أحاديث الصيام شرحها، وفقهها (1)

1-التبشير بقدوم رمضان

ذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي قال: في حديث مرفوع خرَّجه ابن أبي الدنيا: "لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنَّت أُمّتي أن يكون رمضان السنةَ كلّها"(1) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبَشِّر أَصحابه بقدوم رمضان كما خرجه الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه يقول: "قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك، كتب الله عليكم صيامه، فيه تُفتح أبواب الجنان، وتُغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغلّ فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرم"(2)

قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضا بشهر رمضان..

كيف لا يبشَّر المؤمن بفتح أبواب الجنان...!

كيف لا يبشّر المذنب بغلق أبواب النيران...!

كيف لا يبشَّر العاقل بوقت ُيغلُّ فيه الشياطين...!

من أين يشبه هذا الزمان زمان...!

وفي حديث آخر: "أتاكم رمضان سيد الشهور فمرحبا به وأهلا".

جاء شهر الصيام بالبركات... فأكرم به من زائر هو آت

وروي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو ببلوغ رمضان فكان إذا دخل رجب يقول: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان" خرجه الطبراني وغيره (3).

2-وُجُوبُ صومِ رمضان:

لا صيام فرض إلّا رَمضان.

أـ عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: أنّ أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثائر الرأس، فقال: يا رسول الله أخبرني ماذا فرض الله عليّ من الصلاة؟

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «الصلوات الخمس إلا أن تطوَّع شيئاً».

فقال: أخبرني ما فرض الله عليّ من الصيام؟

فقال: «شهر رمضان إلا أن تطوّع شيئاً».

فقال: أخبرني بما فرض الله عليّ من الزكاة؟

فقال: فأخبَرَه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شرائع الإسلام.

قال: والذي أكرمَك، لا أتطوّع شيئاً، ولا أنقصُ ممَّا فرضَ الله عليَّ شيئاً.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أفْلحَ إنْ صَدَقَ» أو «دخَلَ الجنَّة إنْ صَدقَ» (4).

الصّومُ والصّيامُ في اللّغة: الإمساك. وفي الشّرع: إمساكٌ مخصوص في زَمَنٍ مخصوص عن شيء مخصوص بشرائط مخصوصة.

وقال صاحب «المُحْكَم»: الصّوم تَرْكُ الطّعام والشّراب والنِّكاح والكلام، يقال: صَام صَومَاً وصِياماً، ورَجُلٌ صائِمٌ وصَوِمٌ.

وقال الرّاغِبُ: الصَّومُ في الأصل الإمساك عن الفعل، ولذلك قيل للفَرَسِ المُمْسِك عن السّير صائِم، وفي الشّرع: إمساكُ المُكَلَّف بالنيّة عن تناول المَطعَم والمَشرَب والاستمناء والاستقاء مِنَ الفجر إلى المغرب (5).

ب ـ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صَام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عاشوراء وأمرَ بصيامهِ، فلما فُرِضَ رمضان ترك. وكانَ عبد الله لا يصومه إلا أن يُوافق صومه (6).

(عاشوراء) اليوم العاشر من المحرم. (أن يُوافق صَومه) الذي كان يعتادهُ، والمعنَى: أنَّه كان لا يعتقد صيام يوم عاشوراء من النفل المندوب.‏

ج-حديث عائشة المُتضَمِّن الأَمْر بصيام عاشوراء: عن عائشة رضي الله عنها: أنّ قريشاً كانت تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصيامه حتى فُرِضَ رمضان، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: من شاء فليصمه، ومن شاء أفطر(7).

وقد اختلف السّلف هل فُرِضَ على النّاس صيام قبل رمضان أو لا؟

فالجمهور ـ وهو المشهور عند الشّافعيّة ـ أنّه لم يجبْ قطّ صومٌ قبل صوم رمضان، وفي وجهٍ وهو قول الحنفيّة أوّل ما فُرِضَ صيام عاشوراء، فلمّا نزل رمضان نُسِخَ.

د-عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «صِيَامُ رَمضانٍ كتبهُ اللهُ على الأُمَمِ قبلَكُم» (8).

3-فضلُ الصّوم:

أ-عن أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَنْ صامَ يوماً في سبيلِ الله باعَدَ اللهُ وجهه عَنِ النَّارِ سبعين خَرِيفاً» (9).

فيه: فضيلة الصّيام في سبيل الله، وهو محمولٌ على مَنْ لا يتضرّر به، ولا يُفَوِّتُ به حَقّاً، ولا يختلّ به قتالهُ ولا غيره مِنْ مُهِمّات غزوه،

ومعناه: المباعدةُ عن النّار، المعافاة منها، والخريف: السّنَةُ. والمراد: سبعين سنة.

ب-وروى النِّسائيُّ بسندٍ صحيح عن أبي أُمَامة قال: قلتُ يا رسول الله، مُرْنِي بعَمَلٍ آخُذُه عنكَ، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «عليكَ بالصّومِ فإنّه لا مِثْلَ له»(10).

وفي رواية: «لا عَدْلَ له». والمشهور عند الجمهور ترجيحُ الصّلاة.

4- الصيام مدرسة الأخلاق:

أ- الصِّيام (جُنَّة): عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الصّيامُ جُنَّةٌ فلا يَرْفُثْ ولا يَجْهَلْ، وإن امْرُؤٌ قاتَلَهُ أو شاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إنّي صائِمٌ مَرّتينِ. والذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائمِ أَطْيَبُ عند الله تعالى مِنْ رِيحِ المِسْكِ يَتْرُكُ طعامَهُ وشرابَهُ وشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، الصِّيامُ لي وأنا أَجْزِي به، والحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمثالِها» (11).

قال الحافظ في الفتح: زاد سعيد بن منصور عن أبي الزِّناد: «جُنَّة مِنَ النَّار» (12)، وللنَّسائيِّ: مِنْ حديث عائشة مثلهُ، ولهُ من حديث عثمان بن أبي العاص: «الصِّيامُ جُنّةٌ كجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنَ القِتَالِ».

ولأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه : «جُنَّةٌ وحِصْنٌ حَصِينٌ مِنَ النّارِ».

وله من حديث أبي عبيدة بن الجرّاح: «الصِّيامُ جُنَّةٌ ما لم يَخْرِقْها».

زاد الدّارِمِيُّ: «بالغِيبَةِ». وبذلك ترجم له هو وأبو داود.

والجُنَّة: بضَمِّ الجيم: الوقاية والسَّتر. وقد تبيّن بهذهِ الرِّوايات مُتَعَلَّق هذا السَّتر وأنّه من النّار، وبهذا جزم ابن عبد البرّ.

وأمّا صاحب «النّهاية» فقال: معنى كونه جُنَّة أيّ يَقِي صاحبه ما يؤذيه من الشّهوات.

وقال القرطبيّ: جُنَّة أي سترة، يعني بحسب مشروعيّتهِ، فينبغي للصّائم أن يصونه ممّا يُفْسِدهُ وينقص ثوابه، وإليه الإشارة بقوله: «فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث... إلخ».

ويصحّ أن يراد أنّه سترة بحسب فائدته وهو إضعاف شهوات النّفس، وإليه الإشارة بقوله: «يَدَعُ شهوته... إلخ».

ويصحّ أن يُراد أنّه سترة بحسب ما يحصل من الثّواب وتضعيف الحسنات. وقال القاضي عِيَاض في الإكمال: معناهُ سترة من الآثام أو من النّار أو من جميع ذلك، وبالأخير جزم النّوويّ.

وقال ابن العربيّ: إنّما كان الصّوم جُنّة من النّار لأنّه إمساك عن الشّهوات، والنّار محفوفة بالشّهوات.

فالحاصل: أنّه إذا كفّ نفسه عن الشّهوات في الدّنيا كان ذلك ساتراً له من النّار في الآخرة.

ب-الغيبةُ تَضُرّ بالصّيام

وفي زيادة أبي عبيدة بن الجراح «الصِّيامُ جُنَّةٌ ما لم يَخْرِقْها» إشارة إلى أنّ الغيبة تَضُرّ بالصّيام، وقد حُكِيَ عن عائشة رضي الله عنها.

وبه قال الأوزاعيُّ: إنَّ الغيبة تُفْطِر الصّائم وتُوجب عليه قضاء ذلك اليوم.

وأفرط ابن حزم فقال: يُبطله كلّ مَعصيةٍ من متعمِّدٍ لها ذاكراً لصومه سواء كانت فعلاً أو قولاً، لعموم قوله: «فلا يرفث ولا يجهل»، ولقوله في الحديث الآتي بعد: «مَنْ لم يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به فليس لله حاجَةٌ في أن يَدَعَ طعامه وشَرَابَه» (13).

والجمهور وإن حَمَلُوا النَّهْي على التّحريم إلّا أنّهم خصُّوا الفطر بالأكلِ والشُّرب والجماع.

وأشار ابن عبد البرّ إلى ترجيح الصّيام على غيره من العبادات فقال: حسبُك بكون الصّيام جُنّة من النّار فضلاً.

ج- «لا يَرْفُث»:

- في الموطَّأ: «الصِّيامُ جُنَّةٌ، فإذا كان أحدُكُم صائماً فلا يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ. فَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ، أَوْ شَاتَمَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ» (14)

ويَرفُثُ: بالضّمِّ والكسر، والمراد بالرّفَثِ هنا: الكلام الفاحش، وهو يُطْلَق على الجِماع وعلى مُقَدِّماته، وعلى ذِكْره مع النِّساء أو مُطلَقاً، ويُحْتَمَل أن يكون أعمّ.

د- «لا يجهل»:

أي لا يفعل شيئاً من أفعال أهل الجهل كالصِّيَاحِ والسَّفَه ونحو ذلك. ولسعيد بن منصور من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه: «فلا يَرْفُثْ ولا يُجادلْ».

قال القرطبيّ: لا يُفْهَم من هذا أنّ غير الصّوم يُباح فيه ما ذُكِرَ، وإنّما المُرَاد أنّ المنع من ذلك يتأكّد بالصّوم.

هـ-إنِّي صائِمٌ «وإن امرُؤٌ قاتَلَهُ أو شاتَمَهُ»:

1-شاتَمَهُ:

في رواية: «فإنْ سابَّهُ أَحَدٌ أو قاتَلَهُ»، وللنّسائيِّ من حديث عائشة «وإنْ امرُؤٌ جَهِلَ عليه فلا يَشْتُمْهُ ولا يسُبّهُ».

واتّفَقَتِ الرِّوايات كُلّها على أنّه يقول: «إنِّي صائِمٌ»، فمنهم من ذكرها مرّتين ومنهم من اقتصر على واحدة.

ظاهره بأنّ المفاعلة تقتضي وقوع الفعل من الجانبين، والصّائم لا تصدُر منه الأفعال التي رُتِّبَ عليها الجواب خصوصاً المقاتلة...؟!

والجواب عن ذلك: أنّ المراد بالمفاعلة التّهيُّؤ لها، أي إن تهيّأ أحد لمقاتلته أو مشاتمته فليقل إنّي صائم فإنّه إذا قال ذلك أمكن أن يَكُفّ عنه، فإن أصرّ دفعه بالأخفِّ فالأخفّ كالصّائل، هذا فيمن يروم مُقاتلته حقيقة.

فإن كان المراد بقوله: «قاتله» شاتمه لأنّ القتل يطلق على اللّعن واللّعن من جملة السّبّ ويؤيّده ما ذكرت من الألفاظ المختلفة فإنّ حاصلها يرجع إلى الشّتم.

فالمراد من الحديث: أنّه لا يعامله بمثل عملهِ بل يقتصر على قوله: «إنّي صائم».

واختلف في المراد بقوله: «فَلْيَقُلْ إنّي صائمٌ» هل يخاطِب بها الذي يُكَلِّمهُ بذلك أو يقولها في نفسه؟

قال النّوويّ في «شرح المهذَّب» كُلٌّ منهما حَسَن.

والقول باللِّسانِ أَقوى ولو جمعهما لكانَ حسناً.

ونقل الزّركشيّ أنّ المراد بقوله: «فَلْيَقُلْ إنّي صائمٌ مرّتين»، يقولُهُ: مرّة بقلبه ومرّة بلسانه، فيستفيد بقوله بقلبه كفُّ لسانه عن خصمه، وبقوله بلسانه كفُّ خصمه عنه.

2-قاتَلَهُ:

«معنى قاتَلَهُ»: يمكن حمله على ظاهره، ويمكن أن يُراد بالقتل: لَعْنٌ يرجع إلى معنَى الشّتم، ولا يمكن حمل قَاتَلَه وشاتَمَه على المفاعلة؛ لأنّ الصّائم مأمور بأن يكفّ نفسه عن ذلك فكيف يقع ذلك منه؟

وإنّما المعنى إذا جاءه مُتَعَرِّضاً لمقاتلَتِهِ أو مشاتمته كَأَنْ يبدأه بقتل أو شتم اقتضت العادة أن يكافئه عليه.

فالمراد بالمفاعلة إرادة غير الصّائم ذلك من الصّائم، وقد تُطْلَق المفاعلة على التّهيّؤ لها ولو وقع الفعل من واحد،

وقد تقع المفاعلة بفعل الواحد كما يقال لواحدٍ عالج الأمر وعافاه الله.

(1) -أخرجه أبو يعلى في مسنده

(2) -حديث صحيح أخرجه الامام أحمد(7148)عن أبي هريرة والنسائي(2096)

(3) -ابن رجب الحنبلي: لطائف المعارف؛ المجلس الثالث في صيام آخر شعبان

(4) - أخرجه البخاري (1792).

(5) -فتح الباري لابن حجر (4/ 102)

(6) أخرجه البخاري (1793).

(7) - أخرجه مسلم (1125).

(8) -تفسير ابن أبي حاتم - (1/ 304) 1625

(9)- أخرجه مسلم (1153).

(10) رواه النسائي في سننه (2235).

(11) رواه البخاري (1894).

(12)- فتح الباري لابن حجر (4/ 104) باختصار

(13) - رواه البخاري (1903).

(14) موطأ مالك ت الأعظمي (3/ 445)1099/ 323

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين