رسالة سيرة النبي الأمين إلى إنسان القرن العشرين (4)

كانت شبكة عبادة غير الله، وأرباب من دون الله سبحانه منبثة في أرجاء الأرض، في مكان تعبد الأصنام والأوثان، وفي آخر تعبد العناصر والأجناس والأقوام، وفي أرض تعبد الأهواء والشهوات، وفي أخرى تعبد القوة والسلطة، وفي مكان تعبد الملوك والسلاطين، وفي مكان تعبد الأحبار والرهبان، كان الإنسان قد نسي هدف حياته،، بدايتها ونهايتها وتغاضى عن الأشغال الأصلية في الحياة، وأمعن في الانتحار التدريجي والأعمال الخاطئة والأشغال التي لا تعينه، ساد العالم كله وضع قاتم من التناسي للذات، كان رجال الحكومة لا يهمهم إلا الظلم والجور، والجبر والبطش والاستيلاء والاستبداد، وجمع الثروة والارستقراطيون في شغل شاغل من البذخ والتنعم، وقد تنوَّعت متطلبات الحياة وتكثرت إلى حد كان لا يكفي لإشباعها أكبر قدر ممكن من الضرائب والاتاوات المستحدثة وارتفع مستوى الحياة والمجتمع، إلى حد أنَّه لا يعتبر إنساناً من لا يتمتع بلوازم الأمارة والتزامات الحياة الأرستقراطية فكان لا يعامله المجتمع معاملة الإنسان، وكان الإنسان يرزح تحت أثقال الحياة، ويذوب هماً وراء كسب الاعتبار والاحترام فيما بين بني جنسه، وكان أصحاب الطبقة الوسطى لا تدعهم محاكاة أصحاب الطبقة العليا ومنافستهم للتفكير في شيء آخر، - أما الفقراء والطبقة الكادحة والمسحوقون فكانت ظهورهم مثقلة بألوان الضرائب والأتاوات، وبأنواع العبودية والرق - كانوا منهمكين في توفير وسائل اللذة والتنعم للأمراء والحكام واشباع متطلباتهم المشروعة وغير المشروعة كالعجماوات والبهائم فلئن سعدوا بفرصة سانحة في وقت ما فإنهم كانوا يتسلون بوسائل التسلية المحرمة وأنواع المسكرات لترويح أنفسهم من عناء الأشغال وربما لا يوجد في دولة واسعة رجل واحد يهمه دينه وآخرته وعقيدته، ويقض مضجعه ذكر الموت، وكان الشعب البريء مسحوقاً بين حجري رحي طمع الملوك ورغبتهم الجامحة في الاستيلاء والاستعباد وتوسيع رقعة الملك والنفوذ فقد غزت امبراطورية فارس دولة الشام المسيحية دون مبرر وسقت أرض الله بدماء تسعين ألفاً من النفوس البريئة، وقد فعلت أمبراطورية رومة بامبراطورية (فارس) الأفاعيل - كإجراءات انتقامية وانتصار للشعب البريء ودامت هذه الحرب الدامية سنين طوالاً من غير غرض سام، وبدون مبرر كاف، وظلَّ أبناء الامبراطوريتين العظيمتين المتحضرتين في العالم، يتصارعون فيما بينهم ويتعاركون، ويلغ بعضهم في دماء بعضهم كالوحوش والضواري في الغابة، فكان العالم كله ظلاماً في ظلام، وفساداً في فساد، وانحطاطاً في انحطاط، وذلك كله من أجل صنيع الإنسان نفسه: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41].

وهنالك بعث الله تعالى في أمة أميَّة تعيش في عزلة من هذا العالم المتمدن المتداعي المنهار الذي كانت تتوزعه الامبراطوريتان الشرقية والغربية المتحاربتان المتنافستان على قرب من الامبراطوريتين بل في منطقة متوسطة بينهما نبياً أميَّاً لكي يُنقذ العالم من العذاب الذي بقي يأكله منذ قرون طويلة، ويحذره من عذاب الآخرة ويخرجه من الظلمات إلى النور ويضع عنه إصره والأغلال التي كانت عليه: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 157].

وقد بَعَث هذا النبي الأمي إلى الامبراطور الرومي (هرقل) رسالة من المدينة المنورة في 7 هـ/ 630 - كانت تتضمن الدعوة الآتية: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 64].

وقد اعترف هرقل بصدق الدعوة لكنه لم يستطع أن يتنازل - بضعف في نفسه وعجز في رأيه - عن الربوبية، التي كان يتمتع بها، وعلى ذلك فلم يسعد بالتخلص من عذاب الحياة الرومية وويلاتها إلاَّ حين طرده المسلمون من ربوع الشام ورومة وبدأت تخفق على مروجها الخضراء راية الإسلام، راية الرحمة والعدل والمساواة والحرية تحت ظل التوحيد.

لكنَّ الأمة العربية الأميّة المسكينة قد آمنت برسالة النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم فحازت جميع النعم التي كانت نتيجة هذه الرسالة، ووليدة هذه الدعوة، تقطعت كل سلاسل عبوديتها تلقائياً، واستغنت عن جميع العتبات بإطراحها على عتبة العبودية لله الواحد القهار، وتحررت من عبودية النفس والسلطان، وتخلصت من أغلال السيادة والأعراف والتقاليد الجاهلية، وقيود المجتمع والبيئة الظالمة الخانقة، والبلايا التي كانت ترزح تحتها من عند نفسها أو بيد غيرها، وتبعثرت عظمة الآلهة الصناعية والأصنام المنحوتة بيد البشر، أمام معرفة الله تعالى، وذاته وصفاته وعظمته، وجبروته وكبريائه، وأصبحت الأمة العربية البائسة، الجائعة المنعزلة، المنطوية على نفسها، الصفيقة الثياب، المتزرة بأرديتها البالية - التي لم تتجاوز بوادیها وصحاريها، ولم يكن لها عهد مظاهر الزينة والفخفخة والأبهة - أصبحت تتحدث مع ملوك العجم وسلاطينها حديث النّد للنّد، وصارت لا تحفل بمظاهر الفخفخة وزينة البلاط العجمي كأنَّ هذه كلها صور ودمى قد كسيت ملابس أو زيِّنت بأوراق ذات ألوان متنوعة زاهية، وعادت واقعيَّة نفاذة إلى الحقيقة، مدركة للواقع، فكانت لا تحسب حساباً للمظاهر الجوفاء والأشكال الفارغة، والأبهة الكاذبة، ولا تحيد قيد شعرة عن مبادئها ومستواها الخلقي الأعلى، وكانت ترى نفسها مكلفة بإخراج عباد الله من عبادة العباد إلى عبادة الله سبحانه، وتحطيم ألوهية البشر للبشر في الأرض) (1).

وقد تقلبت حياتهم ظهراً لبطن، بهذا التحول في نفسيتهم وعقليتهم الذي أحدثه الإيمان بالله الواحد القهار، وإفراد العبادة والعبودية له، فتحولت الرذيلة فضيلة، وتحول الإنسان الضاري ملَكاً في صفاته السامية، وقاطع الطريق حارساً أمیناً محافظاً على أعراض إخوانه وأموالهم ونفوسهم. والذين كانوا يفجرون أنهار الدماء على شيء تافه، على سقي الماشية مقدماً أو مؤخراً، أصبحوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ويفضلون الموت عطشاً لسقي إخوانهم، والذين كانوا يئدون بناتهم بأيديهم عادوا يحتضنون بنات الآخرين ويكفلونهن على الفقر وقلة ذات اليد، والذين كانوا يرون أموال غيرهم أموالهم.. صاروا يرون في أموالهم حقاً للآخرين، والذين كانوا يهجمون على الأعراض وينهبون أموال الناس نهاراً وجهاراً، عادوا يدفعون في الليلة الحالكة تاج الامبراطور الإيراني الذهبي الذي كان يقوَّم بالملايين إلى أميرهم مستوراً في ثيابهم.

وقد وضع الإقبال على الله سبحانه والآخرة من شدة التهالك على الدنيا ونعيمها، تلك التي قد ضيَّقت الأرض على البشر بما رحبت، وحوَّلت الدنيا إلى سوق ومتجر... وكذلك روح التنافس الطبيعية - التي كانت تشعل بإتجاهها المستقيم المواهب الإنسانية وتوقظ الطاقات الكامنة في الإنسان، والتي كانت قد حوَّلت الحياة بإتجاهها الخاطئ مضمار صراع لا ينتهي - أيقظت في الإنسان بإتجاهها إلى الدين، الأريحية، والمزايا الإنسانية النبيلة الزكية وزكَّت السيرة، وهذَّبت الأخلاق، وطهَّرت السلوك والعادات، فلم تزل روح التنافس تفعل فعلها القوي في الطبقات الإنسانية المختلفة وفيها بين أفرادها المختلفين، ولكن كان ذلك فيما يتصل بالصلاح والخير، والحصول على الأجر والثواب، والطمع في رضا الله ومغفرته..

شكا الفقراء من الصحابة رضي الله عنهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الأغنياء قد سبقوهم في الفوز بالثواب، فیصلون كما يصلون، ويصومون كما يصومون الخ... ولكنهم يفوقونهم في الصدقة والزكاة، وإنفاق المال في وجوه الخير، فدلَّهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ذكر يمارسونه ويساوون به الأغنياء بل يسبقونهم، وما أن سمع الأغنياء هذا الذكر حتى جعلوا يمارسونه، فشكا الفقراء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تخلفهم وسبق الأغنياء في الأجر والثواب فسلاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، يصلّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من الأموال، يحجون ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون، فقال: ألا أعلمكم شيئاً تدر كون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين (متفق عليه)، وزاد مسلم في روايته: (فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).

حوَّلت روح القناعة والعفاف الدنيا كلها جنة ونعيما، يتمثل فيها معنی ﴿لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 62]، وتألَّفت القلوب - من أجل تجرد النفس البشريَّة من الطمع في المال والمنافسة في الحصول على أسباب الدنيا وحطامها الحقير - وتخالطت وتصافت إلى حد تمثل قوله تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ﴾ [الأعراف: 43] - الذي جاء في وصف أهل الجنة - في هذه الدنيا، وحلَّ الشعور بالمسئولية محل المطالبة بالحقوق، وعاطفة الإيثار محل الطمع والشره، حتى رأئ الناس بأمِّ أعينهم مظاهر ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9]، ورأت السماء في حيرة وإعجاب كيف نوَّم المضيف الكريم أطفاله يعضهم الجوع، وأقنع الضيف - باطفاء السراج بحيلة - بأنَّه يشاركه الأكل فنهض الضيف وقد شبع وارتوى، وبات المضيف مع أهله وأولاده جائعاً يطوي الأمعاء (2)

وهذا التحول، والصلاح، والانقلاب العجيب – في كل معاني الكلمة - كان وليد الإيمان بالله تعالى الذي لا إله إلا هو، وتفويض النفس إليه، وإلى تربية النبي المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم، فتوطَّدت عُرى حياتهم، ونال كل شيء محله اللائق، ورجع كل أمر إلى نصابه.

ولكن زهد العالم المسيحي في هذه الرسالة - نعم قد خضع لها شطره الشرقي بعد قليل، ودان للنبي الذي جاء بهذه الرسالة والذين اتبعوه وخلَّفوه، ولكن شطره الغربي والشمالي (أوربا) ظل محروماً من نشاطات الدعاة والمجاهدين، عاش مدة تسعة قرون.. متتابعة في ظلام حالك، وجهالة مطبقة، وقد دعاها بنفسه (القرون المظلمة) وسيبقى هذا العهد الطويل العريض - الذي عاشته أوربا في وحشية سوداء وجهالة عمياء، وفي محاربة العقل والمنطق، والشذوذ عن الفطرة، والخضوع للأوهام والأحلام، وتحت إشراف رهبانية قاسية ضارية، ومراقبة من رجال الكنيسة عنيفة متطرفة، ومؤاخذة جائرة - حسرة في قلب أوربا، وغصَّة في حلقها إلى يوم القيامة، وسيبقى وصمة عار في جبينها، ويتندى لها جبينها وینتكس منها رأسها، وكان كل ذلك نتيجة عبادة العباد للعباد ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ [التوبة: 31].

(1) ليرجع إلى قمة ربعي بن عامر رضي الله عنه وحديثه مع رستم القائد العام للقوات الإيرانية ورجل المملكة الثاني، وحديت المغيرة بن شعبة رضي الله عنه معه في. البداية والنهاية ج/۷/ ص 40. وفي (تاريخ الطبري) ج 3 ص / 522.

(2) اقرأ قصة أبي طلحة الأنصاري في كتب الحديث. وتفسير قوله تعالى، ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر: 9].

يتبع...

الحلقة الثالثة هـــنا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400 هـ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين