رسالة سيرة النبي الأمين إلى إنسان القرن العشرين (3)

وكذلك بقي الغرب محروماً من الإيمان بالرسالة والنبوة، وقد آمن بالمسيح عليه السلام ابناً لله، ولكنَّه لم يؤمن به - في الواقع العملي - رسول مطاعاً، وهادياً في الحياة وقائداً لسفينة النجاة، كان الأمر الأول شيئاً اعتقادیاً نظرياً، لا يؤثر على الحياة، ولا يغير في الأعمال والأخلاق، والسلوك والعادات، أما الأمر الثاني - وهو الإيمان به كهاد في الحياة، وداع إلى الفلاح والنجاة، والاستضاءة بسيرته وحياته في ظلمات الحياة، واعتباره نموذجاً كاملاً للسلوك الأمثل - فكان شيئاً يغير مجرى الحياة، لكن الغرب لم يصنع ذلك، ولم يكن له ذلك سهلاً میسوراً، فلم يكن يعرف إلا أحوال خمسين (50) يوماً من حياة المسيح عليه السلام، وهي نبذات متبعثرة لا تُعطي صورة واضحة للنبي المبعوث من الله تعالى، فلا يمكن الإنسان من الإقتداء، ولا تيسر له الائتساء، يقول القس الفاضل الدكتور شارلس اندرسن اسكات في مقال له في دائرة المعارف البريطانية، الطبعة الرابعة عشرة ج/13، ص/1710:

(ينبغي أن يتنازل الإنسان عن محاولة وضع كتاب في سيرة المسيح بكل صراحة فإنه لا وجود للمادة والمعلومات التي تساعد على تحقيق هذا الغرض، والأيام التي توجد عنها بعض المعلومات لا يزيد عددها على خمسين يوماً).

وعلى ذلك فلو أراد الغرب أن يهتدي هدي المسيح عليه السلام، وأن يجعل أقواله وأفعاله وتعاليمه وإرشاداته، منارة نور في طريق الحياة لواجهتهم صعوبات عملية، ولم يكن عند قادة المسيحية رصيد موثوق به من التراث الديني يستندون إليه في قيادة أمة بأسرها، وتوجيهها، ولا كانوا يحملون من الألمعية والفراسة الدينية، والحكمة الربانية ما يستطيعون به أن يحصروا الأمم الأوروبية الفتيّة المتوثبة في نطاق الدين مع التقدم الدنيوي، والرقي المادّي، فكانت نتيجة ذلك أن الأمم المسيحية تحررت - في حياتها العملية - من قيادة المسيح عليه السلام ومراقبة الكنيسة، وحطَّمت كل الحدود والقيود التي كانت تمنعها من الانطلاق بحرية، وبدأت تعيش الحياة كأنها ليست من أمة نبي... وذلك لأنه لم تؤثر تعاليم المسيح عليه السلام الساذجة في عقولها وقلوبها تأثيراً قوياً عميقاً، ولم تتفاعل هي الأخرى معها تفاعلاً مطلوباً، ولم تحظ بالتربية الخلقيّة، والتزكية العقلية والنفسية، التي يتلقّاها أتباع الأنبياء والرسل، فنشأ من ذلك أنها وفرت الوسائل أشكالاً وألواناً، ولكنها بقيت مجردة عن عاطفة الصلاح، ونزعة الخير والرشد، لأنها لا تتأتى إلاّ عن طريق تعاليم الأنبياء وتربيتهم وإصلاحهم، ولا تولدها العلوم والاختراعات والاكتشافات، فعادت هذه الوسائل والآلات البريئة - التي كان لها أن تكون طريقاً إلى سعادة البشرية بنية الخير وحسن استخدامها - وبالاً على النوع البشري، وطريقة إلى العلو والاستكبار، والعبث والإفساد، والتدمير والهدم، لأن الذين يستخدمونها لا عهد لهم بالتوجيه الرباني القرآني الحكيم: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص: 83].

وهذا الاستغناء عن الله، والإعراض عن تعاليم الأنبياء، ورفض الآخرة، كل ذلك أدَّى إلى أن الغرب بينها هو منور مستضيء حتى أصبح ليله نهاراً، إذا هو مظلم حالك حتى أن نهاره ليل، ويقع في عهد الرقي والنور كل ما كان من خصائص عهد الوحشية والبربرية، وكان كما قال الشاعر الإسلامي الكبير المرحوم أكبر حسين الإله آبادي في بيته الأردي: (سيسجل القلم (قلم المؤرخ) بكل أسف ودهشة أن (الظلمات) كانت سائدة في (ضوء الكهرباء).

وهذا الوضع المزري هو الذي اضطر وزير بريطانيا الأسبق المستر لويد جورج أن يقول لدى وضع الحرب العالمية أوزارها: (لو بعث المسيح عليه السلام في هذه الدنيا مرة ثانية، لما استطاع أن يعيش مدة طويلة، لأنه سيلاحظ أن الإنسان لا يزال - بعد ألفي عام - على حاله من الفتنة والفساد، والقتل والنهب، وإراقة الدماء والاغارة، أما اليوم فإن جسم الإنسانية لا يزال يتقطر دماً بعضة أكبر حروب التاريخ، وخربت الأرض حتى عمَّت المجاعة، وما عسى أن يراه سيدنا المسيح عليه السلام؟، هل يرى أن الإنسان يصافح بعضه بعضاً بدافع من الاخوة والمساواة، أو يرى - عكس ذلك - عكوفاً على إعداد واستعداد لحرب أكثر ضراوة وقساوة ودماراً من هذه الحرب العالمية، وإقبالاً على اختراع آلات أكثر تدميراً وهدماً وإبادة، والتفكير في أحدث أساليب التعذيب(۱).

إن العالم المتحضر - فيها قبل 13 قرناً ونصف قرن - الذي كان يقوده امبراطوريتا رومة وفارس كان يضاهي العالم الجديد الذي نعيش فيه إلى أبعد مدى، فقد كان الإنسان في ذلك العالم نسي ربه، فنسي نفسه بالتالي، ولم يكن الاعتقاد بالله تعالى، إلا نظرية تاريخية، فكان الناس يؤمنون على النمط التاريخي وحده، أن هذا العالم قد خلقه الله في زمن من الأزمان ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان: 25] ولكن هذا الاعتقاد لم يكن يتدخل في الحياة العملية، وكانوا يعيشون الحياة كأن الله تعالى ليس له وجود - نعوذ بالله من ذلك - أو هو موجود لكنه يعيش في عزلة، قد تنازل للآخرين عن سلطته وحكمه.

(1) نقلاً من جريدة (سج) الأردية لصاحبها المرحوم الأستاذ الكبير عبد الماجد الدريابادي.

يتبع...

الحلقة الثانية هـــنا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400 هـ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين