رسالة سيرة النبي الأمين إلى إنسان القرن العشرين (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

كلما قرعت آذاننا كلمة (الجاهلية) تمثلَّ أمامنا عفواً عهد القرن السادس المسيحي المظلم، الذي بُعث فيه النبي الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وظهرت أولى معجزات تعاليمه وتربيته وتوجيهه.. فما أن نسمع كلمة (الجاهلية)، إلا وتتمثل أمام أعيننا الأمة العربية بخصائصها ومزاياها، وملامحها وقسماتها الجاهلية، تلك التي صوَّرها كتابنا في موضوع السيرة.

لكن (الجاهلية) لا تختص بذلك العهد، فكل عهد يعتبر عهد الجاهلية لدى الإسلام اذا حرم هداية الوحي الإلهي ونور النبوة، وتغاضى عن تعاليم الأنبياء وتنكَّر لها بعد أن تبين له الهدى، أو لم يحظ به بتاتاً، ولا فرق في ذلك بين جاهلية القرن السادس المسيحي العالمية، أو القرون الوسطى في تاريخ أوربا، التي تعرف في الأغلب بالقرون المظلمة (العصور المظلمة) أو عهد الحضارة والرقي الزاهر في القرن العشرين الذي نجتازه.

يصرح القرآن الكريم أن النور فرد، ومشكاته واحدة، ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [النور: 35] والظلمات لا حدَّ لها ولا نهاية، ولو لم يتجلَّ النور الإلهي (الذي يأتي عن طريق الأنبياء والرسل وحدهم) لخيَّم على العالم من الظلمات المتراكمة ما لا يحصى ولا يقاس، ولأظلمت كل مرحلة من مراحل الحياة، وعمَّت الظلمة وطمت، وتراكمت وتكاثفت.

﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ [النور: 40].

وكلما يذكر القرآن الكريم النور والظلمة متقارنين، يذكر النور فرداً والظلمة جمعاً، مما يدل على أن الظلمة أنواع وأشكال، وأما النور فهو واحد، ولو لم يسطع هذا النور الإلهي لما استطاع نور صناعي أن يشق هذه الظلمات الحالكة المطبقة، ولكان العالم البشري كمقبرة مظلمة مترامية الأطراف، ليس فيها منفذ من نور، ولم يكن ليستضيء مها أوقد الموقدون (شموعاً صناعية) ذات أضواء قوية قاهرة، ساطعة باهرة)

﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ [الأنعام: 122].

يبدو وكأن أرض الغرب - التي لا تطلع منها الشمس وإنما تغرب فيها - قلَّما حظيت بنور النبوة، وحاول أهلها أن يستعيضوا عنه النور البشري الصناعي.. إنَّ عهد اليونان والروم الذهبي لهو العهد الزاهر الرائع جداً في التاريخ البشري، بالنسبة إلى ازدهار العلوم والفنون البشرية، لكنه أحلك العهود - كأحلك العهود الجاهلية - بالنسبة إلى تعاليم الأنبياء، وقد خبطوا خبط عشواء فيما يتعلق بذات الله تعالى وصفاته، وكان عمادهم في ذلك الظن والتخمين، والحرص والترجيم دون استناد إلى توجيه سديد، وإشراقة مستقيمة، ﴿مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إلا يَخْرُصُونَ﴾ [الزخرف: 20] ، ولا تقل فلسفتهم وإلهياتهم التي دونها حكاؤهم وفلاسفتهم طرافة وخرافة، من أساطير الشرق وألاعيبها وأعاجيبها، وقد تلمع في أقوال سقراط وأفلاطون - دون أرسطو - وتعليمات فلاسفة الأخلاق أثارة من تعاليم الأنبياء لمعان اليراعة في الليلة المطيرة الشاتية، مما يدل على أن تعاليم الأنبياء قد طرقت آذانهم في حين من الأحيان، لكن هذا النور لم يكن من السطوع والثبات بحيث يمكِّنهم أن يعولوا عليه في دياجير الحياة ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ [البقرة: 20].

ومما يبعث العجب أن مصباح الهداية الذي أوقده سیدنا المسيح عليه السلام ظلَّ يسطع وينير في الشرق طوال مدة قرنين، رغم العواصف الهوجاء، لكنه خبا في الغرب في حضانة المعنيين به والحارسين عليه، فقد فقدت تعاليم المسيح عليه السلام أصالتها في الغرب، حيث حظيت المسيحية لأول مرة بالحكم والسيادة، وانصب تيار الوثنية والشرك في نهر المسيحية، وربما لم تشق ديانة في العالم البشري بمتبعيها الجدد، كما شقيت المسيحية بإمبراطور قسطنطين، و (بولس القديس) ، (القديس بولس) وبعد ما أنطفأ هذا المصباح الإلهامي الإلهي، بقي رجال الكنيسة يخدعون العالم المسيحي الغر المفتون بحسن الظن، بمصابيح صناعية من عند أنفسهم، وحاولوا أن يؤكدوا للناس أنهم لا يزالون يحتفظون بالنور الكريم الوهَّاج الذي جاء به المسيح عليه السلام من عند ربه، والواقع أنه كان قد توارى في الظلمات المتراكمة المترامية منذ القرون، وابتلعته الوثنية الرومية المتطرفة:

﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [البقرة: 17].

وعلى الرغم من ذلك كله يجب الاعتراف بأن الغرب ظل يسعد بالاعتقاد بالإله، والإيمان بالآخرة، بفضل المسيحية، وذلك لأن الدين السماوي مها تغير وتبدَّل، فإنه يجعل الإيمان بالله وبالآخرة يجري في المؤمنين به مجرى الدم، ويتغلغل في أحشائهم، بحيث لا يمكن نزعه من القلوب نزعاً تاماً.. هبَّت في القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر المسيحي في أوربا ريح العقلانيَّة بل الماديَّة العاتية، التي وضعت الغرب على طريق الماديَّة الجامحة في صورة جوفاء، وعلى طريقة عمياء، ودَرَج عليه الغرب وقطع أشواطاً بعيدة، فعاد أسلوبه للحياة والتفكير لا يقبل الإله والآخرة. إن الغرب كله لم يعلن كفره بالإله أو رفضه العقيدة الآخرة نهاراً وجهاراً، لكن أسلوب حياته الذي يعيشه لا ينم عن الإيمان بالإله والآخرة، ويصح اليوم أن نقول: إنَّ أوربا لا تدين بالمسيحية وإنما تدين بالماديَّة، وقد ظلت الوثنية ديانة أوربا قروناً، وتدَّعي الآن منذ مدة طويلة أنها تدين بالمسيحية، لكنها لم تخلص لها، ولم تحرص عليها، ولم تبذل لها حبها وودها كما صنعت هذه الديانة (المادية) وكنائس هذه (الديانة) الجديدة ومعابدها - المصانع ومراكز الصناعة والتجارة، والمتنزَّهات - غنية ليل نهار، آهلة في كل حين وآن، ورجال هذه الديانة - هم أصحاب رؤوس الأموال، والمليونيرون - ينظر إليهم نظرة الإجلال والإكبار، بل يقدِّسون ويعبدون، وبالعكس من ذلك أصبحت المسيحية في الغرب ظلاً شاحباً.

يتبع...

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400 هـ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين