تجربة مع الموت : وصايا وعبر ( 3 )

الغنى بالله عز وجل
كتبت هذا المنشور قبل ظهر اليوم السبت حين كنت لا زلتُ في مشفى كلس 5/12/ 2020 .
1 – عجز اللغة أمام المشاعر :
هذا المنشور قد يكون من أصعب المنشورات التي سأكتُبها، لأنه يعبر عن مشاعر دفينة انتابتني أثناء لحظاتي الصعبة في الخوف الموت، واللغة عاجزة جداً عن وصف ما أريد البوح به، بل أجد اللغة قد تُشوِّه وتسيء إلى المعاني التي أريد إيصالها للقارئ الكريم، ولكن لا بد من المحاولة، واللبيب من الإشارة يفهم، لقد حاول بعض العارفين أن يوصل مشاعره الجياشة مع الله عز وجل للناس، لكي يستفيدوا منها فلم يستطع، وعجزت اللغة عن ذلك، بل أدى ذلك إلى اتهام العارفين بالضلال والزيغ . ولذلك تخوَّفَ الإمام الغزالي رحمه تعالى من اللغة، وتردد في التعبير عن تجربته الوجودية حتى لا تُفهم خطأ، وقرَّر أن يكتفي بالتصريح بما ينفع الناس ولا يختلفون حوله، ومع ذلك لم يسلم من ألسنة الناس وانتقاداتهم.
يمر الإنسان في مثل هذه اللحظات بمشاعر متتابعة متناسخة ينسخ بعضها بعضا، وبشكل هائل السرعة، يصبح الإنسان عبارة عن كتلة من الخواطر والمشاعر، جيوشٌ تتصارع في داخله، ويحاول كلٌّ منها أن يتغلب على الآخر، والموفَّق من يوفقه الله عز وجل لكي يحطَّ رحاله في أعتاب الله عز وجل، ويلقي أعباءه بين يديه، ويرتمي بين يديه لا يرتضي به بدلا.
2- الاستسلام المطلق لله عز وجل :
إن أهم شعور بدأ يسيطر عليَّ بفضل الله عز وجل هو شعور الرضا بالله، والطمأنينة بالله، والغنى بالله عز وجل، لم أعد أشعر بأحد لا ببشر، ولا بدنيا، ولا بألم، ولا بخوف، سيطر عليَّ تماما حديث النبي ﷺ : (( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله عز وجل لك، وأن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عز وجل عليك ، رُفعت الأقلامُ وجفَّت الصحف )) (1) .
هذا الشعور بفضل الله عز وجل جعلني أشعر أن كل من حولي هم أدوات، وأن الأمر محسوم، فإن كتب الله عز وجل لي النجاة من الموت فلن يضيرني البشر كلهم، ولو اجتمعوا، وإن كان الله عز وجل كتب لي الموت فلن ينفعني أطباء الدنيا وأدويتهم ولو اجتمعوا .
ألا يكفيني بأن شرَّفني الله عز وجل فأصبحت عبداً له، نعم أنا عبد لله، وبين يديه، وفي قبضته، وهذه أعظم نعمة يجهلها الإنسان، فالعبودية لله عز وجل شرفٌ وكرامةٌ ورفعةٌ وعظمةٌ، وقد أصبحتُ أُردِّدُ قول الإمام الشافعي في أعماق نفسي، وأترنم به في وسط الألم والشدة :
وَمِمَّا زادني شرفَاً وتِيْها وَكِدْتُ بأخمصي أَطأُ الثُّرَيَّا=دخولي تحت قولكَ ياعبادي وأَنْ صَيَّرْتَ أحمدَ لي نَبيَّا
شعوري وانفعالي بالعبودية لله عز وجل، والغنى بالله، والرضا بالله والاستكانة إلى الله، والانبطاح في أعتاب الله بلا حول ولا قوة، جعلني قوياً قوةً هائلةً بقدر شعوري بعظمة الله عز وجل، وجبروته، وكبريائه، أعطاني ذلك شعور بالعظمة التي أولاني الله عز وجل إياها، وأكرمني بها، أجل نحن كلما تحققنا بعبوديتنا لله عز وجل كنا أعظم، وكلما تشرَّبنا ذرات هذه العبودية كنا أعز وأقوى.... وهنا أتذكر كلمة ذلك العارف الذي قال: (( سبحاني ما أعظم شأني )) (2) .
3 – الاستمداد من صفات الله عز وجل :
قبل أن أعبر عما يقصده هذا الرجل نقول: إن كلامه مرفوض، وهو قال ذلك في حالة سكر وغيبة ووجد مع الله عز وجل، لكن بما أن كلامه يُفهم خطأ فنحن نرفضه والإمام الغزالي قال عن مثله: وكلام العشاق في حال السكر يُطوَى ولا يحكى (3) .
أليس الله عز وجل عظيما عظمة لا حدود لها ؟ ونحن كلما كنا عبيداً حقيقيين له نَستمدُّ عظمتنا منه عز وجل ؟ فقس إذن أيها المؤمن أيها العبد نسبة عظمتك( الدنيوية ) بعظمة الله جل وعلا. أليس الله عز وجل عزيزأ عزة لا حدود لها ؟ ونحن كعبيد لله عز وجل نستمد عزتنا منه سبحانه وتعالى ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [ المنافقون: 8 ] فقس أيها المؤمن أيها العبد المؤمن نسبة عزتك ( الدنيوية) على نسبة عزة الله اللامحدودة ... كم تكون إذن عزيزاً وعظيماً وغنياً وقوياً؟! وهكذا إلى كل الصفات التي نستمدها من الله عز وجل حين نكون عبيداً حقيقيين له .
لكن تجربتي أن هذا الكلام الذي تكلم به الرجل في حالة من الوجد والحضور مع الله عز وجل، والخشوع والاستسلام يعبر عن عميق العبودية لله عز وجل فهو يقول: ما أعظم عبوديتي لله عز وجل، كم هي رائعة العبودية، كم تجعلني عظيماً بين البشر، كم تجعلني قويا بين البشر الضعفاء، كم تجعلني كاملا بين البشر الناقصين، كم تجعلني غنياً بين البشر الفقراء ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾[فاطر: 15 ] إن عبودية الإنسان لله عز وجل كمالٌ على المستوى البشري والأرضي والدنيوي، ومن هنا جاء قوله سبحاني، فهو يُمجِّدُ عبوديتَه لله عز وجل، ويعتزُّ بها، ويفتخر بها، إنه تعبير مطلق عن الغنى بالله، والقوة بالله، والرضا بالله، والاعتزاز بالله جل وعلا .
يكفي أن يفكر الإنسان قليلا في قوله تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [ سورة الملك: 1 -2 ] . هذه الآية التي يقرؤها الكثيرون منا ربما كل يوم، فالله عز وجل مالك الملك والملكوت، وبيده العظمة والجبروت، وبيده مقاليد السماوات والأرض، وبيده الموت والحياة، وبيده النفع والضر، وبيده الدواء والمرض، والشفاء، فما بالنا نلتفت إلى غيره، ونطلب من غيره، ونلجأ إلى غيره، وهو ( بيده الملك ) ( وبيده الخير ) ( إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون ) فمن غفلتنا وجهلنا نلجأ إلى سوى الله عز وجل .
تخيلوا عبداً لملك من أعظم ملوك الدنيا، هذا العبد هو المـَدخل لهذا الملك، فما يقوله للملك ينفذه الملك، وهو الذي يُدبِّر للناس أمورَهم ويخدمهم، ويقضي شؤونهم وحوائجهم وووو كل شيء،كيف ستكون نظرة الناس إليه ؟ سيكون شخصا عظيماً كبيراً عزيزا ًيتسابق الناس إلى طلب رضاه، والتقرب منه، والتزلُّف إليه، لكن هو في النهاية عبدٌ لملك دنيوي يمكن أن يزول في أي لحظة، فما بالكم بعبد العظيم، عبد الجبار، عبد الحي القيوم، قيوم السماوات والأرض، جبار السماوات والأرض ؟! اللهم اجعلني عبداً حقيقياً لك، فإن كنتُ كذلك سأكون سيَّداً مسوَّداً في الكون .
وهذا معنى قول الله عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾ [ الإسراء: 70 ] هذا هو معنى التكريم الإلهي، و التفضيل الإلهي للإنسان، وكلما اقترب الإنسان من ربه كلما كان عظيماً في الدنيا، عظيماً في عبوديته، وهذا هو معنى الخلافة ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [ البقرة: 30 ] خليفة لمن ؟ تخيلوا ذلك جيدا بعمق قلوبكم، خليفة لله عز وجل، ولو ذهبنا نتأمل في معنى الخلافة، وصلاحيات الخليفة، و معطيات الخليفة، لضاق الحديث ودَقَّ إلى مضائق صعبة، قد يضل التعبير عنها ، وتعجز اللغة عن وصفها.
إنها باختصار: الاستماتة بين يدي الله، و التفويض المطلق له، ﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚإِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [ غافر: 44 ]، الاستكانة في أعتابه، والارتماء في أبوابه، ثم يتحول ذلك إلى: الغنى المطلق بالله عز وجل، والرضا بالله، والاعتزاز بالله والقوة بالله، فيصبح العبد: بالله، وفي الله، ولله .
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين.
5//12/2020 . - مشفى كلس .
الحلقة السابقة هـــنا

(1) سنن الترمذي ت شاكر (4/ 667)2516 .
(2) عبارة تُنسب إلى أبي يزيد البسطامي، يُنظر : مشكاة الأنوار للإمام الغزالي رحمه الله (ص: 57). ويُنظر: قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد، أبو طالب المكي رحمه الله تعالى (2/ 121) .
(3) مشكاة الأنوار ص57 .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين