه مسلم (6744).

(7) رواه أحمد في مسنده (10286).

(8) -فتح الباري لابن حجر (4/ 109) وقارن بشرح الزرقاني على الموطأ (2/ 297) مع الاختصار

(9)- فتح الباري لابن حجر (4/ 110) باختصار

(10) أخرجه مسلم (574).

(11) صحيح ابن حبان باب فضل رمضان (3433). مسند أحمد ط الرسالة (18/ 84)11524

(12) -فتح الباري لابن حجر (4/ 111)

(13) - أخرجه البخاري (1797).

(14) السنن الكبرى للبيهقي (4/ 502)8512

(15) أخرجه البخاري (1798).

(16) - فتح الباري - ابن حجر - ج ٤ - الصفحة ٩٦

(17) -سعيد مسفر الزهراني: للصائم فرحتان

(18) أخرجه البخاري (2763).

(19) أخرجه البخاري (1800).

(20) - شعب الإيمان للبيهقي، فضائل الإيمان (3446).

(21) رواه أبو داود في سننه (1366)، وأحمد في مسنده (15716).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين