رسالة سيرة النبي الأمين إلى إنسان القرن العشرين (2)

وقد ظهر - ولا يزال - في الغرب جميع ما هو نتيجة منطقية لهذا التناسي للذات ولهذا الأسلوب من الحياة، وأولى هذه النتائج الوخيمة بأن الإنسان الغربي تنكر للإله الأحد الصمد، وعاد يتضرع إلى مئات الإلهة، قد رفع جبهته من عتبة واحدة - كان فيها له غني عن كل العتبات – وبدأ يطرح على كل عتبة، وتلك هي عاقبة محتومة لكل من تنكر للإله الواحد الأحد، الفرد الصمد، وهؤلاء الأرباب من دون الله (قد تسلطوا على الغرب في عدد لا يحصيه إلا الله، وغلبوا على الغرب أمره، فلا يجد من دونهم موئلاً، وهذه الأصنام أشكال وألوان، تتمثل حيناً في الزعيم السياسي، وحيناً آخر في إله الاقتصاد، وفي مكان هي التزامات وقيود، ومستوى الحياة التي افترضها الإنسان، وتبناها، وفي مكان آخر واجبات وضروريات، التزمها الإنسان بنفسه، وهذه الأصنام مجموعها قد ضيَّقت الخناق على عبادها، وأرغمتهم على عبادة، تجعل عبادة الله تعالى مقابلها أيسر وأحلى منها آلاف المرات، وتعاملهم معاملة شاقة قاسية، دونها معاملة الإنسان مع العجماوات والآلات الصماء، وتضطَّرهم إلى تضحيات هائلة ما قام بها أحد من قبل لصنم أو إله، وهناك صراع مرير بين أغراض هؤلاء الأرباب من دون الله، ومطامعهم وأهوائهم، جعل العالم يقوم ويقعد. ومن بين هؤلاء الأصنام الكثيرة المتنوعة صنم (الوطنية) الذي يتطلب لنفسه قرابين النفوس البشرية والدماء الإنسانية، ومن بينها صنم (المعدة) الذي عكف على عبادته إنسان القرن العشرين، ولا يبرحها، ولا يحول عنها، لكنه لا يكاد يرضى عنه بأي كمية من التضحية والعبادة، وقد أجاد (المستر آلیورلاج) حيث قال قبل مدة في محاضرته:

(أصبحت بساطة الحياة حلماً من الأحلام، ولا يهم أحداً غرض كريم، وفكرة سامية وأصبح كل من الناس يدور حول مصنعه أو مكتبه ليل نهار كثور الطاحون، ويخدمه خدمة العبيد، وأدَّى اختراع المراكب السريعة إلى أن أصبح إنسان القرن العشرين دوامة لا هدوء لها ولا قراره).

وأدَّى تقصير الإنسان في جنب الله تعالى إلى أنَّه وقع فريسة التناسي للذات، وقد صرَّح القرآن الكريم أن ذلك عاقبة محتومة لمن نسي الله، وطوى عنه كشحاً:

﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر: 19].

حقاً إن إنسان القرن العشرين هو نموذج كامل للتناسي للذات قد نسي حقيقته وخصائصه الإنسانية، وغرضه من هذه الحياة، ومقصده من وجوده، وعاد يعيش عيشة البهائم والجمادات، وصار ماكينة تصوغ الدولارات التي لا تستطيع هي أن تنتفع بها في قليل أو كثير، وبلغ إلى حد أن الراحة البدنية، والطمأنينة القلبية التي قد تكون بعض قيمة هذه الجهود والجهاد، أصبح لا ينالها في حياته، ولا يفكر فيها ولا ينتبه إليها، وقد صدق البروفيسور (جود) حينما قال:

(يقول (دزرائيلي) أن المجتمع في عصره يعتقد أن الحضارة هي الراحة أما نحن فنعتقد أن الحضارة عبارة عن السرعة، فالسرعة هي إله الشباب العصري، وأنَّه يضحي على نصبه بالهدوء والراحة والسلام والعطف على الآخرين من غير رحمة).

وقد تغيَّرت وظيفة هذا الإنسان بفعل التناسي للذات، وبحكم إهماله لحقيقته وحقيقة نفسه، فتقدم أشواطاً بعيدة في مجال الرقي في غير دائرته الطبيعية، ولم يخط خطوة في دائرته الإنسانية، ولا تزال خصائصه وأخلاقه وصفاته الإنسانية في انحطاط، واذا رحت تحلل الرقي الذي أحرزه الإنسان العصري، فلن تجد إلا أنَّه عبارة عن بعض فضائل السباع الضواري، والطيور، والأسماك، وقد اعترف الكتاب الأوربيون بهذه الحقائق، وقد جاء الكثير من شهاداتهم واعترافاتهم في كتابنا (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين).

وكيف يرجى من الغرب أن يتضرَّع إلى الله سبحانه، ويلجأ إلى كنفه، ويطّرح على عتبته وقد بلغ إلى هذا الحد من التناسي للذات، أنَّه مصداق صحيح لما قاله الفيلسوف والشاعر الاسلامي الدكتور محمد إقبال في بيته الفارسي: (إذا نسيت ذاتك وتنكرت لنفسك، فلماذا تبحث عن محب لك، عارف بك؟ اذا لم تتعرف على الإنسان وحقيقته، فأني لك أن تتوصل إلى الله خالق الإنسان وفاطر الكون؟).

أما نسيان الغرب للآخرة، فأولى نتائجه الطبيعية أنَّه فتن بالمادية، وأمعن إلى الحياة الدنيا، وأخلد إليها، ونشأ في قلبه الحرص المجنون الجامح على التمتع بلذائذ الحياة، وأصبح كل ذلك غاية عليا، ومقصداً أسمى، وهدفاً أسنى في حياته، فتتسامع اليوم من كل جوانب الغرب نداءً قوياً عالياً إلى الحصول على الخبز ولقمة العيش، والاهتمام بالمعدة، والتلذذ بالحياة الدنيا والولوع بمظاهرها الجوفاء والتمسك بأسبابها، والحصول على وسائلها، ولا يصرف فرصة حياته إلا في التنافس في إحراز قصب السبق في هذا المجال، وقد جعلت هذه المسابقة والتنافس، الحياة في الغرب مضمار الرهان الذي لا نهاية له، فهم في سكرة من الحياة الدنيا، لديهم منها عليل لا يشفى، وغليل لا يروى، وكل يتطلع إلى الجديد المزيد، ويردِّد هل من مزيد) وتتجدد كل يوم ضروريات الحياة وتتنوع وتتكاثر وسائل إشباع متطلبات الحياة وتتكثف، وقد ولد كل ذلك مشكلات مستعصية، وقضايا معقدة، وقد أمدها وزاد في حدتها وشدتها، التنافس التجاري، ولا يزال مستوى الحياة يترفع مع الأيام، وكل يرى الغاية بعيدة، والمسافة شاسعة، فأصبحت الحياة قلقة متبلبلة، فقدت هدوءها وطمأنينتها من أجل انصراف الهمَّة كلياً إلى اتخاذ الوسائل للحصول على هذه الأمور، وأضحى الإنسان الأوربي في عذاب من الحرص والطمع والجشع لا ينتهي، ورهينا للجهد والسعي للحياة الدنيا الذي لا يكاد يقف عند حد، وأصبح الصبر والقناعة - اللذان هما إكسير يضفي على القلب طمأنينة وسكينة - كالعنقاء التي يسمع عنها الإنسان ولا يراها.

هذا الحرص على التمتع بالحياة الدنيا - الذي نراه نحن المسلمين جنوناً وهوساً - هو كل السعادة والنجاح، و تمام الحظ لدى المنكرين للآخرة، وذلك أمر طبیعي، لأنَّ الذي أنكر الآخرة، وأخلد إلى هواه، واطمأن إلى الحياة الدنيا، ما الذي يمنعه من التمتع بها، والفوز بأكبر حظٍّ من اللذة، واشباع كل نهمة، وتلبية كل حاجته، ولماذا يقصر فيما يمكنه من التنعم والتمتع والمرح والطرب، ومن أن يشهد اللذات ويبادرها بما ملكته يداه:

﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾ [محمد: 12] ، ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الحجر: 3].

والنتيجة الثانية المشؤومة التي تترتب على إنكار الآخرة، هي: أن هذه الحياة الدنيا ومطامعها، وأمتعتها وزخارفها، والوسائل التي تسعف الإنسان فيه، تتزين في القلوب، وتتجمل في الأعين، وتتحسن لدى العقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾ [النمل: 4].

﴿ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعۡيُهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ يُحۡسِنُونَ صُنۡعًا * أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِ‍َٔايَٰتِ رَبِّهِمۡ وَلِقَآئِهِۦ فَحَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فَلَا نُقِيمُ لَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَزۡنٗا﴾[الكهف:104-105].

ومن نتيجة ذلك، أن الحياة أصبحت تتميَّز باللهو واللعب، وبدأت تفقد عناصر الجد والحقيقة، وعادت تشغلها وسائل اللهو والطرب والتسلية والسرور، ولا يغير في وضعهم هذا تغييراً ما، أخطر الساعات العصيبة، ولا يجد من غلوائهم أدهى الأوقات وأمرها: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ [الأنعام: 70].

ومن نتيجته، أنَّهم لا يعللون الحوادث والوقائع إلا بالعلل المادية الظاهرة المحسوسة المشهودة، ولا يتوصلون إلى الأسباب الحقيقية، ولا يدركون حقيقة الأمر، ولا يمسون صميم الواقع، فلا يقع خلل في إمعانهم في وسائل التنعم والتسلية واللهو، في أدقِّ الساعات وأحرجها، ويعللون الحوادث بما يشاؤون، ويسترسلون إلى العلل الجوفاء التي يفترضونها، ولا يقع تغير ما في موقفهم وأسلوب حياتهم: ﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰٓ أُمَمٖ مِّن قَبۡلِكَ فَأَخَذۡنَٰهُم بِٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمۡ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوۡلَآ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَٰكِن قَسَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾[الأنعام:42-43].

ومن خصائص إنكار الآخرة وجزائها، العلو والاستكبار، فمنكر الآخرة لا يمنعه شيء من الأنانية والتكبر والخيلاء، لأنَّ الذي لا يؤمن بقوة فوق قوته وبحياة بعد هذه الحياة، وبيوم يحاسب فيه العبد على كل صغيرة وكبيرة أتاها في الحياة الدنيا، لا يحول بينه وبين أن يكون فرساً جامحاً حبله على غاربه، وإنساناً سادراً في غلوائه، يصنع ما يشاء، ويسير على الأهواء وير كب العمياء، ومن ثَمَّ قد شفع القرآن الكريم في أكثر مواضعه ذكر إنكار الآخرة بذكر التكبر، فكأنها يلزم أحدهما الآخر:

﴿فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾ [النحل: 22].

وجاء في معرض الحديث عن فرعون وجنوده: ﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ﴾ [القصص: 39].

ومثل هذه الأمة، المنكرة للآخرة، المؤمنة بالماديَّة، يكون بطشها شديداً وضربها موجعاً أليماً، وفتحها إذلالاً للعباد، وتدميراً وإفساداً للبلاد: ﴿وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ﴾ [الشعراء: 130] ، ﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [النمل: 34].

يتبع...

الحلقة الأولى هـــنا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400 هـ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين