تجربة مع الموت: وصايا وعبر ( 2 )

تكلمت في مقالي السابق عن حالتي الشعورية وأنا في لحظات ظننت أنها الأخيرة، وأني مقبلٌ فيها على الله عز وجل، وراحلٌ بين لحظة وأخرى عن هذه الحياة الدنيا . 

كان هناك أمرٌ أخذتُ أبحث عنه أثناء تلك اللحظات، ووجدتني قد نسيتُه أبحث عنه في جيوبي، وفي كل مكان حولي، ولم أجده، إنه السواك، كيف نسيت السواك؟ هل سأموت بدون سواك ؟! 

وأخذتْ صورة النبي صلى الله عليه وسلم ترتسم أمامي في لحظاته الأخيرة، وهو يتأمل في أمّنا عائشة رضي الله، وهي تُمسكُ السواك فيشتاقُ إليه صلى الله عليه وسلم، وتقول: وكان يحبه: فَلَيَّنَتْه له رضي الله عنها بريقها، وأَعَطَتْه إياه، فاستاك به صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: الرفيق الأعلى، وعَبَّرَتْ أمّنا عائشة رضي الله عن سعادتها وسرورها عند ذلك بقولها: اجتمع ريقي وريقه صلى الله عليه وسلم عند الموت (1) .

نعم أخذتُ أبحث عن السواك لأودعَ هذه الحياة كما ودَّعَها نبينا وحبيبنا وقرة أعيننا صلى الله عليه وسلم في لحظاته الأخيرة . نحن نظن أن السواك مجرد عود نستاك به للنظافة، وكثيرٌ منا لا يهتم به، ويتساهل فيه، ولا يوليه الأهمية المطلوبة، وننسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( لولا أن أَشقَّ على أُمَّتي لأمرتُهم بالسواك عند كل صلاة )) (2) وقال : (( السواك مَطْهرَةٌ للفم[ نظافة ]، مَرضاةٌ للربِّ[ عبودية (( (3) ، فما سِرُّ هذا الاهتمام العجيب به من قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم في أعز اللحظات، إنها لحظات الوداع النهائي لهذه الحياة؟! . 

لقد تأملت في ذلك فوجدت أن السواك يربط بين قنطرتين هما الدنيا والآخرة، فالإنسان حين يقترب من لحظات الموت تخطر في باله الدنيا بحليتها وجمالها، تخطر زوجته وأولاده ومشاريعه وأولاده وأمواله ومتعه، تخطر له الدنيا بكل زينتها، ويجد في نفسه ألما للفراق، ورغبة في البقاء، ويتمنى لو يبقى، لو يعيش ليُكملَ ما لديه من مشاريع ومن أحلام، كل هذه الذكريات تخطر في شريط سريع يختصر مسيرة حياة طويلة، وربما تكون حافلة، وما أسرع مرور الشريط في هذه اللحظات. 

فكان النبي صلى الله عليه وسلم يُعلمُنا أمرا مهما هنا، أو يُذَكِّرنا بقوله تعالى:﴿ تلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ القصص: 83 ] والنبي صلى الله علَّمَنا كيف نهتم بالحياة الدنيا، حين نكون فيها، وعَلَّمنا كيف نُتقِنُ أعمالنا، سواء الدنيوية منها أم الأخروية، واهتم صلى الله عليه وسلم بصحابته وحياتهم ودنياهم، وعلَّمنا أن نعطي الدنيا حقها ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾، لكن أيها الإنسان: الآن أنت في إقبال على الله، على الآخرة، الآن أنت في مرحلة وداع للدنيا، وإقبال على الآخرة، اضرب بها عرض الحائط، الآن أقبلْ على الله، واترك الدنيا بما فيها، فإنما هي مرحلة مؤقتة كنتَ فيها، هي ليستْ وطَنَكَ، ولا دارَكَ، استعدَّ الآن للقاء الرفيق الأعلى، ومرحلة جديدة من الحياة والوطن ... 

أنت الآن بين مرحلتين: مرحلة أرضية، تحتانية، سفلية، دنيوية، هذه المرحلة تَشُدُّكَ إليها بشهواتها ومتعتها وأحلامها، وبين مرحلة سماوية علوية ربانية، أنت في طور الانتقال إليها فلا تتنازل وتُدنِّس نفسك وروحك، أنت الآن في مرحلة جديدة عظيمة: مرحلة: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [ البقرة: 156 ] في مرحلة: ﴿ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ ﴾ [ العلق: 8 ]، في مرحلة: ﴿ وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ ﴾ [ النجم: 42 ] .

أجل رأيت أن السواك يختصر كل هذه المعاني، فالنبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يقتلع في هذه المرحلة الحاسمة أي حنين أو تعلق لقلوبنا بالدنيا في هذه اللحظات الفاصلة، ويوجه قلوبنا إلى الله (( الرفيق الأعلى.. الرفيق الأعلى )) بأبي أنت وأمي يارسول الله، كأنه يقول لنا صلى الله عليه: دعك مما مضى، تلك حياة انتهت، ومرحلة ولّت، عليك بما هو قادم، تعلق بخالقك بربك، تهيأ للقائه سبحانه وتعالى . 

وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم . والحمد لله رب العالمين .

في مشفى كلس . صباح السبت الساعة السادسة . 5/12/2020

الحلقة الأولى هـــنا

(1) المعجم الكبير للطبراني (23/ 31)78 - عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ أَبَا عَمْرٍو ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ، أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّ مِمَّا أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قُبِضَ فِي بَيْتِي، وَيَوْمِي، وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي» ، وَإِنَّ اللهَ جَمَعَ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ أَخِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَنَا مُسْنِدَةٌ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَدْرِي وَبِيَدِهِ سِوَاكٌ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: آخُذُهُ لَكَ فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ أَنْ: نَعَمْ، فَلَيَّنْتُهُ لَهُ، ثُمَّ نَاوَلْتُهُ، فَأَمَرَّهُ عَلَى ثَغْرِهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ - أَوْ قَالَتْ: - عُلْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِيهَا، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهَا وَجْهَهُ، وَيَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ لَسَكَرَاتٍ» ، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى يَدِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: «فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى» حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

(2) صحيح البخاري (2/ 4)887 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاَةٍ» .

(3) صحيح البخاري (3/ 31) وَقَالَتْ عَائِشَةُ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ» .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين